الخلفية الفكرية للفيلسوف جون ستيوارت ميل

اقرأ في هذا المقال


لا يمكن للمرء أن يقدّر بشكل صحيح تطور الفلسفة الأخلاقية والسياسية لميل دون بعض الفهم لخلفيته الفكرية، فقد نشأ ميل وفقًا لتقليد الراديكالية الفلسفية والذي اشتهر به جيريمي بنثام (1748-1832) وجون أوستن (1790-1859) ووالده جيمس ميل (1773-1836)، والذي طبق المبادئ النفعية في وعي وطريقة منهجية لقضايا التصميم المؤسسي والإصلاح الاجتماعي.

فلسفة وفكر ميل في المذهب النفعي:

المذهب النفعي يقيم الإجراءات والمؤسسات من حيث تأثيرها على سعادة الإنسان ويحثنا على القيام بالأعمال وتصميم المؤسسات بحيث تعزز في صيغة واحدة السعادة البشرية، وكانت النفعية عقيدة تقدمية من الناحية التاريخية ويرجع ذلك أساسًا إلى نطاقها العالمي في إصرارها على أنّ سعادة الجميع مهمة ومفهومها المتكافئ للنزاهة وإصرارها على أنّ سعادة الجميع مهمة على قدم المساواة، وبسبب هذه الخصائص العامة للنفعية فإنّ تطبيق الراديكاليين للمبادئ النفعية على المؤسسات الاجتماعية يميل إلى تحدي المؤسسات التقليدية للطبقة والامتيازات ودعم الإصلاحات القائمة على المساواة.

وكما هو موثق في سيرة ميل الذاتية (1873) قام والده بإعداد ميل منذ ولادته ليصبح المصلح الفيكتوري الفكري والنفعي النهائي، وكجزء من هذا التدريب المهني تعرض ميل لتعليم متطلب للغاية شكلته مبادئ نفعية، وبينما اتبع ميل النظام الفكري الصارم الذي وضعه والده لسنوات عديدة فقد عانى من أزمة فكرية وعاطفية عميقة في الفترة (1826-1830)، وساعد شفاء ميل من خلال الصداقات التي شكلها مع توماس كارلايل وصمويل كوليريدج اللذين عرفاه على أفكار ونصوص من التقاليد الرومانسية والمحافظة، وعندما خرج ميل من اكتئابه أصبح أكثر اهتمامًا بتنمية الأفراد المتميزين ودور الشعور والثقافة والإبداع في سعادة الأفراد.

على الرغم من أنّ ميل لم يتخل أبدًا عن التقاليد الليبرالية والنفعية والرسالة التي ورثها عن والده، إلّا أنّ أزمته العقلية واستعادته أثرت بشكل كبير على تفسيره لهذا التقليد، وأصبح ينتقد علم النفس الأخلاقي لبينثام ووالده وبعض النظرية الاجتماعية الكامنة وراء خططهم للإصلاح، ويمكن القول إنّ ميل يتجه ويميل إلى التقليل من أهمية ابتكاراته والتقليل من أهمية الانقطاعات الفكرية بينه وبين والده، وأحد مقاييس مدى ابتعاد ميل عن آراء بنثام وجيمس ميل هو أنّ والد ميل نظر إليه على أنّه منشق عن القضية النفعية، ونحن بحاجة إلى محاولة فهم مدى التحول الذي يجلبه ميل إلى المبادئ النفعية والليبرالية للراديكاليين.

الراديكاليون الفلسفيون:

تتعلق بعض أهم ابتكارات ميل في التقاليد النفعية بادعاءاته حول طبيعة السعادة ودور السعادة في الدافع البشري، ويفهم بينثام وجيمس ميل السعادة من منظور المتعة على أنّها تتكون من المتعة، ويعتقدون أنّ الهدف النهائي لكل شخص هو في الغالب إن لم يكن حصريًا الترويج لسعادة الوكيل (المتعة)، حيث يبدأ بنثام مقدمته لمبادئ الأخلاق والتشريع (1789) بهذا الافتراض اللطيف حول الدافع البشري:

“لقد وضعت الطبيعة البشرية تحت حكم سيدين سياديين هما الألم والمتعة”.

يسمح بنثام بأننا قد نتأثر بمتعة وآلام الآخرين، ولكنه يبدو أنّه يعتقد أنّ هذه الملذات المتعلقة بالآخر يمكن أن تحركنا فقط بقدر ما نتمتع بمتعة الآخرين، ويشير هذا إلى أنّ بنثام يؤيد نسخة من الأنانية النفسية والتي تدعي أنّ سعادة الوكيل هي ويمكن أن تكون الهدف النهائي الوحيد لرغباته، وفي قانونه الدستوري غير المكتمل (1832) يوضح بنثام هذا الالتزام بالأنانية النفسية.

بمناسبة كل فعل يمارسه يُقاد كل إنسان لمتابعة هذا الخط السلوكي الذي وفقًا لرؤيته للقضية، والتي يتخذه في الوقت الحالي سيكون في أعلى درجة يساهم في سعادته القصوى.

بنثام هو متعصب عن المنفعة أو السعادة ويتعامل مع السعادة على أنّها تتكون من المتعة، ولذا فإنّ نسخة الأنانية النفسية التي ينجذب إليها هي مذهب المتعة النفسية، ولا يذكر بنثام سبب اعتقاده أنّ متعة المرء هي الهدف النهائي الوحيد للرغبة، وقد يراه كتعميم من ملاحظاته حول الدوافع الكامنة وراء السلوك البشري.

ويعامل جيمس ميل أيضًا مذهب المتعة النفسية كبديهية في مقالته عن الحكومة (1824):

“إنّ الرغبة إذن في تلك القوة الضرورية لجعل الأشخاص وخصائص البشر خاضعة لملذاتنا، هي القانون السائد للطبيعة البشرية”.


فكر بنثام في مبدأ الدوافع:

في بعض الأحيان يبدو أنّ جيرمي بنثام يسمح بمجموعة أكثر تنوعًا من الدوافع أو الاهتمامات النهائية بما في ذلك الدوافع الأخرى المتعلقة، ولكن هذه التنازلات للتعددية النفسية استثنائية، حتى في السياقات التي يدرك فيها بنثام أنّ الدافع الذي لا يتعلق بالمصلحة الذاتية في نهاية المطاف، ويبدو أنّه يتعامل معها على أنّها أضعف وأقل موثوقية من دوافع المصلحة الذاتية.

يدعي بينثام أنّ المنفعة لا تصف فقط الدافع البشري ولكنها تحدد أيضًا معيار الصواب والخطأ، ويقصد بمبدأ المنفعة ذلك المبدأ الذي يوافق أو لا يوافق على كل فعل مهما كان، فوفقًا لميل الذي يبدو أنّه يجب أن يزيد أو يقلل من سعادة الطرف الذي تكون مصلحته موضع تساؤل.

يبقى أن يتحدد من يهم سعادته، وقد يتخيل المرء أنّ هذا هو فائدة الوكيل، وسيكون هذا هو النظير الأخلاقي للأنانية النفسية، ومع ذلك فإنّ إجابة بنثام والإجابة المميزة للمذهب النفعي هما سعادة الجميع، ويقول بنثام أنّ حسابنا للفعل الصحيح والالتزام والواجب يجب أن يحكمه مبدأ المنفعة، ويبدو أنّ هذا يعني أنّ الإجراء صحيح أو إلزامي فقط بقدر ما يعزز المنفعة، ولكن عندئذ يبدو أنّ الفعل الصحيح أو الإجباري هو الذي يعزز المنفعة أكثر أو يزيد المنفعة إلى أقصى حد، ولهذه الأسباب من الشائع أن نفهم بينثام على أنّه يجمع بين مذهب المتعة النفسية ونفعية المتعة.

ولكن إذا كانت هذه هي وجهة نظر بنثام فإنّه يواجه مشكلة لأنّه يجمع بين الادعاء الأخلاقي القائل بأنّ كل واحد منا يجب أن يستهدف السعادة العامة (المتعة) مع الادعاء النفسي، وبأنّ كل واحد منّا لا يمكنه إلّا أن يستهدف (في النهاية) بمفرده السعادة (اللذة)، وهنا يبدو أنّ لدينا حالة خاصة من الصراع بين الأنانية النفسية ومطالب الأخلاق المتعلقة بالآخر أو الإيثار.

الفلسفة السياسية لدى بنثام:

بينثام ليس غافل عن هذا التوتر، ويتناول جزءًا من المشكلة في السياق السياسي في كتابات أخرى ولا سيما خطته للإصلاح البرلماني (1817)، وفي السياق السياسي تكمن المشكلة في كيف يمكننا جعل الحكام المهتمين بأنفسهم يحكمون لمصلحة المحكومين، حيث تشير النفعية إلى أنّه ينبغي عليهم ذلك، وتستحضر إجابة بنثام التزامه بالديمقراطية التمثيلية، ويمكننا التوفيق بين دوافع المصلحة الذاتية وتعزيز الصالح العام إذا جعلنا الحكام مسؤولين بشكل ديمقراطي أمام جميع أولئك الذين يحكمون، ولأنّ هذا يميل إلى جعل مصلحة المحكومين ومصالح الحكام متطابقتين.

حجة بنثام التي شرحها جيمس ميل في مقاله الذي حمل عنوان (عن الحكومة) هي شيء من هذا القبيل:

  1. كل شخص يعمل فقط (أو في الغالب) لتعزيز مصالحه الخاصة.
  2. الهدف المناسب للحكومة هو مصلحة المحكومين.
  3. إنّ الحكام سوف يتابعون الهدف المناسب للحكومة إذا وفقط كانت مصالحهم تتطابق مع مصالح المحكومين.
  4. تتطابق مصالح الحاكم مع مصالح المحكومين إذا وفقط كان مسؤولاً سياسياً أمام المحكومين.
  5. يجب أن يخضع الحكام للمساءلة بشكل ديمقراطي.

كان هذا المنطق هو الذي دفع بنثام وجيمس ميل إلى الدعوة إلى إصلاحات ديمقراطية شملت توسيع حق الامتياز ليشمل العمال والفلاحين.

في الفصل الرابع من المبادئ يحدد بنثام مفهومه عن المتعة والمنفعة بمزيد من التفصيل، ويميز بين الأبعاد الجوهرية والعلائقية للملذات، حيث بعض الأبعاد مهمة أكثر من غيرها، ويقول مذهب المتعة أنّ اللذة هي الخير الجوهري الوحيد وأنّ الألم هو الشر الجوهري الوحيد، وكل الأشياء الأخرى لها قيمة خارجية أو أدائية فقط اعتمادًا على ما إذا كانت وإذا كان الأمر كذلك ومقدار المتعة أو الألم الذي تسببه، ولأنّ المنفعي يطلب منا تعظيم القيمة، فإنّه يجب أن يكون قادرًا على فهم الكميات أو مقادير القيمة المرتبطة بالخيارات المختلفة، حيث يخصص قيمة للمتعة والاستخفاف بالألم.

ويبدو أنّ الكثافة والمدة والمدى هي المتغيرات الأكثر صلة هنا، ويرتبط كل خيار بمتعة وآلام مختلفة في حياة واحدة وعبر الحياة، وبالنسبة لأي خيار معين يجب أن نعرف عدد الملذات والآلام التي ينتجها، سواء كانت تحدث في حياة واحدة أو في حياة مختلفة، ولكل لذة وألم مميزين يجب أن نحسب شدته ومدته، ومن شأن ذلك أن يمنحنا المبلغ الإجمالي للمتعة الصافية أو الألم المرتبط بكل خيار، وثم يجب أن نفعل هذا الخيار بأكبر مجموع، وإذا كان هناك خياران أو أكثر مع أكبر إجمالي فنحن أحرار في تحديد أي من هذه الخيارات.

لا يفترض بنثام أنّ تقديراتنا لما سيعظم المنفعة ستكون دائمًا موثوقة، كما أنّه لا يفترض أننا يجب أن نحاول دائمًا تعظيم المنفعة، ويعد القيام بذلك أمرًا مكلفًا، وقد نقوم أحيانًا بتعزيز المنفعة بشكل أفضل من خلال عدم محاولة الترويج لها مباشرة، ومع ذلك فإنّ المنفعة كما يعتقد هي معيار السلوك الصحيح.


شارك المقالة: