فلسفة أدورنو في الجدل السلبي

اقرأ في هذا المقال


تفترض فكرة الفيلسوف ثيودور أدورنو عن محتوى الحقيقة الفنية الادعاءات المعرفية والميتافيزيقية التي يعمل بها بشكل أكثر شمولاً في عمله الفلسفي الديالكتيك السلبي، وهذه الادعاءات بدورها تعزز وتوسع الحجج التاريخية والنظرية الاجتماعية التي تم طرحها بالفعل.

مراحل الديالكتيك السلبي:

كما يوضح سيمون جارفيس بأنّ الديالكتيك السلبي يحاول صياغة مادية فلسفية تاريخية وناقدة ولكنها ليست عقائدية، وبدلاً من ذلك يمكن للمرء أن يصف الكتاب بأنّه ميتاكريتيك للفلسفة المثالية خاصة لفلسفة كانط وهيجل، ويحدث هذا في أربع مراحل:

1- تقدم مقدمة طويلة لديالكتيك السلبي مفهومًا للتجربة الفلسفية، ويتحدى في الوقت نفسه تمييز كانط بين الظواهر ونومينا ويرفض بناء هيجل للروح المطلقة.

2- ثم يميز الجزء الأول لديالكتيك السلبي مشروع أدورنو عن الأنطولوجيا الأساسية في كتاب كينونة هايدجر وزمنها.

3- يعمل الجزء الثاني لديالكتيك السلبي على حل بديل أدورنو فيما يتعلق بالفئات التي يعيد تكوينها من المثالية الألمانية.

4- الجزء الثالث لديالكتيك السلبي الذي يتألف من نصف الكتاب تقريبًا يشرح النماذج الفلسفية.

نقد أدورنو لفلسفة كانط:

تقدم هذه الديالكتيك السلبي في العمل على المفاهيم الأساسية للفلسفة الأخلاقية (الحرية)، وفلسفة التاريخ (روح العالم والتاريخ الطبيعي) والميتافيزيقا، في إشارة إلى الثورة الكوبرنيكية الثانية التي أعلنها كانط فإنّ هذا الوصف يكرر تعليق أدورنو حول اختراق خداع الذاتية التأسيسية.

مثل هيجل ينتقد أدورنو تمييز كانط بين الظواهر والنومينا من خلال القول بأنّ الظروف المتعالية للتجربة لا يمكن أن تكون نقية جدًا أو منفصلة عن بعضها البعض كما يبدو أنّ كانط يدّعي، على سبيل المثال كمفاهيم فإنّ الفئات المسبقة لكلية الفهم (Verstand) ستكون غير مفهومة إذا لم تكن بالفعل تتعلق بشيء غير مفاهيمي، على العكس من ذلك لا يمكن أن تكون الأشكال النقية للمكان والزمان مجرد حدس غير مفاهيمي.

لن يتمكن حتى الفيلسوف المتعالي من الوصول إليها بصرف النظر عن المفاهيم المتعلقة بها، كذلك أيضًا، ما يجعل أي تجربة حقيقية أمرًا ممكنًا لا يمكن أن يكون ببساطة تطبيق لمفاهيم مسبقة على حدس مسبق عبر مخطط الخيال (Einbildungskraft)، والتجربة الحقيقية تصبح ممكنة من خلال ما يتجاوز فهم الفكر والإحساس، ولا يسمي أدورنو هذا الإفراط بالشيء في حد ذاته، على أية حال لأنّ ذلك يفترض الإطار الكانطي الذي ينتقده، بل إنّه يسميها غير المتطابق (das Nichtidentische).

يشير مفهوم اللامطابق بدوره إلى الفرق بين مادية أدورنو ومثالية هيجل، على الرغم من أنّه يشارك هيجل تأكيده على الهوية التأملية بين الفكر والوجود وبين الذات والموضوع وبين العقل والواقع، إلّا أنّ أدورنو ينكر أنّ هذه الهوية قد تحققت بطريقة إيجابية، وبالنسبة للجزء الأكبر حدثت هذه الهوية بشكل سلبي بدلاً من ذلك، وهذا يعني أنّ الفكر الإنساني في تحقيق الهوية والوحدة قد فرض هذه الأشياء على الأشياء وقمع أو تجاهل اختلافاتهم وتنوعهم.

هذا الفرض مدفوع بتشكيل مجتمعي يتطلب مبدأ التبادل معادلة (قيمة التبادل) لما هو غير مكافئ بطبيعته (قيمة الاستخدام)، في حين أنّ الهوية التخمينية لهيجل ترقى إلى مستوى الهوية بين الهوية وعدم الهوية فإنّ أدورنو يرقى إلى عدم الهوية بين الهوية وعدم الهوية، ولهذا السبب يدعو أدورنو إلى ديالكتيك سلبي ولماذا يرفض الطابع الإيجابي لديالكتيك هيجل.

لا يرفض أدورنو ضرورة التماثل المفاهيمي ولا تدعي فلسفته أنّ لها وصولًا مباشرًا إلى غير المتطابق، وفي ظل الظروف المجتمعية الحالية لا يمكن للفكر الوصول إلى غير المتطابق إلّا من خلال الانتقادات المفاهيمية للهويات الزائفة، ويجب أن تكون مثل هذه الانتقادات نفيًا حاسمًا، مما يشير إلى التناقضات المحددة بين ما يدعيه الفكر وما يقدمه بالفعل، ومن خلال النفي الحتمي فإنّ جوانب الشيء التي يخطئ الفكر في التعرف عليها تتلقى صياغة مفاهيمية غير مباشرة.

إنّ الدافع وراء ديالكتيك أدورنو السلبي ليس مجرد مفهوم مفاهيمي ولا موارده الفكرية، ونظريته المعرفية مادية في كلا الأمرين، وهو يقول إنّ الدافع وراءه هو المعاناة الإنسانية التي لا يمكن إنكارها، وهي حقيقة غير منطقية إذا صح التعبير لمواجهة حقيقة العقل عند كانط، والمعاناة هي البصمة الجسدية للمجتمع والهدف على الوعي البشري، وتشمل الموارد المتاحة للفلسفة في هذا الصدد الأبعاد التعبيرية أو المحاكية للغة  والتي تتعارض مع التركيب اللغوي والدلالات العادي (أي المعتمد من المجتمع).

في الفلسفة يتطلب هذا التركيز على العرض (Darstellung) حيث تتفاعل الصرامة المنطقية والمرونة التعبيرية، ومصدر آخر يكمن في العلاقات غير المكتوبة بين المفاهيم الراسخة، ومن خلال إخراج هذه المفاهيم من أنماطها الراسخة وإعادة ترتيبها في مجموعات نجمية حول موضوع معين، ويمكن للفلسفة أن تفتح بعض الديناميكية التاريخية المخبأة داخل الأشياء التي تتجاوز هويتها التصنيفات المفروضة عليها.

ما يوحد كل هذه الرغبات وأكثر ما يميز نظرية المعرفة المادية لأدورنو عن المثالية، سواء كانت كانطية أم هيغلية هو إصراره على أولوية الشيء، ويعتبر أدورنو مثاليًا أي فلسفة تؤكد الهوية بين الذات والموضوع وبالتالي تعطي الأولوية التأسيسية للذات المعرفية.

ادعاءات أدورنو عن الذات المعرفية:

في الإصرار على أولوية الكائن يكرر أدورنو ثلاث ادعاءات:

1- أنّ الذات المعرفية نفسها مشكلة موضوعية من قبل المجتمع الذي تنتمي إليه والذي بدونه لا يمكن للذات أن توجد.

2- أنّه لا يمكن معرفة أي كائن بشكل كامل وفقًا لقواعد وإجراءات التفكير الهووي.

3- أنّ هدف الفكر نفسه حتى عندما ينسى الفكر هدفه تحت ضغوط يسببها المجتمع لفرض الهوية على الأشياء، وهو تكريمهم في عدم هويتهم وفي اختلافهم عما تعلنه لهم عقلانية مقيدة وضد التجريبية، ومع ذلك فهو يجادل بأنّه لا يوجد موضوع ببساطة معطى أيضًا، لأنّه يمكن أن يكون موضوعًا فقط فيما يتعلق بالموضوع ولأنّ الأشياء تاريخية ولديها القدرة على التغيير.

فلسفة الديكالتيك لأدورنو وتطابق الفكر والشيء:

في ظل الظروف الحالية فإنّ الطريقة الوحيدة للفلسفة لإعطاء الأولوية للموضوع هي ديالكتيكية كما يجادل أدورنو، ويصف الديالكتيك على أنّه محاولة للتعرف على عدم التطابق بين الفكر والشيء أثناء تنفيذ مشروع التعريف المفاهيمي، والديالكتيك هو الوعي المتسق بعدم الهوية والتناقض، فمقولته المركزية هو: “غير المتطابق تحت جانب الهوية”، ويقول إنّ الفكر نفسه يفرض هذا التركيز على التناقض علينا.

التفكير هو تحديد ويمكن للفكر أن يحقق الحقيقة فقط من خلال التعريف، ولذا فإنّ مظهر (شيء) للهوية الكاملة يعيش داخل الفكر نفسه ممزوجًا بحقيقة الفكر (حقيقة)، والطريقة الوحيدة لاختراق مظهر الهوية الكلية هي جوهريًا باستخدام المفهوم، ووفقًا لذلك سيظهر كل ما هو مختلف نوعيًا ويقاوم التصور على أنّه تناقض.

لكن التفكير في التناقضات يفرضه المجتمع نفسه على الفلسفة، والمجتمع ممزق بخصومات أساسية والتي وفقًا لمبدأ التبادل يتم تغطيتها بالفكر الهوية، والطريقة الوحيدة لفضح هذه التناقضات وبالتالي للإشارة إلى حلها المحتمل وهو التفكير ضد الفكر، وبعبارة أخرى التفكير في التناقضات، وبهذه الطريقة لا يمكن إرجاع التناقض بدقة إلى الفكر أو الواقع، وبدلاً من ذلك فهي فئة انعكاس (Reflexionskategorie)، مما يتيح مواجهة مدروسة بين المفهوم (مصطلح) والموضوع أو الكائن (شيء)، أي المفعول به شيء وضد هذا التناقض، والتناقض في الواقع الديالكتيك هو تناقض مع الواقع.

ومع ذلك فإنّ نقطة التفكير في التناقضات ليست مجرد وجهة نظر سلبية، وإنّه ذو أفق تحولي هش أي مجتمع لم يعد ممزقًا بالعداءات الأساسية، والتفكير الذي من شأنه أن يتخلص من الإكراه على الهيمنة من خلال التعريف المفاهيمي وازدهار أشياء معينة في خصوصيتها، ولأنّ أدورنو مقتنع بأنّ المجتمع المعاصر لديه الموارد للتخفيف من المعاناة التي يديمها.

فإنّ ديالكتيك السلبي لديه امتداد طوباوي: “في ضوء الاحتمال الملموس لليوتوبيا فإنّ الديالكتيك هو أنطولوجيا الحالة الزائفة، والشرط الصحيح سيتحرر من الديالكتيك ليس أكثر من نظام من التناقض”، وسيكون مثل هذا الشرط الصحيح هو التوفيق بين البشر والطبيعة، بما في ذلك الطبيعة داخل البشر وبين البشر أنفسهم، وتدعم فكرة المصالحة هذه انعكاسات أدورنو حول الأخلاق والميتافيزيقا.


شارك المقالة: