إثبات فلسفة ميل للمنفعة

اقرأ في هذا المقال


من خلال فلسفة ميل في النفعية وتوضيحه لمفاهيم وخاصة مفهومي السعادة والواجب، لا بد من تبرير النفعية التي ناقشها، حيث قدم في مناقشته لإثبات مبدأ المنفعة في الفصل الرابع، ويدّعي ميل أنّ المنفعي يجب أن يدّعي أنّ السعادة هي الشيء الوحيد المرغوب فيه في حد ذاته، ويدّعي أنّ الدليل الوحيد على الاستحسان هو الرغبة.

الأدلة على صحة النفعية:

ويواصل القول بأنّ السعادة هي الشيء الوحيد المرغوب فيه، ويجادل بأنّ الشخص يرغب في سعادته الخاصة لذاته، وبالتالي فإنّ السعادة على هذا النحو مرغوبة ومفضلة من أجل البشرية ككل، وثم يلتفت للدفاع عن الادعاء بأنّ السعادة هي الشيء الوحيد المرغوب فيه في حد ذاته، ومن خلال القول بأنّ الأمثلة المضادة الظاهرة (على سبيل المثال الرغبات في الفضيلة في حد ذاتها) لا تتعارض مع ادعائه.

قد تبدو إعادة بناء تقليدية واحدة لإثبات ميل مثل هذا:

  1. النفعية صحيحة إذا كانت السعادة هي الشيء الوحيد المرغوب فيه لذاته (وليس من أجل شيء آخر).
  2. الدليل الوحيد على الاستحسان هو الرغبة.
  3. كل شخص يرغب في سعادته لمصلحته (وليس من أجل شيء آخر).
  4. ومن ثم فإنّ السعادة على هذا النحو مرغوبة لذاتها (وليس من أجل شيء آخر) من وجهة نظر الإنسانية (ويساوي مجموع الأشخاص).
  5. ومن ثم فإنّ السعادة على هذا النحو أمر مرغوب فيه لذاتها (وليس من أجل شيء آخر).
  6. السعادة هي الشيء الوحيد المطلوب لذاته (وليس من أجل شيء آخر)، وأشياء أخرى – مثل الفضيلة والصحة والموسيقى والمال والسلطة – ويمكن أن تصبح مرغوبة من أجلها، ولكن بعد ذلك تكون مرغوبة كأجزاء من السعادة.
  7. ومن ثم فإنّ السعادة هي الشيء الوحيد المرغوب فيه لذاتها (وليس من أجل شيء آخر).
  8. ومن ثم فإنّ النفعية صحيحة.

منطقية أدلة ميل لإثبات المنفعة:

لقد هدد الدليل على الأقل في بعض الأوساط سمعة ميل كفيلسوف دقيق، وفيما يلي قائمة جزئية للمخاوف بشأن حجة ميل كما هو متصور تقليديًا.

  • (1) يكون مقبولاً فقط إذا كانت كلمة (مرغوب فيه) تعني أنّها تستحق أن تكون مرغوبة، وليس إذا كانت تعني إمكانية تحقيقها، ولكن (2) يكون منطقيًا للغاية إذا كانت (مرغوب فيه) وتعني أنّه يمكن تحقيقه، ولكن بعد ذلك هناك قلق حقيقي من أنّ الحجة يتم تداولها على التباس ضمني بين هذين المعنيين المختلفين لـ (مرغوب فيه) وأنّ الحجة نتيجة لذلك غير صالحة.
  • ومع ذلك فإنّ (1) خطأ، وحتى لو كانت السعادة هي الشيء الوحيد المرغوب فيه لذاتها فإنّ هذا من شأنه أن يؤسس فقط ادعاءً بشأن الخير أو الغايات، وإنّها ليست مطالبة بالواجب أو العمل الصحيح، ولا تدعي المذهب النفعي أنّ الخير هو السعادة البشرية فحسب بل يمضي في تعريف الحق من حيث تعزيز الخير، والادعاء الثاني لا يتبع من الأول.
  • لكي تكون الحجة صحيحة يجب أن تعني الرغبة في المقدمة (2) أنّها تستحق أن تكون مرغوبة (كما هو الحال في المقدمة (1))، ولكن بعد ذلك (2) خطأ، والرغبة ليست دليلا على الاستحسان، ويمكن للناس أن تكون لديهم رغبات خاطئة حول ما هو جيد، وفي الواقع إذا كان ميل إما متعصبًا للمتعة أو منشد الكمال فعليه أن يعتقد أنّ الناس يمكن أن تكون لديهم رغبات تفشل في تتبع الخير.
  • ليس من الواضح ما إذا كانت (3) صحيحة، ويبدو كما لو أنّ الماسوشيين (المنحرف جنسيًا) أو الإيثاريين غير الأنانيين قد يفشلون في الرغبة في سعادتهم لمصلحتهم.
  • (4) قد يكون غير متماسك وبالتأكيد لا يتبع من (3)، وليس من الواضح أنّ مجموعات الأشخاص لها رغبات، وربما في ظل ظروف خاصة قد تشكل مجموعات من الأشخاص وكيل شركة أو شخصًا، ولكن مجاميع الأشخاص على هذا النحو ليسوا أشخاصًا وليس لديهم رغبات، وحتى لو فعلوا ذلك فمن المشكوك فيه أن يتمكن المرء من استنتاج ما يريده المجموع من الحقائق حول ما يرغب فيه أعضاؤه، وقد ينطوي ذلك على مغالطة تركيبية.
  • (5) من المفترض أن تكون مكافئة للادعاء بأنّ السعادة جيدة، ولكن هل هو مبسط جيد أم جيد للتجميع؟ وقد يشير التشابه بين الأفراد والجماعات إلى أنّ السعادة يجب أن تكون مفيدة للمجموع، ولكن من المفترض أنّ الاستنتاج المقصود يتطلب أن تكون السعادة مبسطة جيدة.
  • ليس من الواضح كيف نفهم (6)، وقد يعتقد المرء أنّ الهدف هو تقديم ادعاءات متوازنة (4) و (5)، ولكن بعد ذلك (6) يجب أن يُفهم على أنّه تقديم ادعاء آخر حول علم النفس الكلي، وهذا يثير بعض الأسئلة السابقة حول علم النفس الكلي، ومع ذلك يبدو أنّ الكثير من النقاش في الرابع 5-8 يدور حول علم النفس الفردي.
    ويبدو أنّ ميل يقول أنّه طالما أنّ الأفراد لديهم رغبات جوهرية لأشياء أخرى غير سعادتهم الخاصة، فإنّ أهداف الرغبة الجوهرية مرغوبة كأجزاء من سعادتهم، وربما كان هذا هو ادعاء ميل الأولي الذي يأمل بعد ذلك في أن يستنتج منه كما فعل من (3) – (4)، وأنّ السعادة العامة هي الشيء الوحيد الذي يريده المجموع من أجل ذاته (وليس من أجل شيء ما آخر).
    وسيؤدي هذا الاستنتاج بالطبع إلى نفس نوع المخاوف التي تم أثارتها حول الاستدلال من (3) – (4)، وعلى وجه الخصوص قد نشك في أنّ مجموعات الأشخاص لها أي أهداف ناهيك عن الأهداف النهائية، وحتى لو سلمنا بذلك فليس من الواضح أننا نستطيع استنتاج الحقائق حول رغبات المجاميع من الحقائق حول رغبات أعضائها، وقلنا أنّ هذا يبدو أنّه ينطوي على مغالطة تركيبية.
  • حتى لو قبلنا هذا الدفاع عن (5) و (7)، فإنّ هذا سيثبت فقط أنّ السعادة على هذا النحو هي الشيء الوحيد المرغوب فيه أو الجيد للمجموع، ويبدو أنّه يمكن أن يكون لدينا ادعاءات موازية حول كون سعادة الوكيل هي الشيء الوحيد المرغوب فيه أو الجيد للفرد، ولكن قد يبدو أنّ هذا يعني أنّه في حين يجب على المجموع متابعة السعادة العامة أو تعزيزها فإنّه يجب على الأفراد السعي وراء سعادتهم الخاصة أو الترويج لها، ولن يكون ذلك دفاعًا عن النفعية.

هذه كلها مخاوف جدية بشأن برهان ميل كما هو مفهوم تقليديا، وتبدو هذه الاعتراضات جدية وواضحة لدرجة أنّها يجب أن تجعلنا نتساءل عما إذا كان هناك تفسير أكثر منطقية لإثباته.

الحياد النفعي:

لا يحتاج ميل إلى الخلط بين الرغبة والاستحسان لسبب واحد، حيث إنّه يدرك أنّهما متميزان لكنه يقول أنّ الاستحسان هي دليلنا الوحيد على الرغبة، وبقوله هذا لا يحتاج إلى الافتراض المسبق أنّ الرغبة في شيء ما تضفي قيمة على (الحصول عليه)، وغالبًا ما تعكس رغباتنا الأحكام القيمية التي نتخذها بشكل صريح أو ضمني، وإذا كان الأمر كذلك فستكون رغباتنا دليلًا على ما نعتبره ذا قيمة، وقد توفر رغباتنا المقبولة بشكل انعكاسي أفضل اختبار قابل للتنفيذ لما هي الأشياء ذات القيمة الموضوعية.

ويطبق ميل أولاً هذا الاختبار على ما يرغب فيه كل منا لمصلحته، وجوابه هو أنّ ما يتمناه كل منا لمصلحته هو السعادة، ولا نحتاج إلى تفسير ميل على أنّه يؤيد الأنانية النفسية في هذه المرحلة، وبدلاً من ذلك يقول أنّه عندما يركز كل منا على غاياته أو مصلحته، ونجد أنّ كل منا يهتم بسعادته، وهناك طريقة أخرى لوضع وجهة نظر ميل وهي أنّ الاهتمام الحذر يركز على سعادة الوكيل.

ويمضي ميل ليقول إنّه مثلما تكون سعادة كل شخص أمرًا جيدًا لذلك الشخص فإنّ السعادة أيضًا على هذا النحو هي خير لمجموع الأشخاص، ولكننا لا نحتاج إلى افتراض أنّ ميل ينسب علم النفس ناهيك عن علم النفس الأناني للإنسانية كمجموعة، وبدلاً من ذلك يمكننا أن نقرأ ميل على أنّه يدعي أنّه تمامًا كما أنّ سعادة الوكيل هي موضوع الاهتمام التحوطي فإنّ السعادة أيضًا على هذا النحو هي الموضوع المناسب للقلق النزيه أو المحايد.

في هذه القراءة لا يحاول ميل اشتقاق النفعية من الأنانية، وبدلاً من ذلك فهو يفترض أنّ وجهة النظر الأخلاقية غير متحيزة بطريقة ليست بها الحكمة، وكما أنّ الحكمة تهدف إلى سعادة الوكيل نفسه، وكذلك يعتقد ميل أنّ الأخلاق غير المتحيزة تهدف إلى السعادة في حد ذاتها، وفي هذه القراءة تبدو بنية برهان ميل شيئًا كهذا:

  1. الحكمة جزئية.
  2. لأنّ الحكمة جزئية فهي تهدف إلى سعادة الفاعل.
  3. على النقيض من ذلك فإنّ الأخلاق محايدة.
  4. لأنّ الأخلاق غير متحيزة فهي تهدف إلى السعادة على هذا النحو.
  5. إذا كانت وجهة النظر الأخلاقية تهدف إلى السعادة على هذا النحو فمن واجب كل فرد أخلاقي تعزيز السعادة.
  6. ومن ثم فإنّ النفعية صحيحة.

إذا كانت هذه هي الطريقة الصحيحة لفهم دليل ميل فإنّ تبريره للنفعية يتمثل في افتراض أنّ وجهة النظر الأخلاقية محايدة والادعاء بأنّ النفعية هي الطريقة الصحيحة لفهم النزاهة والأخلاق حيادية، والحياد يتطلب أخذ مصالح الجميع في الاعتبار – وليس فقط مصالح البعض المختار – ووزنها بشكل متساوٍ – وليس مع الإبهام في المقاييس للبعض المختار- وفي الواقع لاحقًا في الفصل الخامس يحدد ميل النزاهة ومطالبها التقدمية بالعدالة والأخلاق.

إنّ عدم التحيز يدخل في معنى المنفعة ذاته أو مبدأ أعظم سعادة، وهذا المبدأ هو مجرد شكل من أشكال الكلمات دون دلالة عقلانية ما لم يتم احتساب سعادة شخص ما، ومن المفترض أن تكون متساوية في الدرجة (مع السماح المناسب للنوع) وبقدر ما يتم احتساب سعادة شخص آخر، وهذه الشروط التي يتم توفيرها يمكن كتابة مقولة بنثام: “الجميع لحساب واحد، ولا أحد لأكثر من واحد”، وبموجب مبدأ المنفعة كتعليق توضيحي.

إنّ المطالبة المتساوية للجميع بالسعادة في تقدير الأخلاقي والمشرع تنطوي على مطالبة متساوية لجميع وسائل السعادة ومن ثم فإنّ جميع التفاوتات الاجتماعية التي لم تعد تعتبر ملائمة لا تتخذ طابع اللامبالاة البسيطة بل صفة الظلم، ولقد كان تاريخ التحسين الاجتماعي بأكمله عبارة عن سلسلة من التحولات والتي بموجبها انتقلت عادة أو مؤسسة تلو الأخرى من كونها ضرورة أساسية للوجود الاجتماعي إلى مرتبة الظلم والطغيان الموصومين عالميًا.

هكذا كان الأمر مع الفروق بين العبيد والأحرار والنبلاء والأقنان والنبلاء والعوام، حيث هكذا سيكون وجزئيًا بالفعل مع أرستقراطيات اللون والعرق والجنس.

هنا نرى ميل يعرّف الحياد النفعي مع متطلبات العدالة والأخلاق نفسها، وقد يتساءل المرء عما إذا كانت النفعية هي الطريقة الوحيدة أو الأفضل لفهم الحياد، ولكن في الواقع هذه طريقة واحدة لفهم المخاوف المألوفة الآن حول تداعيات النفعية على قضايا عدالة التوزيع وحقوق الفرد، ولكن هذه القراءة للإثبات لها فضيلة تحديد دفاع ميل عن النفعية بميزة جعلتها ذات تأثير تقدمي تاريخيًا.


شارك المقالة: