ثلاثية بلونديل الميتافيزيقية

اقرأ في هذا المقال


في سنواته الأخيرة عاد الفيلسوف موريس بلونديل إلى موضوعات الحدث عام 1893 وهذه المرة كلحظة في ثلاثية ميتافيزيقية أكثر وضوحًا وهم: الفكر (La Pensée) في عامي 1934 و1935، الوجود والكائنات (L’être et les êtres) في عام 1935 ونسخة جديدة من الحدث (L’action) في عامي 1936 و 1937.

منهجية الثلاثية الميتافيزيقية:

لا تعكس الأعمال اللاحقة فقط مفهومًا فلسفيًا عميقًا للمشكلات التي يتصدى لها بلونديل، ولا تعكس مجرد اتصال أكبر بأفكار الفلاسفة الآخرين ومقارنتها بها بل تعكس أيضًا بنية أكثر منهجية للمشكلات، ومن خلال التعامل مع فئات الفكر وكونه صارمًا في عملين منفصلين ولكن مرتبطين فإنّه يتجنب بعض الصعوبات التي تنشأ عن طريق وضع الفعل كفئة أساسية.

ومع ذلك فإنّ الدراسات المختلفة تشكل كليًا متماسكًا يتم تقريبه في النهاية من خلال أعماله اللاهوتية الأكثر ملاءمة الروح المسيحية والمطالب الفلسفية للمسيحية، وكلها تتوج مثل أول كتاب الحدث وذلك في اعتبارات الخيار وفي العلاقة مع الله، ولا يمكن هنا تقديم سوى سرد مُلصق إلى حد كبير لهذه المجلدات الخمسة للعمل ولكن ربما يمكن توضيح النقاط الرئيسية.

الفكر (La Pensée):

في (الفكر) يضع بلونديل الخطوط العريضة لعقيدة الفكر غير المدروس أو الفكر الكوني وهو الفكر الذي لم يفكر فيه أي مفكر بشري، ولكنه مع ذلك يعترف جزئيًا بأنّه تم جلبه إلى الوضوح بطريقة وسيطة من قبل المفكرين البشريين، ومع ذلك فإنّ هذه البنية المعقولة للظواهر لا تبقى للمراقب مجرد هياكل جوهرية للظواهر وديالكتيك الطبيعة الذي يجب اكتشافه والمشاركة فيه، كما أنّ موضوع التفكير وحده لا يوفر التصميم للعقل والنظام الذي يجده في الكون الذي يستكشفه كما هو الحال في ديالكتيك الروح.

لا يمثل تفكير الذات البشرية وتصرفها أساس الوجود والفكر، ولا مجرد وظيفة أو نتاج لوجود أو فكر بشري سابق، بل بالأحرى كائن غير كافٍ في العمل والتفكير يكون لفعله قابليته للتعقل ويكون لفكره قوته في العمل جزئيًا فقط على أساسه الخاص، وفي الواقع يشرح بلونديل جدلية للخوارق الذي لا يختزل الروحاني إلى الإنسان كما تفعل المثاليةالألمانية، وهو جدل بين الطبيعة والروح والله وهو ديالكتيك غير مكتمل ولكنه غير محدد من منظور العامل البشري، وفي الفكر يحدث هذا من حيث الوضوح ومن حيث علاقة الموضوع بنوعين أساسيين من الفكر.

الوجود والكائنات (L’être et les êtres):

في الوجود والكائنات يتم التعامل مع نفس المشكلة بمصطلحات وجودية وفي نهاية المطاف من خلال مفهوم الكائن المخلوق، ويستنكر بلونديل الأشكال المختلفة لما يسميه الأنطولوجيا والأنطولوجيات التي تفسد أو تجسد بشكل خاطئ بعض جوانب الوجود كأساس أو جوهر لجميع الكائنات الأخرى وللوجود نفسه.

نسخة جديدة من الحدث (L’action):

كما لاحظ في الفكر وتأتي ملاحظته في كل من الحدث عام 1893 والحدث اللاحق، وهناك أوجه تشابه مذهلة بالنظر إلى هذه الصيغة بين إصرار هايدجر في جميع أعماله على أنّ مسألة الوجود قد اختُزلت في كل حقبة تاريخية إلى أسئلة حول الكائنات، ومع ذلك تحيد تحليلات بلونديل جذريًا عن ادعاء هايدجر بأنّ كل التقييم هو ببساطة إسقاط غير شرعي للوجود من جانب الذات، وأنّ الإله المسيحي كمفهوم في نظام فلسفي لاهوتي (على سبيل المثال نظام توماس) لا يعالج الوجود ولكن فقط كائن يتم وضع جميع الكائنات الأخرى في علاقة معه.

أشكال الفكر في فلسفة بلونديل:

يفترض تفكيرنا شكلين لا يتمتعان بالاكتفاء الذاتي بمعزل عن بعضهما البعض ولا مرتبطين بشكل مباشر، وبالتالي لا يمكننا تحديدهما سواء في كيانهما المنفصل أو في ارتباطهما، ويعملان مثل جميع أجيال الطبيعة في الظلام ونوع من اللاوعي.

يسمي بلونديل أحد هذه الأشكال (noétique) أي نوع الفكر الذي يوحد والذي يستوعب عالميًا وتجريديًا، والشكل الآخر هو الهوائي الذي يعتقد أنّه يمسك بالخصوصية والذي يخترق التفرد، وكلاهما يتطلب وساطة الآخر ومهمة إدارة هذه تقدم احتمالات جديدة للخطأ، أو بالأحرى توضيح أسباب بعض الأخطاء، والأخطاء التي تعترف بشكل صحيح بجزء من الكينونة التي يسيئون فهمها.

من ناحية يمكن للمرء أن يحاول فهم جميع الكائنات والفكر والعمل في المقام الأول من خلال وسيط التجريد، ويفرض بالتالي قيودًا على ما يمكن اعتباره حقيقيًا وبالتالي يؤخذ في الاعتبار، ومن ناحية أخرى يمكن للمرء أن يذهب إلى الطرف الآخر ويميز شيئًا معينًا أو منفردًا باعتباره الواقع الوحيد الذي يتم تنظيم كل شيء حوله.

متطلبات أشكال الفكر:

المتطلبات التي يفرضها هذان الشكلان من التفكير الضروريان للإنسان والفعل ولا يمكن التوفيق بينها بأي معنى مطلق للإنسان، ويقدم هذا مطلبين آخرين أحدهما علاقة الإنسان بالذات والآخر علاقة الإنسان بالله:

1- أولاً يتطلب عدم كفاية الفكر الإنساني أنّ كل الفكر يجب أن يوضع في علاقة مع السلوك العملي ولكن لا يقتصر عليه، وبالتالي فإنّ كلًا من الفعل الأخلاقي والمعرفة التأملية يعتمدان على الاستخدام الذي تضع فيه الذات الراغبة نوعي التفكير، ولا تسمح لنفسها بأن يهيمن عليها أي من النوعين بينما تعتمد عليها في تحديد العلاقات مع الذات والعالم وفي النهاية بالله.

2- ثانيًا يتطلب الاعتراف بمثل هذا القصور أيضًا، ونظرًا لحقيقة أنّ الفعل والفكر البشريين يمتلكان في الواقع قدرًا محدودًا من الاكتفاء، والاعتراف بما يسمح بحدوث ذلك أي النظام الخارق للطبيعة وفي النهاية عمل الله الإبداعي والمحب.

الفكر والوجود والعمل ليست ثلاث فئات منفصلة يمكن ترتيبها بشكل تخطيطي أو استنتاجي بمعزل عن بعضها البعض، بادئ ذي بدء يعتبر كل من الفكر والعمل من أنماط الوجود ولا يمكن فصل أي منهما تمامًا عن دراسة عامة للوجود، ولكن من ناحية أخرى لا يمكن اختزال أي منهما إلى نوع من الكائنات، لذلك بعد تحديد الخصائص العامة للوجود يمكن للمرء في نفس الوقت أن يحدد ويقرر كل خصائص الفكر والعمل.

كل الفكر هو نوع من الفعل أيضًا دون أن يكون الفكر قابلاً للاختزال إلى فعل، ويتطلب الوجود من جانبه نشاطًا بالإضافة إلى المدة والتصميم، وأن يكون بالفعل يعني ليس فقط للإنسان ولكن على جميع مستويات الوجود الفعل، ويوفر الفكر وضوحًا متماسكًا وانعكاسيًا لكل من الوجود والفعل والقدرة على تقرير المصير، ومقيدة بأوجه القصور في تحديد الكينونة أو الفعل بشكل كامل ولكنه يعمل أيضًا كوظيفة إرشادية لكليهما.

يتم تقريب الثلاثية الميتافيزيقية من خلال العمل اللاهوتي غير المكتمل جزئيًا الروح المسيحية (L’esprit chrétien) الذي أكملته الدراستان المعنى المسيحي (Le sens chrétien) والاستيعاب (De l’assimilation) اللذان جمعا معًا في العمل المتطلبات المادية للمسيحية (Exigences Philiques du christianisme) نحو كل النصوص من ثلاثية يؤدي.

أدت تحليلات الأعمال السابقة إلى النقطة التي تم فيها إثبات عدم كفاية الفكر البشري فقط والوجود والعمل، وفي الوقت نفسه كان هذا النقص دائمًا متعلقًا بالمطلق وليس القصور المطلق، ويمتلك الإنسان والفكر والعمل الحتمية والجوهرية والاتساق المحدودين، فالفلسفة التي تُنفذ بصرامة وبأكبر قدر ممكن من الصدق الذاتي، وينتهي بها الأمر بالكشف عن حدودها الخاصة وهي المجالات التي لم تعد تمتلك فيها الكفاءة الكاملة.

ومع ذلك فإنّه يحتفظ بدور فيما يتعلق بالمطلق والعلاقة بالمطلق الذي هو الدين، وبالنسبة إلى بلونديل بالكاثوليكية على وجه الخصوص، ويقدم جان لاكروا تلخيصًا ممتازًا لهذا فمن ناحية أظهر الفكر العقلاني مقتضيات وتطلعات يجب أن يستجيب لها الوحي، ومن ناحية أخرى إذا كان هذا هو الجواب حقًا فإنّ هذا الوحي بدوره يجب أن يغذي العقل نفسه، ويجب أن يضخمه بطريقة ما ويمكّنه من التطور بطريقة لا يمكن أن يفعلها من تلقاء نفسه.


شارك المقالة: