اقرأ في هذا المقال
ظهور الفلسفة المهنية (1860-1917):
بينما كان أستاذ الفلسفة في الأكاديمية الكنسية في كييف يوركيفيتش في عام 1861 قد لفت انتباه ناشر ذي صلات جيدة بمقال طويل في عضو المنزل الغامض في الأكاديمية يهاجم مادية وأنثروبولوجيا تشيرنيشيفسكي، والتي كانت في ذلك الوقت شديدة الغضب بين شباب روسيا، بعد أن قررت إعادة إدخال الفلسفة إلى الجامعات فشعرت الحكومة بالقلق خشية أن يخرج تدبير محدود ومحكوم من الفكر المستقل عن السيطرة.
يوركيفيتش:
فما كان من المأمول أن يكون قرار تعيين جوركفيتش في منصب أستاذ بجامعة موسكو في خدمة أهداف الحكومة مع محاربة الاتجاهات الراديكالية العصرية.
في سلسلة من المقالات من سنواته الثلاث الأخيرة في كييف جادل يوركيفيتش بقوة في دعم عدد من الأطروحات التي بدت منفصلة عن بعضها البعض لكنها أظهرت جميعها التزامه العميق بالمثالية الأفلاطونية، ومن مواقفه الأكثر شيوعًا رفضه للمادية الشعبية في ذلك الوقت فلم يكن موجهًا في الواقع إلى المادية الميتافيزيقية ولكن إلى الإختزال المادي.
من بين النقاط التي ذكرها يوركيفيتش أنه لا يوجد وصف فسيولوجي يمكن أن ينصف الوحي الذي قدمه علم النفس الاستبطاني وأنّ تحول الكمية إلى نوعية لم يحدث في الموضوع كما يعتقد الماديون، ولكن في التفاعل بين الموضوع والذات، لم يستبعد يوركيفيتش إمكانية أن تكون الأشكال الضرورية مشروطة بهذا التفاعل، ولكنه تماشياً مع منطق هذه الفكرة استبعد – الشيء في حد ذاته – الذي لا يمكن التعرف عليه كموضوع بدون أي موضوع محتمل.
على الرغم من أنّ يوركيفيتش قدّم بالفعل مخطط نهجه الفلسفي الشامل في مقالته الأولى – إيديجا وتعني الفكرة – في عام 1859 فإنّ آخر مقالته – Razum po ucheniju Platona i opyt po ucheniju Kanta – نظرية أفلاطون للعقل ونظرية كانط من الخبرة – الذي كتبه في موسكو ويعد هذا العمل اليوم أكثر أعماله قراءة.
خلص يوركيفيتش كما فعل سبينوزا وهيجل من قبله إلى أنّ نظرية المعرفة لا يمكن أن تكون بمثابة فلسفة أولى، أي أنّ جسمًا معرفيًا لا يحتاج وإنما في الواقع لا يمكن أن يبدأ بالمطالبة بشروط إمكاناته الخاصة في أشهر تعبير قاله يوركيفيتش: “لكي تعرف أنه من غير الضروري أن يكون لديك معرفة بالمعرفة نفسها.”
واعتبر كانط أنّ المعرفة ليس بالمعنى التقليدي الأفلاطوني كمعرفة لما هو حقًا، ولكن بمعنى مختلف جذريًا مثل المعرفة الصالحة عالميًا، ومن ثم بالنسبة لكانط كان هدف العلم هو تأمين المعلومات المفيدة بينما كان العلم بالنسبة لأفلاطون يؤمن الحقيقة.
لسوء الحظ حال أسلوب يوركيفيتش دون نشر أكبر آرائه في أيامه، فقد كانت آراؤه غير العصرية وتميزت بأنها مغطاة بلغة مدرسية مع إشارات متكررة إلى الكتاب المقدس، ولربما هذه بالكاد تجعله محبوبًا لدى جمهورالشباب العلماني.
ظل يوركيفيتش إلى حد كبير شخصية سخرية في الجامعة، بينما اليوم هذه الصفات نفسها إلى جانب فشله في توضيح حجته بعبارات عقلانية واضحة تجعل دراسة كتاباته مرهقة وغير مرضية، ومن حيث التأثير الفوري لم يكن لديه سوى طالب واحد سولوفيوف، ومع ذلك على الرغم من تأثيره المباشر الضئيل فقد أثبتت الأفلاطونية المسيحية ليوركيفيتش تأثيرها العميق حتى الثورة البلشفية عام 1917 على الأقل.
ب. لافروف:
على عكس يوركيفيتش، كان ب. لافروف (1823-1900) مدرس الرياضيات في أكاديمية بطرسبورغ العسكرية، وكان يطمح بنشاط إلى الحصول على كرسي جامعي في الفلسفة الذي كان موجود في العاصمة عندما أعيد المنصب في أوائل ستينيات القرن التاسع عشر، ومع ذلك يبدو أنّ الحكومة اشتبهت بالفعل في ولاء لافروف المشكوك فيه، وعلى الرغم من توصية ك.كافلين وهو عالم يحظى باحترام واسع، منح المنصب إلى سيدونسكي بدلاً من ذلك.
في سلسلة من المقالات المطولة التي كتبها عندما كان لديه تطلعات جامعية طور لافروف موقفًا أطلق عليه – الأنثروبولوجيا -، والذي عارض التكهنات الميتافيزيقية بما في ذلك المادية الراديكالية اليسارية، وبدلاً من ذلك دافع عن ظاهرة معرفية بسيطة تحمل في كثير من النقاط تشابهًا معينًا مع موقف كانط، على الرغم من عدم تعقيداتها وفروقها ودقتها.
بشكل أساسي أكد لافروف أنّ جميع الادعاءات المتعلقة بالأشياء يمكن ترجمتها إلى بيانات حول المظاهر أو مجموعة منها، بالإضافة إلى ذلك رأى أنّ لدينا مجموعة من القناعات المتعلقة بالعالم الخارجي قناعات تكمن أساسها في لقاءات تجريبية متكررة بمظاهر مماثلة.
إنّ عدم قابلية الوعي للشك وإيماننا الذي لا يقاوم في واقع العالم الخارجي أمران أساسيان وغير قابلين للاختزال، وإن خطأ المادية والمثالية في الأساس هو المحاولة الخاطئة لانهيار أحدهما إلى الآخر، ونظرًا لأنّ كلاهما أساسي فإنّ محاولة إثبات أي منهما كانت خاطئة من البداية.
تماشيًا مع هذا الشك جادل لافروف بأنّ دراسة – ظواهر الوعي – و- فينومينولوجيا الروح -، لا يمكن رفعها إلى علم إلا من خلال التأمل الذاتي وهي طريقة سماها – ذاتية -، وبالمثل فإنّ العلوم الطبيعية المبنية على إيماننا الراسخ بالعالم الخارجي تحتاج إلى القليل من الدعم من الفلسفة، وعلى سبيل المثال: التشكيك في قانون السببية هو في الواقع تقويض لوجهة النظر العلمية.
مبادئ لافروف للفلسفة العلمية:
بالتوازي مع مبدأي الفلسفة النظرية تحدث لافروف عن مبدأين أساسيين للفلسفة العملية:
- المبدأ الأول هو أن الفرد حر بوعي في نشاطه الدنيوي، وعلى عكس كانط فإنّ هذا المبدأ ليس مسلمة بل حقيقة استثنائية، لا يحمل أي آثار نظرية، وبالنسبة للافروف فإنّ المجال الأخلاقي مستقل تمامًا عن النطاق النظري.
- المبدأ الثاني هو – الخلق المثالي – تمامًا كما هو الحال في المجال النظري، نضع أنفسنا ضد عالم حقيقي، وكذلك الأمر في المجال العملي نضع أنفسنا ضد المُثل العليا، وتمامًا كما أنّ العالم الحقيقي هو مصدر المعرفة فإنّ عالم مُثُلنا هو الدافع للعمل.
من خلال تحويل صورتنا عن أنفسنا إلى مثال مثالي، نخلق مثالًا للكرامة الشخصية، ففي البداية يصور الفرد البشري الكرامة على أسس أنانية، ومع ذلك بمرور الوقت يؤدي تفاعل الفرد بما في ذلك المنافسة مع الآخرين إلى تصوره لهم على أنهم مطالب متساوية في الكرامة والحقوق، وفي ربط الحقوق بكرامة الإنسان أنكر لافروف بالتالي أن للحيوانات حقوقًا.
ميخائيلوفسكي:
ميخائيلوفسكي (1842-1904) كان كاتبًا مشهورًا أكثر من لافروف، ومع ذلك تكمن أهمية ميخائيلوفسكي في تاريخ الفلسفة الروسية في دفاعه عن دور الذاتية في الدراسات الإنسانية، على عكس العلوم الطبيعية التي يتمثل هدفها في اكتشاف القوانين الموضوعية.
ووفقًا لميخائيلوفسكي يجب على العلوم الإنسانية أن تأخذ في الاعتبار الحقيقة المعرفية غير القابلة للاختزال للنشاط الواعي الموجه نحو الهدف، على الرغم من عدم التنصل من أهمية القوانين الموضوعية فقد أكد كل من لافروف وميخايلوفسكي أنّه يجب على علماء الاجتماع تقديم تقييم شخصي وأخلاقي في تحليلاتهم، على عكس علماء الطبيعة يدرك علماء الاجتماع قابلية القوانين المطروحة للتحقيق.
ليسيفيتش:
وجدت الوضعية الكومتية التي حظيت باهتمام كبير في روسيا في القرن التاسع عشر مدافعها الأكثر حزمًا وفلسفة في ليسيفيتش (1837-1905) بعد أن اكتشف أنّه يفتقر إلى أساس علمي، وهنا اعتقد ليسيفيتش أنّ الوضعية بحاجة إلى تحقيق في المبادئ التي توجه تحصيل المعرفة.
مثل هذا التحقيق يجب أن يأخذ كمًا مسلمًا به من المعرفة دون أن يتطابق معها، وبالنسبة إلى التهمة الهيجلية الكلاسيكية الآن بأنّ مثل هذا الإجراء يرقى إلى عدم المغامرة في الماء قبل تعلم كيفية السباحة، فأجاب ليسيفيتش أنّ ما كان مطلوبًا لم يكن إذا جاز التعبير كيفية السباحة بل الشروط التي تجعل السباحة ممكنة، وفي هذا السياق لجأ بوعي إلى النموذج الكانطي بينما ظل ينتقد بشدة أي حديث عن البداية، إلّا أنّه في النهاية اعتمد ليسيفيتش بشكل كبير على علم النفس والتجريبية لتأسيس شروط المعرفة، وبالتالي ترك نفسه مفتوحًا لتهمة علم النفس والنسبية.
مع مرور السنين انتقل ليسيفيتش من – الواقعية النقدية – المبكرة التي كرهت التكهنات الميتافيزيقية إلى تقدير لوضعية ريتشارد أفيناريوس وإرنست ماخ، ومع ذلك فإنّ هذا المقت بالذات الذي كان بالتأكيد غير عصري بالإضافة إلى مشاركته السياسية حدت إلى حد ما من نفوذه.
فلاديمير سولوفيوف:
مما لا شك فيه أنّ أعظم الشخصيات الفلسفية التي ظهرت في سبعينيات القرن التاسع عشر كان فلاديمير سولوفيوف (1853-1900) في الواقع إذا نظرنا إلى الفلسفة ليس على أنّها استفسار مجرّد ومستقل ولكن كمحادثة فكرية مستدامة إلى حد ما فيمكننا تحديد تاريخ بداية الفلسفة العلمانية الروسية: 24 نوفمبر 1874، ذلك اليوم الذي دافع سولوفيوف عن أطروحة رئيسة- Krizis zapadnoj filosofii – أزمة الفلسفة الغربية، لأنّه فقط من ذلك اليوم فصاعدًا نجد نقاشًا مستدامًا داخل روسيا حول القضايا الفلسفية التي تم النظر فيها وفقًا لشروطها الخاصة، أي دون اللجوء العلني إلى تشعباتها الفلسفية مثل آثارها الدينية أو السياسية.
بعد الانتهاء من أطروحة الأستاذ والدفاع عنها صاغ سولوفيوف أطروحة ميتافيزيقية للغاية بعنوان – Filosofskie nachala tsel’nogo znanija – المبادئ الفلسفية للمعرفة المتكاملة والتي لم يكملها مطلقًا، ومع ذلك في نفس الوقت تقريبًا عمل أيضًا على ما أصبح أطروحة الدكتوراه الخاصة به – Kritika otvlechennykh nachal – نقد المبادئ المجردة – وهو العنوان ذاته الذي يشير إلى التأثير الكانطي.
على الرغم من أنّه كان المقصود في الأصل أن يتكون من ثلاثة أجزاء يغطي كل جزء منها الأخلاق ونظرية المعرفة وعلم الجمال، إلّا أنّ العمل المكتمل أغفل الأخير لأكثر من عقد من الزمان فقد ظل سولوفيوف صامتًا عن الأسئلة الفلسفية مفضلاً بدلاً من ذلك التركيز على قضايا الساعة.
عندما تجدد اهتمامه في تسعينيات القرن التاسع عشر بإعداد طبعة ثانية من كتابه كريتيكا أدى الاعتراف بتحول جوهري في آرائه إلى إعادة صياغة منهجيتها في شكل عمل جديد تمامًا، أوبرافاني دوبرا – مبرر الخير -، والذي من المفترض أنّه كان ينوي متابعة تحقيقاته الأخلاقية بأطروحات ذات صلة حول نظرية المعرفة وعلم الجمال، ولكن لسوء الحظ توفي سولوفيوف بعد أن أكمل ثلاثة فصول قصيرة فقط من – الفلسفة النظرية -.
بي. شيشيرين:
كان أكثر نقاد سولوفيوف الفلسفي قسوة هو بي. شيشيرين (1828-1904)، وهو بالتأكيد أحد أكثر الشخصيات تميزًا وتنوعًا في تاريخ الفكر الروسي، على الرغم من اختلافاته الحادة مع سولوفيوف، قبل شيشيرين نفسه وجهة نظر هيجل المعدلة في الميتافيزيقيا، وبالرغم من النظر إلى كل الوجود على أنّه عقلاني، فإنّ العملية العقلانية المتجسدة في الوجود تتكشف – بشكل ديالكتيكي.
ومع ذلك انفصل شيشيرين عن التخطيط الثلاثي التقليدي للديالكتيك الهيجلي، بحجة أنّ اللحظة الأولى تتكون من وحدة أولية بين الواحد والمتعدد، وتعد المسارات أو الخطوات الثانية والثالثة متناقضة وتتخذ أشكالًا مختلفة في مجالات مختلفة، مثل المادة والعقل أو العالمية والخاصة، وفي اللحظة الأخيرة هي اندماج الاثنين في وحدة أعلى.
أما في المجال الاجتماعي والأخلاقي ركز شيشيرين بشكل كبير على الحرية البشرية الفردية، وأنّه يجب أن تسعى القوانين الإجتماعية والسياسية جاهدة من أجل الحياد الأخلاقي، مما يسمح بإزدهار تقرير المصير الفردي، وبهذه الطريقة ظل مدافعًا قويًا عن الليبرالية الاقتصادية، ولم ير في الأساس أي دور للتدخل الحكومي.
لم يكن للحكومة نفسها الحق في استخدام سلطاتها إما للسعي لتحقيق مثال أخلاقي أو لإجبار مواطنيها على البحث عن مثل أعلى، ومن ناحية أخرى يجب ألّا تستخدم الحكومة سلطاتها لمنع المواطنين من ممارسة الأخلاق الخاصة، على الرغم من تلقيه معاملة أقل من المفهوم السلبي للحرية، إلّا أنّ شيشيرين أيّد المفهوم المثالي للحرية الإيجابية باعتباره السعي إلى الكمال الأخلاقي وبهذه الطريقة الوصول إلى المطلق.
وظهرت شخصيات أخرى في هذه الفترة مثل:
- أ. كوزلوف (1831-1901).
- إم كارينسكي (1840-1917).
- لوباتين (1855-1920).
- س.فرانك (1877-1950).
- ن. بيرجاييف (1874-1948).
- شيلبانوف (1863-1936).