فلسفة أدورنو في الأخلاق والميتافيزيقا

اقرأ في هذا المقال


كان الفيلسوف الألماني ثيودور فيزنجروند أدورنو من أهم الفلاسفة والنقاد الاجتماعيين في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.

أهمية فلسفة أدورنو:

على الرغم من أنّ أدورنو أقل شهرة بين الفلاسفة الناطقين بالإنجليزية من معاصره هانز جورج جادامر، إلّا أنّه كان له تأثير أكبر على العلماء والمفكرين في ألمانيا ما بعد الحرب،  ففي الستينيات من القرن الماضي كان أبرز منافس لكل من فلسفة السير كارل بوبر في العلوم وفلسفة مارتن هايدجر في الوجود.

كما كان يورغن هابرماس الفيلسوف الاجتماعي الأبرز في ألمانيا بعد عام 1970 طالبًا ومساعدًا لأدورنو، وينبع نطاق تأثير أدورنو من الطابع متعدد التخصصات لأبحاثه ومدرسة فرانكفورت التي ينتمي إليها، كما أنّها تنبع من الشمولية التي فحص بها التقاليد الفلسفية الغربية خاصة من الفيلسوف إيمانويل كانط فصاعدًا والراديكالية في نقده للمجتمع الغربي المعاصر، حيث كان فيلسوفًا اجتماعيًا بارزًا وعضوًا قياديًا في الجيل الأول من النظرية النقدية.

أعاقت الترجمات غير الموثوقة الاستقبال الأولي لعمل أدورنو المنشور في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية، ولكن منذ تسعينيات القرن الماضي ظهرت ترجمات أفضل إلى جانب المحاضرات المترجمة حديثًا وغيرها من الأعمال التي ما زالت تُنشر بعد وفاته، ولا تسهل هذه المواد التقييم الناشئ لعمله في نظرية المعرفة والأخلاق فحسب بل تعزز أيضًا الاستقبال المتقدم بالفعل لعمله في علم الجمال والنظرية الثقافية.

كتاب الديالكتيك السلبي ودور الفلسفة:

مثل نظرية المعرفة لأدورنو فإنّ فلسفته الأخلاقية مستمدة من ميتاكريتية مادية للمثالية الألمانية، ويُجري نموذج (الحرية) في الديالكتيك السلبي ميتاكريتيك لنقد كانط للعقل العملي، وكذلك أيضًا يقدم النموذج الخاص بالروح العالمية والتاريخ الطبيعي في ميتاكريتيكيا لفلسفة التاريخ عند هيجل، ويُجري كلا النموذجين في نفس الوقت نقاشًا تحت الأرض مع التقليد الماركسي، ويوجه هذا النقاش اعتماد أدورنو لكل من الفلسفة العملية الكانطية والهيجلية.

يشير القسم الأول في مقدمة الديالكتيك السلبي إلى الاتجاه الذي ستتخذه استيلاء أدورنو، وهناك يسأل عما إذا كانت الفلسفة لا تزال ممكنة وكيف، ويسأل أدورنو هذا على خلفية “أطروحات كارل ماركس حول فيورباخ”، والتي أعلنت بشكل مشهور أنّ مهمة الفلسفة ليست مجرد تفسير العالم بل تغييره، وفي تمييزه المادي التاريخي عن المادية الحسية لودفيغ فيورباخ، ويصور ماركس البشر على أنّهم كائنات منتجة وسياسية بشكل أساسي لا ترتبط العلاقات المتبادلة بين الأشخاص فحسب بل هي مجتمعية وتاريخية.

إنّ تركيز ماركس على الإنتاج والسياسة والمجتمع والتاريخ يأخذ نظريته المعرفية في اتجاه براغماتي، والحقيقة لا تشير إلى التطابق المجرد بين الفكر والواقع وبين الافتراض والحقيقة كما يقول، وبدلاً من ذلك تشير الحقيقة إلى الإثمار الاقتصادي والسياسي والمجتمعي والتاريخي للفكر في الممارسة.

ادعاءات أدورنو عن الفلسفة:

على الرغم من أنّ أدورنو يشترك في العديد من حدس ماركس الأنثروبولوجي، إلّا أنّه يعتقد أنّ معادلة القرن العشرين للحقيقة مع الإثمار العملي كان لها آثار كارثية على جانبي الستار الحديدي، وتبدأ مقدمة الديالكتيك السلبي بتقديم ادعاءين:

1- أولاً على الرغم من أنّ الفلسفة قد عفا عليها الزمن، إلّا أنّها تظل ضرورية لأنّ الرأسمالية لم يتم إسقاطها.

2- ثانيًا كان تفسير ماركس للمجتمع الرأسمالي غير ملائم ونقده عفا عليه الزمن، ومن ثم لم يعد التطبيق العملي بمثابة أساس مناسب لتحدي النظرية (الفلسفية)، وفي الواقع يخدم التطبيق العملي في الغالب كذريعة لإغلاق النقد النظري الذي يتطلبه التطبيق العملي التحويلي.

بعد أن فاتتها لحظة تحقيقها (من خلال الثورة البروليتارية وفقًا لماركس المبكر)، يجب على الفلسفة اليوم أن تنتقد نفسها، أي تنتقد سذاجتها المجتمعية وتقادمها الفكري وعدم قدرتها على استيعاب القوة العاملة في الرأسمالية الصناعية المتأخرة، وبينما لا تزال الفلسفة تتظاهر بإدراك الكل فإنّها تفشل في إدراك مدى اعتمادها الكامل على المجتمع ككل ووصولاً إلى الحقيقة الجوهرية للفلسفة.

كما يجب على الفلسفة التخلص من مثل هذه السذاجة، ويجب كذلك أن يسأل كما سأل كانط عن الميتافيزيقيا بعد نقد هيوم للعقلانية كيف تظل الفلسفة ممكنة؟ وبشكل أكثر تحديدًا كيف بعد انهيار الفكر الهيغلي ما زالت الفلسفة ممكنة؟ وكيف يمكن للجهد الديالكتيكي لتصور اللامفاهيمي والذي سعى إليه ماركس أيضًا كيف يمكن استمرار هذه الفلسفة؟

الأخلاق والميتافيزيقا بعد أوشفيتز:

هذا النقد الذاتي المتورط للعلاقة بين النظرية والممارسة هو أحد المصادر الحاسمة لتأملات أدورنو في الأخلاق والميتافيزيقا، وآخر هو التأثير الكارثي لتاريخ القرن العشرين على احتمالات تخيل وتحقيق عالم أكثر إنسانية، فأدورنو هو الأخلاق والميتافيزيقا بعد أوشفيتز، ومن الناحية الأخلاقية كما يقول تفرض همجية هتلر واجبًا قاطعًا جديدًا على البشر في حالة عدم حريتهم، أي حتى يرتبوا أفكارهم وأفعالهم بحيث لن يكرر أوشفيتز نفسه ولن يحدث شيء مماثل.

من الناحية الميتافيزيقية يجب على الفلاسفة أن يجدوا طرقًا مناسبة تاريخيًا للتحدث عن المعنى والحقيقة والمعاناة التي لا تنكر ولا تؤكد وجود عالم متجاوز للعالم الذي نعرفه، في حين أنّ إنكارها سيقمع المعاناة التي تتطلب تغييرًا جذريًا، فإنّ التأكيد الصريح على وجود المدينة الفاضلة من شأنه أن يقطع نقد المجتمع المعاصر والنضال من أجل تغييره، وإنّ أساس إستراتيجية أدورنو المزدوجة ليس أنطولوجيا خفية كما اقترح البعض بل بالأحرى تجربة تأملية أو ميتافيزيقية.

يستدعي أدورنو التجربة التي يتدفق فيها الفكر الذي لا يقطع رأس نفسه، إلى فكرة عالم حيث لن يتم إلغاء المعاناة الباقية فحسب بل سيتم أيضًا إبطال المعاناة التي أصبحت في الماضي بلا رجعة، ولا يمكن لمضادات الميثافيزيقيا الوضعية المنطقية ولا فوق الميتافيزيقيا الهايدجري أن تنصف هذه التجربة، ويشير أدورنو إلى البديل الخاص به لكل من الميتافيزيقيا التقليدية ومضادات الميتافيزيقا الحديثة في فقرات تجمع بين النقد الذاتي الحازم والأمل الحماسي.

تلتقي اهتماماته الديالكتيكية التاريخية والنظرية الاجتماعية والجمالية والسلبية في إحدى مقاطعه، حيث يصف في ذلك المقطع بأنّ الفكر الذي لا يستسلم قبل أن يضيع الوجود البائس أمام معاييره، وتصبح الحقيقة كاذبة وتصبح الفلسفة حماقة.

ومع ذلك يضيف أدورنو بأنّه لا يمكن للفلسفة أن تستسلم خشية أن تنتصر البلاهة في ظل غير معقول (Widervernunft)، فالحماقة هي الحقيقة بالشكل الذي يجب أن يتقبله البشر عندما لا يتخلون عن الحقيقة وسط ما هو غير صحيح، حتى في أعلى قمم الفن هو مظهر، ولكن الفن يستقبل المظهر من عدم التشابه (vom Scheinlosen)، فما من نور يسقط على الناس والأشياء التي لا يظهر التعالي فيها. ومقاومة العين التي لا تريد أن تتلاشى ألوان العالم لا تُمحى في مقاومة عالم التبادل القابل للاستبدال، ووعد بما يشبه اللامشابه، حيث أنّ معالجة مثل هذه المقاطع أمر بالغ الأهمية في التقييم المستمر لفلسفة أدورنو.


شارك المقالة: