الفلسفة الأمريكية في القرن التاسع عشر

اقرأ في هذا المقال


في رسالة إلى جون آدامز كتبها عام 1814 اشتكى توماس جيفرسون من أنّه بينما يعيش الشباب الأمريكي في فترة ما بعد الثورة في أوقات أسعد من والديهم، فإنّ هذا الجيل الشاب يحمل كل المعرفة غير الفطرية ليكون في ازدراء أو إهمال على الأقل، وشملت حماقتهم تأييد التعلم الذاتي والاكتفاء الذاتي، لرفض المعرفة المكتسبة في العصور الماضية والبدء على أرضية جديدة من الحدس.

الفلسفة الأمريكية المتعالية:

عكست هذه الشكاوى مخاوف جيفرسون بشأن صعود الرومانسية في أمريكا في أوائل القرن 19، حيث أنّ الفلسفة المتعالية أو الرومانسية الأمريكية كانت الأولى من بين العديد من التقاليد الرئيسية التي تميز الفكر الفلسفي في القرن الأول الكامل لأمريكا كأمة، مع الفلسفة المتعالية نجح تأثير الفكر التطوري الدارويني وتطور أخيرًا إلى مدرسة الفكر البراغماتية الأكثر شهرة في أمريكا.

حدثت حركة هيجل متمركزة في سانت لويس وتم تحديدها إلى حد كبير مع مؤيديها الرئيسي جورج هولمز هويسون في النصف الثاني من القرن 19 ولكن طغت عليها صعود البراغماتية، وحتى المجلة التي أسسها سانت لويس هيغليانز مجلة الفلسفة التأملية اشتهرت لاحقًا بسبب نشرها لمقالات للبراغماتي تشارلز بيرس.

حيث شدد مفكرو التنوير الأمريكي على الاهتمامات الاجتماعية والسياسية، وبناءً على وجهة نظر ميكانيكية نيوتن للعالم ركز مفكرو الفلسفة المتعالية الأمريكية على الأفراد وعلاقتهم بالمجتمع في اتجاه مختلف، فلم يكن هذا الاتجاه مبنيًا على نظرة ميكانيكية للعالم، ولكن على استعارة عضوية شددت على الطبيعة الذاتية للتجربة البشرية والوجود.

لتسليط الضوء على التجربة الشخصية وحتى الشمولية الصوفية في كثير من الأحيان، جادل كتّاب مثل رالف والدو إمرسون وهنري ديفيد ثورو ووالت ويتمان في أولوية الشخصية غير المعرفية وصلات عاطفية بالطبيعة والعالم ككل، فالبشر هم وكلاء في العالم بشكل أساسي أكثر من كونهم يعرفون العالم.

المعرفة الحقيقية هي حدسية وشخصية، كما إنّه يتجاوز الفهم العلمي القائم على خبرة الحس التجريبي، ولهذا السبب فإنّ تلك الأشياء التي تقيد الفكر الشخصي الحر، مثل الأخلاق التقليدية والمؤسسات السياسية تحتاج أيضًا إلى تجاوزها، وتم التقاط هذه الروح في شعر والت ويتمان (أغنية نفسي)، كما أنّ أعمال ايمرسون وثورو يدافعان عن أهمية الاعتماد على الذات والحدس والعودة إلى الطبيعة أي احتضان ما هو غير حضاري وغير صناعي.

يقول إيمرسون في مقالته عام 1836 بعنوان (الطبيعة): “في الغابة نعود إلى العقل والإيمان، وأرى كل شيء من تيارات الكينونة الكونية تدور من خلالي، فأنا جزء أو لا يتجزأ من الله، وفي البرية أجد شيئًا عزيزًا وعلمًا أكثر من الشوارع والقرى”.

يقف العمل المتعالي (The Transcendentalist) عام 1842 لإيمرسون بمثابة بيان لهذه الحركة الفلسفية، حيث يعرّف بوضوح الفلسفة المتعالية على أنّها شكل من أشكال المثالية الفلسفية.

في الوقت نفسه خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر كان هناك مفكرون آخرون أكدوا على قدر أكبر من المساواة الاجتماعية والسياسية، ولا سيما العديد من الكاتبات والناشطات المهمات مثل سارة جريمكي وإليزابيث كادي ستانتون، ولم تأت الدعوة إلى التحرر الاجتماعي والسياسي وهي دعوة من نواح كثيرة للوفاء بوعد التنوير الأمريكي من نساء مثل جريمكي وستانتون فحسب، بل جاءت أيضًا من أولئك الذين يطالبون بإلغاء العبودية ولا سيما ويليام لويد جاريسون وفريدريك دوغلاس.

تمامًا كما تأثر الفكر الفلسفي الأمريكي بنجاح رؤية نيوتن العلمية للعالم طوال القرن 18، وكان لنشر نظرية التطور لتشارلز داروين في عام 1859 تأثيرًا كبيرًا على الفلسفة الأمريكية اللاحقة، وعلى الرغم من عدم معرفتهما على نطاق واسع خارج الدوائر الأكاديمية كتب اثنان من المفكرين على وجه الخصوص بشغف لإعادة تصور الاهتمامات والمواقف الفلسفية على طول الخطوط الداروينية وهما جون فيسك وشونسي رايت.

شدد كلاهما على الحاجة إلى فهم الوعي والأخلاق من حيث تطورهما التطوري، وأصبح هذا النهج الطبيعي التطوري أكثر وضوحًا في نهاية القرن العشرين، حيث كان خارج الأوساط الأكاديمية، ومع ذلك غالبًا تحت عنوان (الداروينية الاجتماعية) كان لهذا الرأي تأثير أكبر، لا سيما من خلال كتابات هربرت سبنسر وويليام جراهام سمنر، وشبه كل من سبنسر وسومنر المجتمعات بالكائنات الحية في صراع من أجل البقاء.

في الواقع كان سبنسر وليس داروين هو من صاغ مصطلح (البقاء للأصلح) لالتقاط ما اعتبره وكثير غيره أهمية النظرية التطورية، وإذا كانت المجموعات داخل المجتمع وحتى المجتمعات نفسها مثل الكائنات الحية في منافسة مستمرة من أجل البقاء، فإنّ علامة على ملاءمتها هي حقيقة أنّ هذه المجموعات تبقى على قيد الحياة بالنسبة لسبنسر.

مثل هذه المنافسة مفيدة وجيدة في الواقع لأنّ أولئك الذين بقوا على قيد الحياة سيكونون قد تنافسوا وفازوا وهذا بيان واضح لتفوقهم، سبنسر وسومنر وآخرون مثل الصناعي أندرو كارنيجي جادلوا بأنّ التداعيات الاجتماعية لواقع مثل هذا النضال من أجل البقاء هو أنّ رأسمالية السوق الحرة هي النظام الاقتصادي الطبيعي والنظام الذي سيضمن أعظم النجاح من أجل الرفاه الاقتصادي للمجتمع.

في مقال سمنر (رجل الفضيلة) أشار إلى أنّ كل رجل وامرأة في المجتمع عليهما واجب كبير، وهذا يعني للعناية بنفسه المجتمع، لذلك لا يحتاج إلى أي رعاية أو إشراف، ويردد كتاب كارنيجي (إنجيل الثروة) هذا الرأي، ومع ذلك لم يشارك الجميع التركيز على المنافسة كمفتاح للفكر التطوري، وكان ليستر وارد أحد المدافعين البارزين عن داروين، والذي جادل مع ذلك بأنّ التعاون وليس المنافسة هو رسالة الفكر التطوري.

ليس فقط تلك المجموعات التي تتعاون وتعمل معًا كمجموعة أكثر احتمالية للبقاء على قيد الحياة من تلك التي لا تفعل كما زعم، ولكن التاريخ البشري أظهر أنّ الحكومة هي سمة طبيعية ناشئة للمجتمعات البشرية بدلاً من كونها مقابل عائق وعائق أمام التقدم.

الفلسفة الأمريكية البراغماتية:

بعد الفلسفة المتعالية والفلسفة التطورية كانت الحركة الفلسفية الثالثة والأكثر شهرة في أمريكا القرن التاسع عشر هي البراغماتية، وتم تعميد البراغماتية بشكل غير رسمي في سبعينيات القرن التاسع عشر من قبل أحد أشهر مؤيديها تشارلز ساندرز بيرس، وينظر معظم الفلاسفة إلى البراغماتية اليوم على أنّها التقليد الفلسفي الأمريكي الكلاسيكي.

ليس من السهل تحديد البراغماتية فهي عبارة عن كوكبة من المبادئ والمواقف والالتزامات الفلسفية، بعضها بارز إلى حد ما لفلاسفة براغماتيين معينين، ومع ذلك هناك خيوط تمر عبر معظم البراغماتيين، وهناك ميل طبيعي قوي بمعنى أنّهم يبحثون عن فهم للظواهر والمفاهيم من حيث كيفية ظهورها وكيف تلعب دورًا في تفاعلنا مع العالم.

تجسد المقولة البراغماتية لبيرس هذا الموقف على النحو التالي: “ضع في اعتبارك التأثيرات التي يمكن تصورها أنّ لها اتجاهات عملية فنحن نتصور هدف مفهومنا، وثم فإنّ تصورنا لهذه التأثيرات هو مفهومنا الكامل عن الشيء”، وهناك رفض لوجهة النظر التأسيسية للمعرفة، فجميع ادعاءات المعرفة قابلة للخطأ ويمكن إعادة النظر فيها.

الجانب الآخر من قابلية الخطأ والمراجعة هو أنّه لا يوجد تحقيق غير مكترث، فالمعتقدات هي في الأساس أدوات بالنسبة لنا للتعامل مع حالات الطوارئ في العالم، بالإضافة إلى ذلك هناك التزام صريح بالذاتية المشتركة والمجتمع، لذلك بينما يرفض البراغماتيون فكرة أي معطيات خالصة من الخبرة، ويرفض البراغماتيون أيضًا أي ذاتية صافية أو التخلي عن معايير الحكم خارج الفرد.

على عكس الحركات الفلسفية الأمريكية التي سبقت البراغماتية، تصارع البراغماتيون مع القضايا والاهتمامات عبر الطيف الفلسفي من الميتافيزيقا الأساسية إلى نظرية المعرفة إلى جميع أشكال علم الأكسيولوجيا (الأخلاقية والسياسية وحتى الجمالية).


شارك المقالة: