النهج الكلاسيكي في فلسفة المنفعة للفيلسوف جيريمي بنثام

اقرأ في هذا المقال


كان النفعيون الكلاسيكيون بنثام وميل مهتمين بالإصلاح القانوني والاجتماعي، وإذا كان من الممكن تحديد أي شيء على أنّه الدافع الأساسي وراء تطور النفعية الكلاسيكي فستكون الرغبة في تغيير القوانين والممارسات الاجتماعية الفاسدة وغير المجدية، ويتطلب تحقيق هذا الهدف نظرية أخلاقية معيارية تستخدم كأداة حاسمة، وما هي الحقيقة بشأن ما الذي يجعل الإجراء أو السياسة عملًا جيدًا أخلاقيًا أو صحيحًا أخلاقيًا؟ لكن تطوير النظرية نفسها تأثر أيضًا بآراء قوية حول الخطأ في مجتمعهم، والاقتناع بأنّ بعض القوانين سيئة.
على سبيل المثال أدى إلى تحليل سبب كونها سيئة، وبالنسبة لجيريمي بينثام فإنّ ما جعلهم سيئين هو افتقارهم إلى المنفعة وميلهم إلى التعاسة والبؤس دون أي تعويض عن السعادة، وإذا كان القانون أو الإجراء لا يجدي نفعًا فهذا ليس جيدًا.

تأثر فكر جيرمي بنثام بفلسفة هيوم:

تأثر جيريمي بينثام (1748-1832) بكلٍ من وصف هوبز للطبيعة البشرية ورواية هيوم للمنفعة الاجتماعية، حيث اشتهر بأنّ البشر يحكمهم سيدان ذوو سيادة وهما اللذة والألم، بحيث نسعى للحصول على المتعة وتجنب الألم فهم “يحكموننا في كل ما نفعله وفي كل ما نقوله وفي كل ما نفكر فيه “.

استفاد بنثام أيضًا من عمل هيوم على الرغم من أنّ مناهجهم للفلسفة الأخلاقية كانت مختلفة تمامًا من نواح كثيرة، حيث رفض هيوم النظرة الأنانية للطبيعة البشرية، وركز هيوم أيضًا على تقييم الشخصية في نظامه، والإجراءات مهمة كدليل على الشخصية ولكن لها فقط هذه الأهمية المشتقة.

مبدأ ومعيار المنفعة:

أصدر جيريمي بينثام مبدأ المنفعة كمعيار للعمل الصحيح من جانب الحكومات والأفراد، وتتم الموافقة على الإجراءات عندما يكون من قبيل تعزيز السعادة أو المتعة ويتم رفضها عندما يكون لديها ميل للتسبب في التعاسة أو الألم، واجمع معيار الصواب هذا مع وجهة نظر مفادها أننا يجب أن نحاول بنشاط تعزيز السعادة الكلية وهناك تناقض خطير مع الأنانية النفسية، وهكذا فإنّ تأييده الواضح للأنانية النفسية لدى هوبز قد خلق مشاكل في فهم نظريته الأخلاقية لأنّ الأنانية النفسية تستبعد العمل على تعزيز الرفاهية العامة عندما يكون ذلك غير متوافق مع الذات.

فبالنسبة للأناني النفسي هذا ليس حتى احتمالًا، لذلك نظرًا لأنّ عبارة: “يجب أن تشير إلى أنّه يمكن” فسيترتب على ذلك أننا لسنا ملزمين بالعمل لتعزيز الرفاهية العامة عندما لا يتوافق ذلك مع رفاهيتنا، ويولد هذا توترًا خطيرًا في فكر بنثام وهو التوتر الذي لفت انتباهه، وبدا أحيانًا أنّه يعتقد أنّه يمكنه التوفيق بين الالتزامين تجريبيًا أي من خلال الإشارة إلى أنّه عندما يعمل الناس على تعزيز الخير فإنّهم يساعدون أنفسهم أيضًا، ولكن هذا الادعاء لا يؤدي إلّا إلى تعكير صفو المياه لأنّ الفهم القياسي للأنانية النفسية – وبيان بنثام نفسه عن وجهة نظره – يحدد دوافع الفعل التي تهم الذات.

ومع ذلك يبدو أنّ هذا مرة أخرى يتعارض مع تحديده الخاص لطريقة اتخاذ القرارات الأخلاقية التي لا تركز على المصلحة الذاتية – في الواقع إضافة المدى كمعامل لقياس المتعة المنتجة يميز هذا النهج عن الأنانية الأخلاقية، وإدراكًا منه للصعوبة بدا في السنوات اللاحقة وكأنّه يتراجع عن التزامه الكامل بالأنانية النفسية معترفًا بأنّ الناس يتصرفون في بعض الأحيان بإحسان- مع وضع الخير العام للإنسانية في الاعتبار.

معيار المنفعة لقياس الفضيلة:

كما أنّ بنثام يأخذ من هيوم وجهة النظر القائلة بأنّ المنفعة هي مقياس الفضيلة، أي المنفعة تفسر على نطاق أوسع من استخدام هيوم الفعلي للمصطلح، وهذا لأنّ هيوم ميز بين المتعة التي يولدها إدراك الفضيلة في الراصد والمنفعة الاجتماعية التي تتكون من السمات التي لها فوائد ملموسة للمجتمع والتي قد تولد أو لا تولد متعة في المراقب.

لكن بينثام لا يعيد صياغة موقف هيوم فقط، فلقد تأثر فقط بحجج هيوم لرؤية المتعة كمقياس أو معيار للقيمة الأخلاقية، إذن لماذا لا ننتقل من الاستجابات الممتعة إلى السمات إلى المتعة كنوع من النتائج الجيدة، وفيما يتعلق بأي تصرفات صحيحة أو خاطئة من الناحية الأخلاقية؟.

في قيامه بهذه الخطوة يتجنب بينثام مشكلة هيوم، ومن وجهة نظر هيوم يبدو أنّ الاستجابة تحدد جودة السمة كفضيلة أو رذيلة، لكن من وجهة نظر بنثام ، فإنّ الفعل (أو السمة) جيد أخلاقياً وصحيح وفاضل في ضوء النتائج التي يولدها، والمتعة أو المنفعة التي ينتجها والتي يمكن أن تكون مستقلة تمامًا عن ردود أفعالنا تجاه السمة، لذلك ما لم يؤيد هيوم نوعًا من اختبار الملاحظ المثالي للفضيلة، فسيكون من الصعب عليه تفسير كيف يرتكب الناس أخطاء في تقييم الفضيلة والرذيلة.

معيار تقييم الفعل في التقييم الأخلاقي:

في التقييم الأخلاقي الشاغل الرئيسي هو الشخصية، ومع ذلك ركز بينثام على تقييم الفعل، وكان هناك ميل والذي لاحظه جيروم سنوويند J.B.Schneewind) 1990)، على سبيل المثال للابتعاد عن التركيز على تقييم الشخصية بعد هيوم ونحو تقييم الفعل، يذكر أنّ بنثام كان مهتمًا للغاية بالإصلاح الاجتماعي، وفي الواقع أثر التفكير في ما كان يمثل إشكالية أخلاقية حول القوانين والسياسات على تفكيره في المنفعة كمعيار، ومع ذلك فعندما يشرع المرء فإنّه يقوم بالتشريع لدعم أو ضد إجراءات معينة لشخصية معروفة، وإذا كانت معروفة على الإطلاق من قبل هذا الشخص فقط.

إذا وجد المرء أنّ عتامة أطروحة الإرادة معقولة، فإنّ الشخصية رغم كونها مثيرة للاهتمام من الناحية النظرية ليست محورًا عمليًا للتشريع، وعلاوة على ذلك كما يلاحظ شنيويند كان هناك شعور متزايد بأنّ التركيز على الشخصية سيكون في الواقع مزعجًا اجتماعيًا، لا سيما إذا كانت وجهة نظر المرء أنّ الشخص الذي لا يتفق مع أحدهم في قضايا أخلاقية كان معيبًا من حيث شخصيته، وبدلاً من مجرد ارتكاب خطأ ينعكس في العمل.

ومن ناحية أخرى يمكن أن يقول بنثام أنّ الناس قد لا يستجيبون للأفعال الصفات الجيدة وربما لا يدركون الآثار الجيدة، ولكن طالما أنّ هناك هذه الآثار الجيدة التي هي بشكل متوازن أفضل من تأثيرات أي مسار عمل بديل فإنّ الإجراء هو الصحيح، ومن الناحية الخطابية على أي حال يمكن للمرء أن يرى سبب أهمية هذه الخطوة لكي يتمكن بينثام من القيام بها حيث كان مصلحًا اجتماعيًا، ولقد شعر أنّ الناس غالبًا ما كانت لديهم ردود فعل تجاه أفعال معينة من المتعة أو الاشمئزاز والتي لا تعكس أي شيء مهم من الناحية الأخلاقية على الإطلاق.

ثم يشير بنثام إلى أنّ الناس يميلون لاستخدام كراهيتهم الجسدية كذريعة للانتقال إلى الكراهية الأخلاقية والرغبة الحاضرة في معاقبة الأشخاص الذين يسيئون إلى ذوقهم، وهذا غير شرعي من وجهة نظره لعدة أسباب، أحدها أن معاقبة شخص على انتهاكات الذوق أو على أساس التحيز من شأنه أن يؤدي إلى عقوبات جامحة فذكر أنّه يجب ألّا يعرف المرء أبدًا أين يتوقف، ويمكن التعامل مع التحيز المعني من خلال إظهار أنّه لا أساس له من الصحة، وهذا يقلل من الكراهية للفعل المعني، وهذا يدل على التفاؤل في بنثام.

وإذا كان من الممكن إثبات أنّ الألم قائم على معتقدات خاطئة فإنّه يعتقد أنّه يمكن تغييره أو على الأقل “تهدئته وتقليله”، وهذا يختلف عن الرأي القائل بأنّه يجب استبعاد الألم أو المتعة المبنية على اعتقاد خاطئ وبنثام لا يصدق هذا الأخير، وبالتالي فإنّ مذهب المتعة لدى بنثام هي مذهب مباشرة للغاية، حيث الخير الجوهري هو المتعة والسيئ هو الألم، وعلينا أن نعزز المتعة ونعمل على تقليل الألم.

عوامل قياس المتعة لدى جيرمي بنثام:

وعندما يُطلب منه اتخاذ قرار أخلاقي يقيس المرء قيمة الفعل فيما يتعلق بالمتعة والألم وفقًا لما يلي:

  • الشدة: ما مدى قوة المتعة أو الألم.
  • المدة: كم تدوم.
  • اليقين: مدى احتمال أن تكون المتعة أو الألم نتيجة الفعل.
  • القرب: مدى قرب الإحساس من أداء العمل.
  • الخصوبة: ما مدى احتمالية أن تؤدي إلى مزيد من الملذات أو الآلام.
  • نقاء: ما مقدار الاختلاط مع الإحساس الآخر.
  • المدى: عدد الأشخاص المتأثرين بالإجراء.

يمكن أن يكون تتبع كل هذه المعلمات أمرًا معقدًا ويستغرق وقتًا طويلاً، فلا يوصي بنثام بأن يدخلوا في كل عمل من أعمال المداولات الأخلاقية بسبب تكاليف الكفاءة التي يجب أخذها في الاعتبار ويمكن أن ترشدنا التجربة، فنحن نعلم أنّ متعة ركل شخص ما يفوقها عمومًا الألم الذي يلحق بهذا الشخص لذا فإنّ مثل هذه الحسابات عند مواجهة إغراء ركل شخص ما ليست ضرورية، ومن المعقول الحكم عليه بالخطأ على أساس الخبرة السابقة أو الإجماع، ويمكن للمرء استخدام “القواعد الأساسية” لتوجيه العمل ولكن هذه القواعد يمكن تجاوزها عندما يتعارض الالتزام بها مع الترويج للسلعة.

فلسفة جيرمي بنثام للجودة الأخلاقية:

كانت وجهة نظر بنثام مفاجئة للكثيرين في ذلك الوقت على الأقل جزئيًا لأنّه رأى الجودة الأخلاقية للفعل يتم تحديدها بشكل فعال، ولا يتعلق الأمر كثيرًا بوجود نوع معين من الإجراءات يكون خاطئًا في جوهره، حيث الأفعال الخاطئة هي خاطئة ببساطة بسبب آثارها وبالتالي فهي خاطئة من الناحية الآلية، وهذا يتعارض مع الرأي القائل بأنّ هناك بعض الإجراءات التي بطبيعتها خاطئة تمامًا بغض النظر عن آثارها.

قد يكون البعض مخطئًا لأنّهم “غير طبيعيين”، ومرة ​​أخرى قد يرفض بينثام هذا باعتباره معيارًا شرعيًا، وقد يكون البعض مخطئًا لأنّهم ينتهكون الحرية أو الاستقلالية، ومرة أخرى سينظر بينثام إلى الحرية والاستقلالية على أنّهما أمران جيدان ولكنهما جيدان من الناحية الآلية وليس جوهريًا، وبالتالي فإنّ أي إجراء يعتبر خاطئًا بسبب انتهاك الاستقلالية هو خطأ مشتق على أسس مفيدة أيضًا، وهذا مثير للاهتمام في الفلسفة الأخلاقية لأنّه بعيد كل البعد عن النهج الكانطي للتقييم الأخلاقي وكذلك عن مناهج القانون الطبيعي.

الجودة الأخلاقية في الفلسفة السياسية والاجتماعية:

كما أنّ  الجودة الأخلاقية مثيرة للاهتمام من حيث الفلسفة السياسية والسياسة الاجتماعية، فمن وجهة نظر بنثام القانون ليس موحدًا وغير قابل للتغيير، ونظرًا لأنّ تأثيرات سياسة معينة قد تتغير فقد تتغير الجودة الأخلاقية للسياسة أيضًا، وأشارت نانسي روزنبلوم إلى أنّه بالنسبة لبينثام لا يقرر المرء ببساطة القوانين الجيدة ويترك الأمر عند هذا الحد حيث: “يجب الاعتراف بسن القوانين كعملية مستمرة استجابة للرغبات المتنوعة والمتغيرة التي تتطلب التعديل”.

قد يكون القانون الجيد في وقت ما قانونًا سيئًا في وقت آخر، وبالتالي يتعين على المشرعين أن يكونوا حساسين للظروف الاجتماعية المتغيرة، لكي نكون منصفين لمنتقدي بنثام بالطبع فإنّهم أحرار في الاتفاق معه على أنّ هذا هو الحال في العديد من المواقف وليس جميعها، وأنّه لا تزال هناك مجموعة فرعية من القوانين التي تعكس حقيقة أنّ بعض الإجراءات خاطئة جوهريًا بغض النظر عن العواقب، ويقع بنثام في موقف أكثر صعوبة يتمثل في الجدل بأنّ التأثيرات كلها موجودة للتقييم الأخلاقي للعمل والسياسة.


شارك المقالة: