شرح الفيلسوف فيلوبونس والرسائل النقدية

اقرأ في هذا المقال


إنّ التحدي الأكبر لطالب الفترة التاريخ القديم من تاريخ الفلسفة بشكل خاص، هو أن يفهم كيف يمكن أن تحدث ظاهرة مثل جون فيلوبونوس على الإطلاق، ومن المؤكد أنّ الصفات الفردية المراوغة لعقله وشخصيته قد لعبت دورًا أساسيًا، ولكن من الصحيح أيضًا أنّ المعايير الفلسفية والاجتماعية والدينية من المحتمل أن توفر الظروف التي سمحت له بمواصلة تحديه غير المسبوق، حيث التقليد الفكري المقبول على نطاق واسع.

شرح الفيلسوف فيلوبونس:

أشار العلماء في الماضي بسهولة إلى الحقيقة المفترضة بأنّ فيلوبونوس نشأ لأول مرة كمسيحي والذي اتصل لاحقًا بامتياز مع العقلانيةاليونانية، حيث يُفترض أنّ هذه الكوكبة حفّزت موقفه المعارض والرفض النقدي، ومع ذلك فإنّ هذا التفسير بعيد عن أن يكون مرضيًا.

تعرض العديد من المسيحيين منذ ولادتهم قبل فيلوبونس وبعده بالمثل للفلسفة الوثنية دون أن يتفاعلوا بطريقة مماثلة، واقترح علماء آخرون أنّ فيلوبونس ربما تلقى أوامر من رؤسائه من رجال الدين لكتابة تفنيد للأرسطية، ومرة أخرى سعى آخرون خاصة فيما يتعلق باختراع نظرية الزخم إلى جذور التحرر الفكري لفيلوبونوس في التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الواسعة التي حدثت في العصور القديمة المتأخرة ولا سيما تحرير العبيد.

وبغض النظر عن الطريقة التي سيتم بها شرح لقب فيلوبونس، ففي النهاية يبدو من المؤكد أنّ ما مكّن فيلوبونس أساسًا من العمل كناقد للأرسطية، وكمفكر بنّاء في حد ذاته مرتبط بطريقة ما بفهم جديد لما يجب على المرء أن يفعل عندما يقرأ ويفسر النصوص الفلسفية لأفلاطون أو أرسطو.

في حين أنّ الأفلاطونيين الجدد وخاصة منذ بروكليس (412-485)، كانوا يميلون إلى التعامل مع هذه النصوص القديمة كنسيج من العلامات الموقرة التي تشير في حد ذاتها وبطريقة معصومة عن الخطأ إلى حقيقة أعلى وإلى الحقيقة السامية، فقد قرأها فيلوبونس (كما يُفعل اليوم) كمؤشرات لأفكار ونوايا المؤلفين غير معصومين من الخطأ.

وقد سمح نهج فيلوبونس الهيرمينوطيقي الأكثر قياسًا لفيلوبونوس بالإشارة إلى التوترات الإشكالية والتناقضات وكذلك التناقضات الصارخة في مجموعة أرسطو، وتسليط الضوء على حالات الخلاف الجوهري بين أفلاطون وأرسطو، وفي المقابل كان برنامج التقليد الأفلاطوني المحدث الذي نشأ فيه إلى حد كبير، إما تجاهل مثل هذه المشاكل التأويلية أو شرحها بعيدًا في محاولة تنسيق التقاليد الغنية والمتنوعة للفلسفة اليونانية الوثنية.

خلود العالم بين فلسفة فيلوبونوس وبروكليس:

كتب البروكليس الأفلاطوني الأثيني (حوالي 411-485)، وهو المعلم الخاص بمعلم الفيلسوف فيلوبونوس للفيلسوف أمونيوس، فقد كتب دفاعًا عن الاقتناع السائد بين الفلاسفة اليونانيين بأنّ العالم أزلي، وكان هدفه هو إثبات عدم إمكانية الدفاع عن الخلق المسيحي، وأُخذت حجج بروكليس الثمانية عشر نقطة انطلاقها من أسطورة تيماوس لأفلاطون، والتي بناءً لبروكليس كانت الأفضل والأكثر تفسيرًا وذلك وفقًا للقراءة الأبدية، وهي الحديث السطحي عن عالم تم إنشاؤه بواسطة نزعة إلهية وكجزء من الإطار الأسطوري والتعليمي وليس مطالبة فلسفية فعلية.

في عام 529 وهو العام الذي وضع فيه الإمبراطور جستنيان حداً للتدريس الفلسفي الوثني في أثينا، نشر فيلوبونوس رداً مفصلاً بعنوان على الخلود في العالم ضد بروكليس، ويرقى الكتاب إلى كونه تعليقًا مضادًا على حجج بروكليان، وبتمشيط نص بروكلوس يرفض فيلوبونوس حرفياً كل نقطة يتم طرحها، على الرغم من أنّ جهوده مدفوعة إلى حد ما بإيمانه المسيحي، إلّا أنّه يبقي اللاهوت الكتابي بعيدًا عن جداله، ومحاولًا دحض بروكليس في إطار الفلسفة الأفلاطونية.

يقرأ تيماوس على أنّه سرد حقيقي للخليقة (الكتاب السادس) ومتوافق مع العقيدة المسيحية، وإنّ التحليل الجديد والمبتكر لعمليات التوليد والفساد يجعل حتى فكرة (قابلة للتطبيق)، والتي رفضها الفلاسفة اليونانيون في جميع المدارس، وهي أنّ الخلق من لا شيء (الكتابان الثامن والتاسع)، وحتى لو كان هذا صحيحًا يرد فيلوبونوس أنّ الخلق من لا شيء لا يحدث أبدًا في الطبيعة، فمن المؤكد أنّ الله خالق أقوى من الطبيعة وبالتالي فهو قادر تمامًا على الخلق من العدم.

خلود العالم بين فلسفة فيلوبونوس وأرسطو:

يمكن تقسيم معركة فيلوبونوس ضد الأبدية إلى ثلاث مراحل، حيث يتبع الأطروحة ضد بروكليس نشرة ثانية وأكثر استفزازية حول الخلود في العالم ضد أرسطو، وقد تم نشر هذا العمل في الأعوام 530-534 وشمل فحصًا دقيقًا للفصول الأولى من كتاب أرسطو حول السماء (نظريته عن الأثير كعنصر خامس، والذي تتكون منه الأجرام السماوية) والكتاب الثامن في الفيزياء (الذي يناقش أبدية الزمن)، ويتم تمثيل المرحلة الثالثة بأطروحة واحدة وربما اثنتين غير جدلية، حيث نجت في أجزاء وتشير إلى أنّ العديد من الحجج ضد الخلود والخلق قد تم ترتيبها في نوع من النظام المنهجي.

مثل الجدل ضد بروكليس فإنّ ضد أرسطو مكرس بشكل أساسي لإزالة العقبات أمام الخلق، وإذا كان أرسطو محقًا بشأن وجود عنصر خامس غير قابل للتغيير (الأثير) في المنطقة السماوية، وإذا كان محقًا بشأن كون الحركة والوقت أبديًا، فإنّ أي اعتقاد في الخلق سيكون بلا مبرر بالتأكيد.

ونجح فيلوبونوس في الإشارة إلى العديد من التناقضات والمغالطات والافتراضات غير المحتملة في فلسفة أرسطو عن الطبيعة المتعلقة بهذه الادعاءات، وذلك بتشريح نصوص أرسطو بطريقة غير مسبوقة فيقلب الجداول مرارًا وتكرارًا على أرسطو، ويمهد الطريق لحجج توضيحية من أجل عدم الخلود، وذكرت إحدى هذه الحجج بواسطة سيمبليسيوس والتي تعتمد على ثلاثة مبانٍ:

  • إذا كان وجود شيء يتطلب الوجود المسبق لشيء آخر، فلن يتحقق أي شيء دون الوجود المسبق للآخر.
  • لا يمكن أن يوجد عدد لا حصر له في الواقع ولا يمكن تجاوزه في العد ولا يمكن زيادته.
  •  لا يمكن لشيء أن يأتي إلى الوجود إذا كان وجوده يتطلب وجود عدد لا حصر له من الأشياء الأخرى، وينشأ أحدهما عن الآخر.

من هذه الافتراضات غير الأرسطية على الإطلاق يستنتج فيلوبونوس أنّ مفهوم الكون اللامتناهي مؤقتًا، والذي يُفهم على أنّه سلسلة سببية متتالية هو أمر مستحيل، وللأجسام السماوية للنظرية الأرسطية فترات مختلفة من الثورة، وفي أي عدد معين من السنوات تمر بأعداد مختلفة من الثورات وبعضها أكبر من البعض الآخر، ويؤدي افتراض استمرار حركتهم إلى الأبد إلى استنتاج مفاده أنّه يمكن زيادة اللانهاية بل ومضاعفتها، وهو ما اعتبره أرسطو نفسه سخيفًا.

تستغل الأطروحات غير الجدلية المناهضة للأبدية حجة أرسطو بأنّ القوة اللانهائية (disnamis) لا يمكن أن توجد في جسم محدود، ويستنتج فيلوبونوس أنّه نظرًا لأنّ الكون هو جسم محدود فلا يمكن أن يكون لـ (dúnamis) موجودًا لفترة غير محدودة.

كما في حالة نظريته عن الضوء فلا تتضمن هذه الحجة على الإطلاق تحولًا غير أرسطي لمعنى المفهوم المركزي للحجة، وهناك تحولت الطاقة من الواقعية إلى النشاط، حيث في سياق حجة أرسطو في (dúnamis) يعني (القوة أو القوى الحركية)، ولكن فيلوبونوس يستخدم الكلمة بمعنى القدرة أو اللياقة للوجود.


شارك المقالة: