فلسفة أرسطو السياسية

اقرأ في هذا المقال


الفلسفة السياسية:

الفلسفة السياسية يهتم على المستوى التجريدي بالمفاهيم والحجج في الرأي السياسي، وعلى الرغم من صياغة الفلسفات السياسية القديمة في ظل ظروف مختلفة للغاية إلّا أنّ دراستهم لا تزال تلقي الضوء على الأسئلة الحيوية اليوم، فهناك أسئلة تتعلق بأهداف الحكومة وأسس الالتزام السياسي وحقوق الأفراد ضد الدولة وأساس السيادة وعلاقة السلطة التنفيذيةبالسلطة التشريعية وطبيعة الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية التي تم طرحها والإجابة عليها في العديد من طرق على مر القرون، وكلها أساسية للفلسفة السياسية وتطلب إجابات من حيث المعرفة والرأي الحديث.

نبذه قصيره عن الفيلسوف أرسطو:

ولد أرسطو في شبه جزيرة خالكيديك في مقدونيا في شمال اليونان، وكان والده نيكوماخوس طبيب أمينتاس الثالث (حكم حوالي 393 – 370 قبل الميلاد) ملك مقدونيا وجد الإسكندر الأكبر (حكم من 336 إلى 323 قبل الميلاد)، وبعد وفاة والده عام 367 هاجر أرسطو إلى أثينا حيث انضم إلى أكاديمية أفلاطون (حوالي 428 – 348 قبل الميلاد) ومكث هناك لمدة 20 عامًا كطالب وزميل لأفلاطون.

أرسطو والسياسة بنظرة فلسفية:

يلاحظ أرسطو الذي كان تلميذًا في أكاديمية أفلاطون أنّ “جميع كتابات أفلاطون أصلية أي أنّها تظهر البراعة وحداثة النظرة وروح الاستفسار، ولكن الكمال في كل شيء ربما يكون أمرًا صعبًا “، وكان أرسطو عالِمًا وكانت كتابته السياسية التي كتبها أثناء التدريس في المدرسة الثانوية بأثينا جزءًا فقط من سرد موسوعي للطبيعة والمجتمع حيث يحلل المجتمع كما لو كان طبيبًا ويصف العلاجات لأمراضه.

ويعتبر أرسطو السلوك السياسي هنا فرعًا من فروع علم الأحياء بالإضافة إلى الأخلاق، على عكس أفلاطون فقد كان أرسطو فيلسوفًا سياسيًا تجريبيًا، وينتقد العديد من أفكار أفلاطون باعتبارها غير عملية، لكنه مثل أفلاطون معجب بالتوازن والاعتدال ويهدف إلى مدينة متناغمة في ظل حكم القانون.

كيف تقوم الدولة بنظر أرسطو؟

يؤكد أرسطو أنّ جميع المجتمعات تهدف إلى بعض الخير، والدولة (بوليس) والتي يقصد بها ارسطو بكلمة دولة هي مدينة مثل أثينا وهي أعلى نوع من المجتمع، والمجتمعات الأكثر بدائية هي عائلات الرجال والنساء وسادة وعبيد، التي تتحد العائلات لتكوين قرية وتتحد عدة قرى لتكوين دولة وهي أول مجتمع مكتفٍ ذاتيًا.

الدولة ليست أقل طبيعية من الأسرة، ويتضح هذا من خلال حقيقة أنّ البشر لديهم قوة الكلام والغرض منها هو “توضيح ما هو ملائم وغير مناسب وبالتالي بالمثل العادل وغير العادل”، وكان أساس الدولة هو أعظم الفوائد لأنّه فقط داخل الدولة يستطيع البشر تحقيق إمكاناتهم.

يلاحظ أرسطو أنّ “الإنسان حيوان سياسي”، والبشر مخلوقات من لحم ودم تحك أكتاف بعضها البعض في المدن والمجتمعات، وتجمع دراسات أرسطو السياسية مثل عمله في علم الحيوان الملاحظة والنظرية، وقد قام هو وطلابه بتوثيق دساتير 158 ولاية (واحدة منها دستور أثينا التي بقيت على ورق البردي)، ويقول أرسطو إنّ الهدف من السياسة هو التحقيق على أساس الدساتير التي تم جمعها، في ما الذي يجعل الحكومة جيدة وما الذي يجعل الحكومة سيئة وتحديد العوامل المؤاتية أو غير المواتية للحفاظ على الدستور.

أي أنّه مثل أفلاطون يفكر أرسطو من منظور دولة المدينة التي يعتبرها الشكل الطبيعي للحياة الحضارية والاجتماعية والسياسية، وأفضل وسيلة يمكن من خلالها تحقيق القدرات البشرية، ومن هنا كان تعريفه الشهير للإنسان على أنّه “حيوان سياسي”، وقد تميز عن الحيوانات الأخرى بموهبته في الكلام وقوة الحكم الأخلاقي، ويكتب أرسطو أيضاً (الإنسان عند الكمال):

“هو أفضل الحيوانات، ولكن عندما ينفصل عن القانون والعدالة فهو أسوأ من كل شيء، لأنّ الظلم المسلح هو أخطرها، ومجهز منذ الولادة بأذرع الذكاء، والصفات الأخلاقية التي قد يستخدمها في أسوأ النهايات.”


ونظرًا لأنّ كل الطبيعة يسودها الغرض، وبما أنّ البشر “يهدفون إلى الخير” فإنّ دولة المدينة، وهي أعلى شكل من أشكال المجتمع البشري وتهدف إلى تحقيق أعلى فائدة مثل البحارة بوظائفهم المنفصلة والذين لا يزال لديهم هدف مشترك في السلامة في الملاحة، فالمواطنون أيضًا لديهم هدف مشترك بالمعنى الحديث للبقاء والأمن وتحسين نوعية الحياة.

في سياق دولة المدينة هذه النوعية العالية من الحياة لا يمكن أن تتحقق إلا من قبل أقلية، وأرسطو مثل أفلاطون يستثني أولئك الذين ليسوا مواطنين كاملين أو من العبيد، وفي الواقع يقول إنّ بعض الرجال “عبيد بالفطرة” ويستحقون مكانتهم، ويهدف أفلاطون وأرسطو إلى أسلوب حياة أرستقراطي صارم، فهما يعكسان بأشكال أكثر تطوراً وأفكار الأرستقراطيات المحاربة التي رسمها هوميروس.

سيادة القانون لدى أرسطو:

بعد أن ذكر أنّ هدف دولة المدينة هو تعزيز الحياة الجيدة، يصر أرسطو على أنّه لا يمكن تحقيق ذلك إلا في ظل حكم القانون فقال:

“سيادة القانون أفضل من سيادة المواطن الواحد إذا كان هذا هو المسار الأفضل لحكم الأفراد فيجب أن يصبحوا أوصياء القانون أو وزراء القوانين.”


وإنّ سيادة القانون أفضل من حكم أفضل الرجال وذلك بقوله:

“يمكن اعتبار من يطالب بسيادة القانون أنّه يطلب من الله ويسيطر العقل وحده، لكن من يقدم على حكم البشر يضيف عنصر الوحش لأنّ الشهوة وحش مفترس، والعاطفة تفسد أذهان الحكام حتى لو كانوا أفضل الناس.”


هذا المذهب الذي يميز بين الحكم الشرعي والاستبداد نجا من العصور الوسطى، وبإخضاع الحاكم للقانون أصبح العقوبة النظرية للحكومة الدستورية الحديثة.

يؤيد أرسطو أيضًا قاعدة العادات ويبرر الالتزامات التي يقبلها أفراد المجتمع أي الرجل المنفرد كما كتب: “إما وحش أو إله”، وتعكس هذه النظرة في الحال احترام العادات والتضامن الذي عزز البقاء في المجتمعات القبلية البدائية حتى على حساب التضحية بالأفراد وتعطي مبررًا نظريًا لقبول الالتزام السياسي.

مثل أفلاطون يحلل أرسطو الأنواع المختلفة من دول المدن، ففي حين أنّ الدول ملزمة مثل الحيوانات بأن تكون مختلفة إلّا أنّه يعتبر أنّ الدستور “المختلط” المتوازن هو الأفضل، فهو يعكس مثال العدالة (dikē) والتعامل العادل، والذي يعطي كل فرد حقه في نظام اجتماعي محافظ يكون فيه المواطنون من الحالة المتوسطة ترجح، ويهاجم الأوليغارشية والديمقراطية والاستبداد، ففي ظل الديمقراطية كما يقول: “يكتسب الديماغوجيون السلطة عن طريق رشوة الناخبين وإهدار الثروة المتراكمة”، ولكن أكثر ما يمقته أرسطو هو الاستبداد، والسلطة التعسفية للفرد فوق القانون الذي هو:

“لا يتحمل أي مسؤولية تجاه أي شخص ويحكم الجميع على حدٍ سواء لمصلحته الشخصية وليس لصالح رعاياه، وبالتالي ضد إرادتهم، ولا يمكن لأي رجل حر أن يتحمل مثل هذه الحكومة.”


لذلك يقبل أرسطو نظامًا اجتماعيًا محافظًا وهرميًا إلّا أنّه يؤكد بحزم أنّ السلطة العامة يجب أن تهدف إلى تعزيز الحياة الجيدة وأنّه فقط من خلال حكم القانون والعدالة يمكن تحقيق الحياة الجيدة، وكانت هذه المبادئ جديدة في سياق عصره عندما كانت الحضارات العظيمة خارج أوروبا محكومة وبشكل عادل أو غير عادل من قبل السلطة التعسفية للحكام شبه الإلهيين، وعندما كانت الشعوب الأخرى على الرغم من احترام العادات القبلية وسلطة شيوخ القبائل تزداد التي نظمت تحت زعماء الحرب للنهب.

الأرستقراطية وأرسطو:

إنّ حكومة الأقلية هي “أرستقراطية” إذا كانت تهدف إلى مصلحة الدولة و”الأوليغارشية” إذا كانت تفيد الأقلية الحاكمة فقط، والحكومة الشعبية في المصلحة المشتركة يسميها أرسطو “نظام الحكم”، كما يحتفظ بكلمة “ديمقراطية” لحكم الغوغاء الفوضوي.

يقول أرسطو إذا كان المجتمع يحتوي على فرد أو عائلة من التميز الرائع فإنّ الملكية هي أفضل دستور، لكن مثل هذه الحالة نادرة للغاية وخطر الإجهاض كبير لأنّ النظام الملكي يفسد ويتحول إلى الاستبداد وهو أسوأ دستور على الإطلاق، فالأرستقراطية من الناحية النظرية هي ثاني أفضل دستور بعد الملكية (لأنّ الأقلية الحاكمة ستكون هي الأفضل تأهلاً للحكم)، ولكن في الممارسة العملية فضل أرسطو نوعًا من الديمقراطية الدستورية لأنّ ما أسماه “نظام الحكم” وهو دولة فيها يحترم الأغنياء والفقراء حقوق بعضهم البعض ويحكم المواطنون الأفضل تأهيلاً بموافقة الجميع.

أثر عنصران من تعاليم أرسطو على المؤسسات السياسية الأوروبية لعدة قرون وذلك بتبريره للعبودية وإدانته للربا، حيث يقول أرسطو إنّ بعض الناس يعتقدون أنّ حكم السيد على العبد مخالف للطبيعة وبالتالي فهو غير عادل، لكنهم مخطئون تمامًا إذ أنّ العبد هو شخص بطبيعته ليس ملكًا له بل ملكًا لشخص آخر.

ويوافق أرسطو مع ذلك على أنّ الكثير من العبودية غير عادلة من الناحية العملية، ويتوقع أنّه إذا أمكن صنع آلات غير حية للقيام بمهام وضيعة فلن تكون هناك حاجة للعبيد كأدوات حية، ومع ذلك فإنّ بعض الناس أقل شأنا ووحشية لدرجة أنّه من الأفضل لهم أن يسيطر عليهم سيد من أن يتركوا لأجهزتهم الخاصة.

على الرغم من أنّه لم يكن أرستقراطيًا إلّا أنّ أرسطو كان لديه ازدراء أرستقراطي للتجارة، حيث لممتلكاتنا كما يقول استخدامان صحيح وغير لائق، وكذلك للمال أيضًا استخدام مناسب وغير لائق، ويجب أن يتم استبدال الاستخدام الصحيح للسلع والخدمات وليس للإقراض بفائدة، ومن بين جميع طرق كسب المال فإنّ “اتخاذ سلالة من المعادن جرداء” هو أكثر الطرق غير طبيعية.


شارك المقالة: