نظرية الفيلسوف جرين في مفهوم الحقوق

اقرأ في هذا المقال


إذا كان على الفرد أن يتبع ضميره  بحسب فلسفة توماس هيل جرين فإنّه يجب أن يكون في مأمن من التدخل الخارجي، وإنّه يحتاج إلى أسوار لحماية حريته في التفكير والعمل وما إلى ذلك، كما تعتبر هذه الأسوار حقوقًا في المجتمعات الغربية وأحد أهم أجزاء فلسفة جرين السياسية هي نظريته عن الحقوق.

فلسفة جرين في توضيح مفهوم الحقوق:

يمكن فهم معنى الحقوق الذي يهتم به جرين بشكل أساسي في محاضراته حول مبادئ الالتزام السياسي كما يفهم كانط (ein Recht)، وهذا يعني”الحصول على لقب لإكراه الآخرين من خلال إرادة المرء المجردة على فعل أو حذف شيء بشكل غير مبال بالحرية” وبشكل أكثر تحديدًا يقول جرين:

“الحق هو سلطة يعترف المجتمع بممارستها من قبل الفرد أو من قبل بعض الناس من قبل المجتمع إما على أنها ضرورية بشكل مباشر للصالح العام أو باعتبارها ممنوحة من قبل سلطة يتم الاعتراف بالحفاظ عليها على أنها ضرورية للغاية”.

فلسفة جرين في مفهوم الحقوق المعنوية:

يهتم جرين في المقام الأول بما يدعى ويطلق عليه الحقوق المعنوية: أي تلك الحقوق المبررة والمعترف بها على أسس أخلاقية وليست قانونية بحتة، والحقوق المعنوية موجودة قبل القانون، حيث أنّه على الرغم من أنّ الحقوق المعنوية متميزة من الناحية المفاهيمية عن الحقوق القانونية، إلّا أنّه لا يزال يتعين عليها التعبير عنها في القانون من أجل جعلها منظمات فعالة للعمل البشري، لذلك فإنّ دور الدولة هو دعم الحقوق التي تنشأ في المجتمع كجزء من انفتاح الوعي الأبدي.

ويهاجم جرين الرأي القائل بأنّ هناك حقوقًا أخلاقية يمتلكها الناس كأفراد فقط، أي الحقوق المعنوية التي يمتلكونها دون الإشارة إلى وجودهم كأعضاء في مجتمع قائم على هدف مشترك، وفي هذا المعنى الحقوق المعنوية هي بالضرورة اجتماعية، حيث فكرة أنّ الرجال يمكن أن يمتلكوا حقوقًا (طبيعية) في (حالة طبيعية) هي فكرة سخيفة بالنسبة إلى جرين، بينما هناك حقوق معينة هي فقط (طبيعية) بمعنى أنّها ضرورية لتحقيق الغاية التي هي دعوة المجتمع البشري لتحقيقها.

ومن ثم فإنّ القانون ليس جيدًا لأنّه يفرض الحقوق الطبيعية، ولكن لأنّه يساهم في تحقيق غاية معينة، ونحن فقط نكتشف الحقوق الطبيعية من خلال النظر في الصلاحيات التي يجب تأمينها للإنسان من أجل تحقيق هذه الغاية، ومع ذلك لا توجد الحقوق حقًا إلّا عندما تكون أساس التحكم في سلوك الرجال وفقًا لمبادئ نظامية معينة من قبل مجتمع يعترف بالمصالح المشتركة.

كما قبل أن يأتي العبد ليرى حياته كجزء من مخطط تعاوني محدد الهدف ومنظم عقلانيًا لم يكن لديه حقوق حقيقية في ذلك الوقت فحقوقه معلقة، وبعد هذا لا يزال هناك شعور بأنّ بعض الحقوق كانت موجودة دائمًا حيثما كان هناك أي مجتمع على الرغم من أنّ الأمر قد يستغرق أجيالًا عديدة حتى يتم الاعتراف بهذه الحقوق ومنحها لأي شخص، تمامًا كما يمكن للمرء أن يحمل العقل على أنّه أبدي، ومع ذلك يرى أنّ الأمر يستغرق وقتًا حتى يصبح هذا الكائن أو ذاك عقلانيًا، وماذا يعني هذا؟

فلسفة جرين في العلاقة بين العلاقات الإجتماعية والحقوق:

إنّ المفهوم المشترك للهدف الجماعي – الصالح العام – هو أساس وجود المجتمع وهو أيضًا أساس وجود الفرد كعامل أخلاقي، ومن ثم فإنّ تحقيق الغاية الأخلاقية للإنسان يعتمد على الاعتراف بذاته كعامل هادف لا يمكنه التقدم إلّا داخل مجتمع من الفاعلين الأخلاقيين الهادفين الآخرين، وهذا يردد صدى الفكرة الكانطية القائلة بأنّ أحد العناصر الأساسية للحقوق هو الالتزام بالواجب القاطع.

بمعنى إنّ انتهاك حقوق الفرد هو انتهاك لحرية الفرد التي يمكن أن يتعايش مع حرية كل فرد آخر وفقًا لقانون عالمي، وتمثل الحقوق وسيلة لتحقيق التنظيم الصحيح للتفاعل البشري من خلال التعبير الرسمي عن هذه المساواة الإنسانية الأساسية، وبالتالي فإنّ الحقوق تمتد فقط بقدر اعتراف الأفراد بحقوق الآخرين.

ومن ثم فإنّ امتلاك حق يجعل الفرد شخصًا يستحق الاحترام (لأنّه كيان نامي)، ويحترم أيضًا شخصية زملائه، كما يمد جرين هذه الحجة إلى الادعاء بأنّه بحكم امتلاكه الحقوق داخل مجتمع معين يحق للفرد عدم التدخل من جميع أعضاء جميع المجتمعات (إلى الحد الذي يعترف فيه بحقوقهم في عدم التدخل)، كما إنّه يوسعها بهذه الطريقة لأنّه يرى أنّ على جميع الأفراد احترام الفاعلية الأخلاقية لأي شخص يعتبره أي شخص وكيلًا أخلاقيًا، وهذا الاعتراف الفعلي يعني ويتطلب إمكانية الاعتراف من قبل الجميع، وكما كتب جرين:

“إنّ الانغماس في أي مجتمع هو حتى الآن من حيث المبدأ عضوية جميع المجتمعات بحيث تشكل حقًا في أن يعامل جميع الرجال الآخرين كرجل حر، وأنّ يُعفوا من الخضوع للقوة باستثناء منع القوة”.

من هذا المنطلق يتبنى جرين الخط الهيغلي القائل بأنّ العبد له الحق في حريته من حيث أنّه منخرط في علاقات اجتماعية تقوم على الحركة لتحقيق الصالح العام، ويأتي اعتراف العبد الجزئي بالمساواة داخل المجتمع من تأثير علامات وتأثيرات هذا النظام للعلاقات الاجتماعية وكل ما يتعلق به، والتي تعرفه بمفاهيم مجردة معينة والتي أيضًا تضعه في علاقات معينة مع أعضاء آخرين في ذلك المجتمع.

يذهب جرين إلى حد ما لتصور الإمكانية المجردة لحياة الوكيل أو الممثل على أساس السعي وراء الصالح العام في المجتمع، وثم يتعرف على نفسه ورفاقه العبيد (وربما أسياده) على أنّهم يتشاركون في غرض مشترك محتمل أو فعليًا في حياتهم، وهذا بالضرورة يخلق حق العبد في المساواة في الحرية مع جميع الأشخاص الآخرين، وتصبح حقوق العبد حقيقية عندما تتجسد في المؤسسات الاجتماعية، بمعنى أي عندما يتم تفعيلها في العلاقات الاجتماعية الرسمية، وبالتالي فإنّ حق مالك العبيد في الاستخدام الحر لملكيته – أي العبد – ملغي لأنّه يقوم على عدم الاعتراف بحق العبد في الحرية.

ويجب استخدام الحقوق المعنوية لانتقاد الحقوق القانونية، كبداية لن يؤكد أحد بجدية أنّ نظام الحقوق والالتزامات كما يفرضه القانون هو كل ما يجب أن يكون، ولهذا السبب الحالات الفعلية تحقق في أفضل الأحوال وظيفتها المثالية ولكن جزئيًا، وفي الواقع يقول جرين إنّ على الفرد واجب مقاومة القانون عندما يخبره ضميره أنّ القانون يفشل في تعزيز تنمية مواطنيه، ويدخل جرين مؤهلًا واحدًا لهذا، بحيث يمكن للدولة بشكل متوازن أن تخدم الوعي الأبدي أكثر مما تعوقه، كما يجب أن تتم مقاومته فقط عندما لا يكون التأثير على الدولة شديدًا بحيث يقوض بشكل خطير التنمية الاجتماعية التي تدعمها بشكل عام.

فلسفة جرين في تطور المجتمعات ذات الصراعات السياسية:

يجادل جرين بأنّه في حالة وجود صراعات حادة بين الجماعات التي كانت تخضع لنفس السيادة السياسية، كما هو الحال في يوغوسلافيا السابقة حيث لا توجد حقوق حقيقية، بمعنى أنّه في أوقات التنافر الاجتماعي الكامل لا توجد حقوق حقيقية لأنّه لا توجد سيطرة حقيقية على المجتمع، وفي هذه الحالات يجب على المرء أن يقرر أي من مسارات العمل الممكنة أفضل أو أسوأ من خلال الإشارة إلى تحقيق المثل الأعلى لتطوير الوعي الأبدي.

قد يشكك المرء في اتساق جرين هنا حيث يبدو أنّه يجادل:

1- أولاً أنّ المجتمعات يتم تعريفها من خلال امتلاك غاية مشتركة.

2- ثانيًا أنّ الصراعات بين الفئات الاجتماعية يمكن أن تؤدي إلى تفكك المجتمع.

ومع ذلك فقد عرّف هذه المجموعات الاجتماعية بأنّها مجموعات من الأفراد توحدهم هدف مشترك -في أسوأ الأحوال خاص بهم- ولكن في نظر جرين تقدم ذاتي مؤقت، وبالتالي يفهم من منظور جرين أنّهم لا يزالون مجتمعات، بمعنى ما حدث هو أنّ المجتمع الأصلي قد تم تدميره وأنّ الأعضاء السابقين قد تشكلوا في مجتمعات أصغر أخرى كانت في صراع.

بما أنّهم لا يزالون في المجتمعات فإنّ أعضاءهم يمتلكون حقوقًا لا ينبغي لأحد أن ينتهكها، وكل ما يمكن أن يجادل به جرين باستمرار هو أنّ الوحدة السياسية – مثل الدولة القومية – قد انهارت دون أن تحل محلها وحدة سياسية أخرى (ولكن بالتجمعات الاجتماعية)، ومع ذلك فإنّ الحقوق لا تعتمد على وجود أي وحدة سياسية ولكن على وجود الوحدات الاجتماعية.

حتى الآن كان جرين مهتمًا بالحقوق فقط كما كانت موجودة في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر، ومع ذلك فإنّ الانكشاف التدريجي للوعي الأبدي يتجلى في الحركة التاريخية من الأسرة – إلى القبيلة – ثم إلى الأخلاق المتمحورة حول الدولة، ولا يوضح جرين مدى أهمية هذه الحركة (في جانبها الحقوقي) في الواقع.

تبدأ العائلات والقبائل في التفاعل مع بعضها البعض مما يؤدي إلى ظهور أشكال أكثر تعقيدًا من الترابط الاجتماعي، ويزداد عدم الاستقرار الاجتماعي مع تزايد تضارب الحقائق الاجتماعية مع القيم الأخلاقية الراسخة، وفي النهاية تنشأ الحقوق التي لا تستند إلى أسبقية هذه المؤسسات الاجتماعية السابقة الأقل تطورًا ولكن على فكرة الأشخاص كأفراد منفصلين ومن المحتمل أن يكونوا عقلانيين.

كما يعتقد جرين أنّه بهذه الطريقة يميل العالم إلى أن يصبح أكثر عقلانية وأكثر انسجامًا، ويجب أن يرتكز هذا التناغم العقلاني على المعاملة الصحيحة لجميع البشر كأنداد والتي بدورها تقوم على الفهم الصحيح للفرد كعامل محدد ذاتيًا.


شارك المقالة: