فلسفة علم النفس الأخلاقي والأخلاق لدى روسو

اقرأ في هذا المقال


“يبدو الأمر كما لو أنّ قلبي وعقلي لا ينتميان إلى نفس الشخص، وتأتي المشاعر أسرع من البرق وتملأ روحي، لكنها لا تجلب لي أي إضاءة حيث يحرقونني ويذهلونني”.

جان جاك روسو من كتابه اعترافات

التاريخ التخميني وعلم النفس الأخلاقي:

كان قد ناقش روسو مرارًا وتكرارًا الفكرة التي تمثل جوهر رؤيته للعالم أي أنّ البشر طيبون بطبيعتهم، لكن المجتمع يدمرها، ولسوء الحظ على الرغم من المركزية المزعومة لهذا الادعاء من الصعب تقديم تفسير واضح ومعقول له، فمنذ البداية كانت هناك مشكلة واضحة حيث بهذا المعنى بما أنّ ما يسمى بمجتمع العمل الفاسد يتكون بالكامل من أناس من العالم الطبيعي فكيف يمكن أن يقف الشر؟ علاوة على ذلك من الصعب معرفة خير والفوائد الطبيعي.

أشار روسو بوضوح في عدة مواقع مختلفة إلى أنّ الأخلاق ليست من صفات ومحددات الطبيعية للحياة البشرية، لذلك سواء كانت تعني أنّ البشر طيبون بصفتهم وطبيعتهم البشرية، فهذا ليس المعنى المحدد للأخلاق الذي يفترضه القراء والمطلعون العاديون عادةً، ولذلك جاء حل هذا الادعاء المركزي والمربك حيث أنّه من الأفضل في البداية التدقيق والبحث في علم النفس الأخلاقي للفيلسوف روسو وإلقاء نظرة عليه بتفاصيله، خاصةً أنّه تم تطويره في خطاب عمل روسو حول أصل اللامساواة وفي عمله الفلسفي في التربية إميل (Emile).

مفهوم حب الذات في فلسفة روسو:

ينسب روسو لجميع المخلوقات دافعًا غريزيًا نحو الحفاظ على الذات، لذلك يمتلك البشر مثل هذا الدافع والذي يسميه (amour de soi – حب الذات)، حيث يوجهنا (حب الذات – Amour de soi) أولاً لتلبية احتياجاتنا البيولوجية الأساسية لأشياء مثل الطعام والمأوى والدفء، وذلك نظرًا لأنّ البشر بالنسبة لروسو مثلهم مثل الكائنات الأخرى جزء من تصميم خالق خير فهم مجهزون جيدًا بشكل فردي بالوسائل اللازمة لتلبية احتياجاتهم الطبيعية.

مفهوم التعاطف لدى فلسفة روسو:

بالإضافة إلى حب الذات الذي يعتبره روسو كدافع أساسي لحماية الذات، فقد اقترح روسو أيضًا شغفًا ومفهومهًا آخر أسماه (pitié – compassion – التعاطف)، حيث يرشدنا التعاطف إلى رعاية الآخرين ومواساتهم في معاناتهم (وتدخل الحيوانات كذلك ضمن هذا الإطار لدى روسو)، لأننا نستطيع ان نفعل ذلك دون المخاطرة بالحماية الذاتية والتعدي على أنفسنا.

وفي بعض أعماله مثل “الخطاب الثاني” يعد التعاطف هو المحرك الأصلي الذي تم وضعه إلى جانب (amour de soi- حب الذات)، بينما في عمله الفلسفي في التربية إميل (Emile) وفي مقاله عن أصل اللغات (Essay on Languages ​​of Languages) يعتبر التعاطف تطورًا لـ (حب الذات- amour de soi) وأصلًا لكل المشاعر.

التحليل الفلسفي لرواية أصول المساواة بأسلوب روسو:

في عمل روسو وهو خطاب حول أصل عدم المساواة تصوّر أنّ التطور لديه عدة مراحل في البشرية بدايةً من مرحلة الأكثر بدائية إلى تقريبًا ما يتمثل بالمجتمع الحديث والأكثر تعقيدًا، حيث ينفي روسو أن هذا تمثيل حقيقي لهيكلة التاريخ من جديد، فيعتقد فريدريك نيوهاوزر (2014) أن نظرية التطور هي ليست سوى أداة مصممة فلسفيًا للتمييز بين العوامل الطبيعية والبشرية (أي العوامل التي يصنعها البشر) في علم النفس لدينا، وفي كل خطوة من خطوات تطور هذا الخيال سيغير الأفراد علاقتهم الجسدية والنفسية مع بعضهم البعض وبالتالي تغيير تصورهم لأنفسهم أو ما أطلق عليه روسو “الإحساس بالوجود”.

وبناءً لتلك الرواية يسير البشر بشكل رئيسي للعيش بطريقة انعزالية كحالته البدائية وذلك بسبب عدم حاجتهم لبعضهم البعض لتلبية متطلباتهم المادية، ولكن نادرًا ما نرى هذه الحالة في الحياة البشرية الطبيعية، بالإضافة إلى ذلك فإنّ التجمعات العرضية بين إنسان نياندرتال (بدائي) هي مناسبات للتزاوج والحفاظ على النسل والتكاثر والأبوة بالإهتمام بالأطفال تعد فرصًا قصيرة الأجل، وإنّ جمع الفرص بين إنسان ال هو فرصة قصيرة وقصيرة للتزاوج والتكاثر والأبوة، فإذا ولد البشر في هذه المرحلة من التطور البشري فإنّ لطفهم وطبيعتهم التي تتصف بالخير فقد يكون سلبيًا فقط أي مما يعني أنّه لا يوجد شر.

في هذه الرواية يكمن الاختلاف بين البشر والمخلوقات الأخرى التي تشترك في العالم الأصلي والبدائي في ميزتين فقط:

  • الحرية: في هذه الحالة والميزة تعد بطريقة بسيطة حيث قدرة لا يمكن السيطرة عليها من خلال الشهية وحدها.
  • الكمال: وهو القدرة على التعلم وبالتالي العثور على وسائل جديدة وأفضل لتلبية الاحتياجات.

تعطي هذه المميزات مجتمعةً للبشر القدرة على إدراك الوعي الذاتي ووالتحكم العقلاني والأخلاق، ولكن الواضح أنّ هذه المميزات والخصائص من الراجح أن يتم الحكم عليها من خلال العالم الاجتماعي حيث يكون فيه بعض التصرفات مثل الخداع والقمع والنفاق والتبعية والسيطرة.

المنافسة بين البشر لجذب الشريك:

نتيجة النمو السكاني تطورت عدة صور وأشكال بسيطة من التعاون بين الكائنات في الأنشطة والتي تبدو نوعًا ما غير مستقرة مثل ممارسة نشاط الصيد، يعتقد روسو أنّ لحظة التحول المركزية في التاريخ البشري حدثت في مرحلة اجتماعية بحيث تميزت بمجتمع صغير ومستقر، ففي هذه المرحلة يتغير أو ينقسم الدافع الطبيعي الذي يجب على البشر الإهتمام والاعتناء به، وهذا يعني أنّ المنافسة بين البشر لجذب شركاء من الجنسيين تجعلهم يفكرون في انجذابهم للآخرين، وهذا الانجذاب يتم مقارنته بطريقة تنافسية محتملة مع الخصوم.

في عمل روسو إميل (Emile) الذي يركز على التطور النفسي للأفراد في المجتمع الحديث يربط أيضًا خصائص الحب بالمنافسة الجنسية ولحظات المراهقة، حيث في هذه الفترة أو المرحلة يبدأ فيها المراهق في رؤية نفسه كوجود جنسي مع المنافسين بدافع اهتمامه بالفتيات والنساء.

مصطلح روسو لهذا النوع الجديد من دافع المصلحة الذاتية الذي يهتم بالنجاح المقارن أو الفشل ككائن اجتماعي هو أمر خاص (حب الذات والذي غالبًا ما يتم تقديمه على أنّه فخر أو غرور في الترجمات الإنجليزية)، (حب الذات -Amour Propre) يجعل المصلحة المركزية لكل إنسان هي الحاجة إلى الاعتراف من قبل الآخرين على أنّها ذات قيمة وأن يعاملوا باحترام.

يرتبط نوع روسو الجديد من الدافع الذاتي للمصلحة بالنجاح النسبي أو الفشل النسبي لكائن اجتماعي بحيث يعتبرها إنّها مشكلة خاصة (عادة ما يتم التعبير عن حب الذات بالفخر أو الغرور في الترجمة الإنجليزية). يصبح (حب الذات -Amour Propre) مصلحة الجميع المركزية حيث من الضروري أن يتم تقدير الآخرين واحترامهم.

في الخطاب الثاني لا سيما في ملاحظاته الخامسة عشرة حول هذا العمل غالبًا ما يظهر التعبير عن خصائص الحب أنّ روسو يعتبر الحب شغفاً ورغبة جامحة بالكاد يبدو سلبيًا ويعد مصدر لكل شر، وعادة ما يكون تفسير مصطلح (الحب amour) مركزاً على عمل روسو للخطاب الثاني حيث يعد الأكثر شيوعًا في التاريخ، والحاجة إلى الاعتراف هي دائمًا حقيقة مقارنة فهي لا ترضي الفرد فقط وأنّ الآخرين يدركون قيمتهم الخاصة، بل تسعى أيضًا إلى أن يُنظر إليهم على أنّهم قيمة أعلى منهم، وعندما يحاول الناس الحصول على اعتراف من الآخرين أو الرد بغضب على هذا الجانب من طبيعة البشرية يخلق الصراع، وعندما يتم رفض هذا سيشعرون بعدم الرضا.

تشير القراءات الحديثة للخطاب روسو الثاني لا سيما خطاب العمل الفلسفي (Emile) إلى أنه من الممكن تحصيل رؤية وبعد أكثر دقة، وبناءً على هذه المجموعة من التحليل والتفسير فإنّ الملكية هي المسبب لسقوط ودنو البشرية، وهي أيضًا السبب في أنّ البشر هم أنفسهم بسبب قدرتهم العقلانية ككائنات اجتماعية، حيث من المتوقع أن تنال طريق التطور رجاء الخلاص.

على الرغم من أنّ روسو يعتقد أن الاتجاه والعرف السائد في المجتمع والتاريخ هو جعل الأشخاص المناسبين يتخذون شكل سام وفيه شر وخداع الذات فإنه يرى أيضًا طرقًا لتنظيم الحياة الاجتماعية والشخصية على الأقل من حيث المبدأ بحيث يمكن للتعليم أن يؤدي إلى شخصية ذات طباع حميدة.

يمكن العثور على هذا المشروع المتعلق باحتواء صفات ومفهوم الحب واستخدامها في كل اعمال روسو في كتابه العقد الاجتماعي وإميل (Emile)، وبعض هذه الأعمال مثلاً الخطاب الثاني يعبر روسو عن طابع وصفة الحب باعتباره شغفًا ورغبة جامحة مختلفة تمامًا عن (حب الذات أو النفس – amour de soi)، بينما في أعمال أخرى بما في ذلك إميل (Emile) يعبر عن الحب بأنّه شكلًا من حب الذات البيئة الاجتماعية، ويتفق هذا الشكل مع وجهة نظر روسو في إميل (Emile) بأنّ جميع المشاعر هي ثمرة أو تطور من (حب الذات – amour de soi).

على الرغم من أنّه يمكن إرجاع أصله إلى المنافسة الجنسية والمقارنة في المجتمعات الصغيرة، إلّا أنّه لا يمكن أن يكون سامًا بالكامل حتى يقترن بنمو الترابط في جسم الإنسان، ففي خطاب روسو حول عدم المساواة ومع ظهور عدم المساواة بين الأشخاص الذين يمتلكون الأرض والأشخاص الذين لا يمتلكون الأرض في مجتمع غير متكافئ، حيث يتابع روسو تطور الزراعة وظهور قوانين ومفاهيم الملكية الخاصة، يكون البشر نتيجة عدم التكافئ والذين يحتاجون إلى كل من المواد والسلع المادية المعترف بها اجتماعيًا مثل الطعام والدفء يمارسون علاقات اجتماعية التي تضر بقيمة الذات وحيّز حريتهم.

يحتاج الأفراد إلى رؤسائهم للحصول على أسلوب ومتطلبات الحياة، ولذلك يحتاج الرؤساء إلى الأفراد العاملين وذلك للعمل معهم ومنحهم التقدير الذي يرغبون فيه ويسعون إليه في العمل، في هذا النظام يكون لدى الأشخاص دوافع واضحة لتشويه معتقدات الناس ورغباتهم الحقيقية لتحقيق أهدافهم، لذلك حتى أولئك الذين يكتسبون الحب والرعاية الواضحة بدونهم لا يمكن أن يكونوا راضين عن أسلوبهم، في خطاب روسو خول عدم المساواة قام بذكر شخصية الوزير من أصل أوروبي حيث هذه الشخصية تؤدي حاجتها بتودد وتذلل الآخرين وذلك سعيًا منه لتوفير رغباته إلى بعده عن ذاته وشخصيته.

فلسفة الأخلاق لدى روسو:

(حب الذات – Amour de soi و amour propre) و (التعاطف – pitié) ليست هي المكمل الكامل للعواطف في تفكير روسو، وبمجرد أن يحقق الناس وعيهم بأنفسهم ككائنات اجتماعية تصبح الأخلاق ممكنة أيضًا وهذا يعتمد على قوة الضمير الإضافية، وقد تم العثور على أشمل الروايات لمفهوم روسو عن الأخلاق في (رسائل أخلاقية – Lettres Morales) وفي أقسام اعتراف إيمان نائب سافويارد وهو جزء من (إميل Emile).

وفي أكثر أشكال الوجود الإنساني بدائية قبل ظهور خاصية amour والذي يوازن pitié أو يقيد المصلحة الذاتية، حيث إنّه إلى هذا الحد يشبه المشاعر الأخلاقية مثل التعاطف مع هومين (Humean)، ولكن باعتباره شيء غريزي فإنّه يحتاج بالنسبة لروسو إلى سمة أخلاقية ذات طابع حقيقي.

من جانب آخر عند تطبيق الأخلاق بإستخدام العقل وقوته وذلك على الشؤون والسلوكيات البشرية فإنّها تمثل بذلك الأخلاق الحقيقية، وهذا يتطلب دافعًا أخلاقيًا حقيقيًا أي القوة الروحية للضمير، فالضمير يقود حبنا للعدالة والأخلاق بطريقة شبه جمالية كنوع من العدالة، وسعيًا في العمل على تعزيز العدالة والعدل يعمل الضمير على تنظيم خطة الله الحميدة للعالم بعقلانية.

ومع ذلك في عالم يحكمه نظام ملكي استبدادي، لا يمكن للنموذج الطبيعي للعقل والأخلاق أن يكمل أو يحل محل تعاطفنا الأخلاقي الطبيعي الأصلي، لكن عملية التنمية المعتادة للمجتمع المدني هي نقل وإبعاد العقل والرحمة والتعاطف حيث لعب تعزيز القدرة على التفكير البشري دورًا ليس من أجل الأخلاق فقط ولكن في النضال من أجل الهيمنة والسيطرة والقمع والقهر والاستغلال.

لا بد من الذكر أنّ موضوعات الخطاب الثاني ورسالة الموت قد تناولت الطرق التي يخدع بها البشر صفاتهم وطبيعنهم الأخلاقية، على سبيل المثال يثير مشاهدو المسرح تعاطفهم الطبيعي في مشهد المأساة على المسرح ثم يقتنعون بعدالة طبيعتهم الخيرة وتحررهم، ولكن تم إرسالهم بحرية خارج المسرح للتصرف بطبيعتهم ذات الطابع السيء وعنيف.

تسطيع أن تكون الفلسفة أيضًا مصدرًا لخلاف ما تظهره الذات، حيث يمكن أن تعطي الناس سببًا لتجاهل الدافع وراء التعاطف والرحمة، كما فعل روسو في مقالته (مبادئ الحق في الحرب) حيث يمكن أن تدعم القوانين القوية التي يمكن استخدامها للسماح بالعنف القمعي (مثل قانون الحرب والسلام) حيث في نفس الوقت قضى على شفقتهم وتعاطفهم ورحمتهم الطبيعية.


شارك المقالة: