الفلسفة الأخلاقية لفرانسيس هربرت برادلي

اقرأ في هذا المقال


لم يكن موت فرانسيس هربرت برادلي حتى بالنسبة لزملائه الفلاسفة وفاة شخصية مألوفة بل انتقال اسم عظيم، فمنذ ما يقرب من خمسين عامًا كان منعزلاً، وانقطع عن حياته النشطة في أيامه الأولى بسبب مرض خطير ومتكرر وقضى الجزء الأكبر من حياته في تقاعد شبه مستحيل، في زوج من الغرف المطلة على مروج كنيسة المسيح حيث عاش وعمل بهدوء لدرجة أنّه كان هناك طلاب جامعيون عاشوا لسنوات في كليته وعلى مرمى حجر من غرفه مع القليل من لمحة عنه.

ولم يدرس أو يحاضر قط، ولم يحضر أبدًا اجتماعات الجمعيات العلمية حتى في مجاله الخاص وعندما كان حضوره يضاعف اهتمامهم، في السنوات اللاحقة أصبح تقاعده أعمق، ولم يأكل في الخارج ولم يناقش الفلسفة إلّا في حالات نادرة ومع بعض الأصدقاء المقربين، وقلة قليلة من معلمي الفلسفة الثلاثين أو الأربعين في أكسفورد تحدثوا معه على الإطلاق، حيث لم يره البعض من قبل، ولطلاب الفلسفة كان معروفًا من خلال كتاباته فقط بينما لم يكن معروفًا للجمهور الخارجي على الإطلاق.

سبب دراسة الأخلاق:

لماذا يجب أن أكون أخلاقيًا؟ السؤال طبيعي ومع ذلك يبدو غريباً، ويبدو أنّه يجب أن نطلبه ومع ذلك نشعر عندما نطلبه أنّنا بعيدون تمامًا عن وجهة النظر الأخلاقية، ولطرح السؤال لماذا؟ وذلك عقلاني لأنّ العقل يعلمنا ألّا نفعل شيئًا بشكل أعمى، ولا شيء بدون غاية أو هدف.

كما وإنّها تعلمنا أنّ ما هو جيد يجب أن يكون جيدًا لشيء ما، وأنّ ما هو جيد مقابل لا شيء ليس جيدًا على الإطلاق، ولذا فنحن نعتبر أنّ هناك غاية من جهة، فإنّها تعني من جهة أخرى، حيث وأنّه فقط إذا كانت الغاية جيدة وكانت الوسيلة تؤدي إليها فيحق لنا أن نقول إنّ الوسيلة جيدة، ومن المنطقي إذن أن نسأل دائما لماذا أفعل ذلك؟

فلسفة برادلي الأخلاقية:

تعكس الكتابات الأخلاقية لمثاليي أكسفوردتوماس هيل جرين وفرانسيس هربرت برادلي تأثير إيمانويل كانط وجورج هيجل على الفلسفة الأخلاقية الإنجليزية في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، وإلى الحد الذي يعتمد فيه أي منهما على مصادر أخرى فإنّ أرسطو هو الذي يلجأ إليه بدلاً من الفلاسفة الأخلاقيين البريطانيين مثل جوزيف بتلر أو ديفيد هيوم أو توماس ريد.

نقطة تتضح هنا من حقيقة أنّ جرين وبرادلي يقدمان نوعًا من سرد الكمال للأخلاق التي يتم التعبير عنها من حيث مفهوم تحقيق الذات ومن ظهور رجل الحكمة العملية لأرسطو (الفرونيموس) في الخامس مقال من الدراسات الأخلاقية لبرادلي.

هذا بالإضافة إلى ذلك تم توجيه الكثير من انتباههم إلى التحليلات النقدية للنفعية – النظرية الأخلاقية السائدة في ذلك الوقت – ومذهب المتعة الذي ارتبطت به سواء أكانت هذه النظرة تقدم أولوية المتعة إمّا في شكل حساب نفسي عن الدافع أو الشعور بأنّ الإجراءات الصحيحة تهدف إلى التعظيم.

في الواقع لم يضطر برادلي إلى الاستغناء عن ادعاءات النفعية الأكبر سنًا مثل جيرمي بنثام وجون ستيوارت ميل فحسب، بل كان عليه أيضًا مواجهة الدفاع الجديد عن النفعية الذي قدمه هنري سيدجويك الذي نشر كتابه (طرق الأخلاق) في عام 1874 وفي وقت واحد تقريبًا مع دراسات برادلي الأخلاقية (1876).

بالنسبة للجزء الأكبر من القرن العشرين اعتبرت هجمات برادلي الانتقادية على مذهب المتعة والنفعية هي الجزء الأفضل من كتابه، ففي خلال هذه الفترة نفسها كان من المعتاد أيضًا قراءة المقال الخامس (محطتي وواجباته) على أنّه يعبر عن موقف برادلي الخاص وقد تمّ تفسير ذلك على أنّه مشتق ويعتمد بشكل كبير على رؤية هيجل للمجتمع ككائن حي لأشخاص مترابطين.

وتم إدراكه لاحقًا ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى دراسات بيتر نيكلسون للفلسفة الأخلاقية والسياسية للمثاليين البريطانيين، حيث أنّ اتخاذ منظور (محطتي) باعتباره نهائيًا يغفل أهمية المقال التالي المعنون (الأخلاق المثالية) في الديالكتيك تقدم مقالات برادلي.

في حين أنّ هذا التذكير حول أهمية المقالات اللاحقة يحمي من سوء قراءة جسيم لحجج الدراسات الأخلاقية، فإنّه يدعو إلى خطأ مختلف من خلال الإشارة إلى أنّ برادلي يحاول تحديد المبدأ الأخلاقي الأسمى الذي ينبغي أن يوجه الخيارات والأفعال البشرية، الآن بالنسبة لهنري سيدجويك هذا هو الهدف الكامل للفلسفة الأخلاقية وهو ينتقد ادعاء جرين بأنّ نهاية الفعل هي تحقيق الذات على أساس أنّ هذه الفكرة ببساطة عامة وغامضة للغاية بحيث لا تكون مفيدة عمليًا في إعلامنا بما يجب علينا فعله.

في أي ظرف من الظروف فإنّه وبسبب عدم التحديد يرفض هنري سيدجويك ذلك باعتباره تعبيرا محتملاً عن الغاية الأخلاقية العليا (بالطبع تعدد المبادئ النهائية غير القابلة للاختزال يتركنا أيضًا بدون اتجاه واضح وإيجاده لمبدأين من هذا القبيل هو ما يؤدي إلى فشل نظرية هنري سيدجويك).

وعلى النقيض من ذلك من الأهمية بمكان أن ندرك أنّ برادلي لم يشارك أو مهتمًا جدًا بهذا النوع من المشاريع، وبدلاً من ذلك يريد أن يفهم المنظور الأخلاقي وطبيعة الفاعلين الأخلاقيين وأيضًا أن يكشف عن البنية المنطقية للتداول والاختيار.

كانت الدراسات الأخلاقية كتاب برادلي الوحيد عن الفلسفة الأخلاقية والذي نُشر عندما كان صغيرًا جدًا في عام 1876، وتم تنظيمه حول مفهوم تحقيق الذات والذي يقدم الأخلاق الميتافيزيقية بمعنى أنّه يهتم بشكل كبير بفهم العامل الأخلاقي، وهو الأمر الذي يستلزم وضع بنية الاختيار الإرادي.

في هذا الصدد يقدم برادلي نظرية التفكير العملي، والنهاية الشاملة للتفكير العملي هي تحقيق الذات ولذا فليس من المستغرب أن يعتقد برادلي أنّ الهدف الرئيسي للفعل الأخلاقي هو أن نصبح صالحين أخلاقياً قدر الإمكان ممّا يجعل العالم أفضل أخلاقياً في هذه العملية، وتم تطوير نظرية الكمال هذه والدفاع عنها ليس من منظور الفضائل الأخلاقية ومساهمتها في الحياة الجيدة ولكن على أساس أنّ إدراك الذات هو سمة ضرورية للبنية المنطقية للأفعال الأخلاقية المتعمدة.

دور الفيلسوف في تفعيل العمل الأخلاقية بين الناس:

تأتي البيانات الأساسية لتحليل العمل الأخلاقي من ملاحظة الأحكام العملية التي يتخذها الناس العاديون وفهمهم واستخدامهم للمفاهيم المعيارية، ويتمثل دور الفيلسوف في شرح هذا العالم الأخلاقي بدلاً من إنشاء مبادئ تملي كيف يجب على الناس التصرف.

في هذا الصدد يقدم برادلي نظرية أخلاقية وصفية وليست إلزامية، ومع ذلك فهو يرى أنّ تعلم كيف يتطور الطفل من مخلوق لديه شهية ويحتاج إلى عامل أخلاقي ناضج وعاكس قادر على إجراء مداولات وخيارات معقدة، كما تتطلب الإجابة على هذا السؤال نظرية نفسية للتطور الأخلاقي تفسر سبب متابعة الأفراد للأهداف المحددة التي يقومون بها.

وكذلك في هذا السياق تتمتع الدراسات الأخلاقية بشيء من نكهة الأخلاق المتجنس، حيث يدعي برادلي أنّ إثبات أنّ الغاية النهائية للفعل هو إدراك الذات سيتطلب تأسيس طبيعة الذات والواقع وعملية الإدراك والتي من شأنها أن ترقى إلى وجود نظام متطور من الميتافيزيقا، وأنّه في غياب هذا فإنّ الأفضل يمكنه أن يفعل هو شرح الأطروحة ومحاولة جعلها معقولة ولا ينبغي أن ينخدع القارئ بهذا.

فلطالما كانت الميتافيزيقيا هي الاهتمام الفلسفي الأساسي لبرادلي وتشكلت نظريته الأخلاقية من خلال وجهات نظره الميتافيزيقية والتي يمكن تمييز بعضها بالفعل في الدراسات الأخلاقية، حيث إنّ الندم على أنّه ليس لديه وجهة نظر كاملة التطور وهو أمر شائع في كتاباته، وهو يعكس فقط شعوره بأنّ هناك دائمًا المزيد مما يمكن قوله، على الأقل حتى تكشف لنا أطروحة ميتافيزيقية كاملة التطور عن الواقع.


شارك المقالة: