تبدأ أخلاقيات الغموض للفيلسوفة الفرنسية سيمون دو بوفوار بالفرضية الوجودية المركزية القائلة بأنّ (الوجود يسبق الجوهر)، وهذا يعني في الأساس بأننا البشر نخلق جوهرنا أو طبيعتنا من خلال خياراتنا وأفعالنا، فعندما تناقش دو بوفوار جوهر الإنسان فإنّها بذلك لا تشير فقط إلى هذه الفكرة العامة، ولكن أيضًا تشير بوفوار لتأكيد فلسفة مارتن هايدجر في كتابه (الكينونة والزمان) بأنّ خلقنا لأنفسنا في الحاضر يعتمد على كل من أفعالنا السابقة والخيارات التي نتخذها أثناء عرض أنفسنا في المستقبل.
كتاب أخلاقيات الغموض:
من نواحٍ عديدة يواصل كتاب أخلاقيات الغموض (The Ethics of Ambiguity) في عام 1947 الموضوعات التي تم تطويرها لأول مرة في بيروس وسينياس (Pyrrhus et Cinéas)، فلا تزال بوفوار تؤمن بإمكانية وجود الوجود من حيث أنّه لا توجد ضرورة لوجودنا وبالتالي لا يوجد جوهر بشري محدد سلفًا أو معيار قيمة، ومن الأهمية بمكان أن تشرح بوفوار فكرة أنّ حرية الإنسان تتطلب حرية الآخرين لكي تتحقق.
وعلى الرغم من أنّ بوفوار لم تكن راضية تمامًا عن أخلاقيات الغموض إلّا أنّها تظل دليلاً على اهتمامها الطويل الأمد بالحرية والقمع والمسؤولية، بالإضافة إلى عمق فهمها الفلسفي لتاريخ الفلسفة وإسهاماتها الفريدة فيه.
تبدأ هذا العمل بتأكيد الحالة المأساوية للوضع الإنساني الذي يختبر حريته كدافع داخلي عفوي يسحقه الوزن الخارجي للعالم، وتقول إنّ الوجود البشري دائمًا ما يكون مزيجًا غامضًا من الحرية الداخلية لتجاوز الظروف المعينة للعالم وثقل العالم الذي يفرض نفسه علينا بطريقة خارجة عن سيطرتنا وليس من اختيارنا، ولكي نعيش بشكل أخلاقي إذن يجب أن نفترض هذا الغموض بدلاً من محاولة الهروب منه.
بعبارات سارترية فإنّها تطرح مشكلة يريد فيها كل موجود أن ينكر جوهره المتناقض باعتباره لا شيء من خلال الرغبة في أن يكون بالمعنى الدقيق والموضوعي، حيث مشروع محكوم عليه بالفشل وسوء النية، ومن نواحٍ عديدة تتمثل مهمة بوفوار في وصف التحول الوجودي الذي ألمح إليه الفيلسوف جان بول سارتر في كتابه (الوجود والعدم)، ولكن تم تأجيله إلى المحاولة غير المكتملة لاحقًا في كتابه أجهزة الكمبيوتر المحمولة من أجل الأخلاق (Cahiers Pour une Morale).
بالنسبة إلى بوفوار يسمح لنا التحول الوجودي بالعيش بأصالة عند مفترق طرق الحرية والواقعية، وهذا يتطلب أن ننخرط حريتنا في المشاريع التي تنبثق من خيار عفوي، بالإضافة إلى ذلك يجب ألّا يتم تحديد غايات وأهداف أفعالنا على أنّها مطلقة بمعزل عما نختاره نحن، وبهذا المعنى تضع بوفوار حدودًا للحرية، كما أن تكون حراً لا يعني أن تكون لديك رخصة مجانية للقيام بكل ما يريده المرء، وبالأحرى أن تكون حراً يستلزم الافتراض الواعي لهذه الحرية من خلال مشاريع يتم اختيارها في كل لحظة.
وبالتالي لا يُمنح معنى الأفعال من مصدر خارجي للقيم (على سبيل المثال في الله والكنيسة والحالة وعائلتنا وما إلى ذلك)، ولكن في الفعل العفوي للوجود باختيارهم، كما يجب على كل فرد أن يفترض مشروعه بشكل إيجابي (سواء كان ذلك لكتابة رواية أو التخرج من الجامعة أو رئاسة قاعة المحكمة وما إلى ذلك) وعدم محاولة الهروب من الحرية من خلال الهروب إلى الهدف كشيء ثابت، وبالتالي فإننا نتصرف بشكل أخلاقي فقط بقدر ما نقبل وزن اختياراتنا وعواقب ومسؤوليات حريتنا الوجودية الأساسية، كما تخبرنا بوفوار: “أن يكون المرء أخلاقيًا وأن يتحرر هو قرار واحد”.
ولكن أخلاقيات الغموض لدي بوفوار لا تلبي معايير الذاتية الأخلاقية، وللتذكير هذه المعايير ليست معايير أخلاقية نهائية والأحكام الأخلاقية مبنية فقط على رأي فردي، كما أنّه بادئ ذي بدء تقترح دو بوفوار معايير عالمية نهائية لتحديد ما إذا كان الاختيار أو الفعل أخلاقيًا أم لا، فالمعايير هي:
1- ما إذا كانت تعزز الحرية الأخلاقية للآخرين أم لا، وما إذا كانت تتعامل مع الآخر على أنّه (لذاته) أم لا؟
2- ثانيًا لا تستند أخلاقيات دو بوفوار إلى الرأي الفردي فحسب، بل بدلاً من ذلك فإنّ مفهومها للذات هو مفهوم علائقي ومتبادل، وهذا هو أحد جوانب غموض الحالة الإنسانية، كما أنّه لا يوجد شيء مثل رأي فرد منعزل لأنّه لا يوجد شيء اسمه فرد منعزل، ولهذه الأسباب فإنّ أخلاقيات الغموض لدو بوفوار تتعارض مع تعريف الذات الأخلاقية.
بوفوار ونقد فلسفة هيجل:
إنّ الكائن البشري الحقيقي لا يعترف بأي مطلق أجنبي لا يختاره بوعي وفاعلية من قبل الشخص نفسه، وربما تكون هذه الفكرة أفضل ما يمكن رؤيته في نقد بوفوار لهيجل والذي يمتد عبر هذا النص، فعلى الرغم من أنّ هيجل ليس الفيلسوف الوحيد الذي تتحاور معه (فهي تخاطب كل من الفلاسفة إيمانويل كانط وكارل ماركس ورينيه ديكارت وجان بول سارتر أيضًا)، إلّا أنّ هيجل يمثل التبلور الفلسفي لرغبة البشر في الهروب من حريتهم من خلال غمرها في مطلقة خارجية.
وهكذا فإنّ هيجل بالنسبة لبوفوار يؤسس ذاتًا مطلقة لا يأتي إدراكها إلّا في نهاية التاريخ، مما يبرر تضحية عدد لا يحصى من الأفراد في السعي الدؤوب لتحقيق كمالها، وعلى هذا النحو فإنّ المطلق لهيجل يمثل تجريدًا يؤخذ على أنّه حقيقة الوجود التي تقضي على الحياة البشرية الفردية التي تتكون منها بدلاً من الحفاظ عليها، وفقط الفلسفة التي تقدر حرية كل فرد يمكن أن تكون أخلاقية.
إنّ الفلسفات مثل فلسفات هيجل وكانط وماركس التي تمنح امتيازًا للكوني مبنية على التقليل الضروري من الخاص وعلى هذا النحو، لا يمكن أن تكون أنظمة أخلاقية أصيلة، وتدّعي بوفوار ضد فلاسفة المطلق هؤلاء، وأنّ الوجودية تحتضن تعددية البشر الملموسين المعينين المتورطين في مواقفهم الفريدة والمشاركين في مشاريعهم الخاصة، ومع ذلك تؤكد بوفوار أيضًا أنّه على الرغم من أنّ الأخلاق الوجودية تدعم قدسية الأفراد إلّا أنّ الفرد يقع دائمًا داخل مجتمع، وعلى هذا النحو فإنّ الوجود المنفصل يرتبط بالضرورة ببعضه البعض.
وتجادل بأنّ كل مشروع يتم التعبير عنه في عالم يسكنه وبالتالي يؤثر على البشر الآخرين، كما تدافع عن هذا الموقف من خلال العودة إلى الفكرة التي تم التطرق إليها في كتابها بيروس وسينياس (Pyrrhus et Cinéas) والتي تم تطويرها بشكل كامل في الأخلاقيات، وهو أنّ المشاريع الفردية تقع على عاتقها إذا لم يكن هناك آخرون تتقاطع معهم مشاريعنا والذين يقومون بالتالي بتنفيذ أعمالنا إلى ما وراءنا في المكان والزمان.