فلسفة العدم والخيال الإبداعي لدى كاستورياديس

اقرأ في هذا المقال


في حين أنّ القسم الأول من كتاب مؤسسة المجتمع الخيالية (L’institution imaginaire de la société)، فقد قدم نسخة معدلة من نقد الفيلسوف كورنيليوس كاستورياديس لماركس، واحتوى القسم الثاني على نظريته الشاملة للخيال الإبداعي، كما جادل هناك بأنّ الخيال ليس في الأساس قدرة على تكوين صور بصرية، وبدلاً من ذلك إنّها القدرة الفردية أو الجماعية على إنشاء النماذج، أي القدرة على إنشاء العرض التقديمي أو العرض الذاتي للكائن نفسه، وتطورت نظرية الخيال الإبداعي على مدى سنوات عديدة من خلال مقالات ملمًا بالتقاليد الفكرية الغربية.

الخلفية الفلسفية بين كاستورياديس وأرسطو:

في عام 1978 في اكتشاف الخيال ميّز كاستورياديس ما أسماه الخيال الراديكالي من وجهة النظر التقليدية للخيال، وقد تعاملت وجهة نظر أرسطو التقليدية التي تم تصويرها في عن الروح (De Anima) على الخيال على أنّه هيئة تدريس تولد صورة تصاحب الأحاسيس ولكنها عادةً ما تشوهها، ونظرًا لأنّ الأحاسيس نفسها دائمًا ما تكون صحيحة وفقًا لأرسطو، فإنّ القدرة التخيلية الإضافية (التي تعمل بشكل أساسي على إعادة إنتاج ما قدمته الحواس، أو إعادة تجميع الأحاسيس السابقة في صور جديدة، أو لتكملة الإحساس بشكل محير) تم التعامل معها بشكل أساسي على أنّها تشويش للحقيقة.

جادل كاستورياديس أنّ الفلسفة عادة ما تعتبر هذه الرواية للخيال لتكشف عن قوتها الأساسية، وبغض النظر عما إذا كانوا قد هاجموه أو أثنوا عليه فإنّ الفلاسفة يميلون إلى التعامل مع الخيال بهذه الطريقة على أنّه شيء يخلق نوعًا من اللاواقعية الخيالية.

وعلى الرغم من هذه الصورة للخيال على أنّه (سلبي)، فقد جادل كاستورياديس بأنّ المخبأ بشكل أعمق داخل التقليد الفلسفي كان اكتشافًا لخيال أولي وليس مجرد سلبي، وفي الواقع في عن الروح جادل أرسطو بأنّ الخيال الأساسي هو شرط لكل الفكر، بالنسبة إلى كاستورياديس يشير هذا الادعاء إلى أنّه لا يمكن أن يكون هناك فهم للواقع بدون الخيال الأساسي، وجادل كاستورياديس بأنّه ينبغي تفسيره على أنّه قدرة على تقديم الواقع بحد ذاته، وهو عرض تقديمي مطلوب لمزيد من الفهم، وبهذه الطريقة يسبق الخيال الأساسي أي إعادة عرض للواقع.

ومع ذلك ظل أرسطو شخصية غامضة بالنسبة لكاستورياديس، فلقد أثار مشاكل صعبة لأي تفسير للخيال على أنّه سلبي تمامًا أو إعادة تقديم، ولكنه فشل أيضًا في استخلاص النتائج الكاملة لاكتشافه للخيال الأساسي، كما تصور معظم كتاباته ومعظم الفلسفة التقليدية الخيال على أنّه تناسلي أو سلبي أو غامض.

الخلق من العدم:

جادل كورنيليوس كاستورياديس بأنّ الوجود هو الخلق، ووصف الخلق بأنّه ظهور لحداثة سواء أكانت متعمدة أم لا واعية، فهي نفسها غير محددة بشكل كافٍ بالظروف التاريخية السابقة،، وهكذا وصف الخلق بأنّه من العدم أو أنّه نابع من لا شيء (Nihilo)، ومع ذلك فقد أصر أيضًا على أنّ الخلق ليس في شيء ولا يحتوي على شيء.

بعبارة أخرى بينما يجب فهم الخلق على أنّه ينبثق من لا شيء، فإنّ هذا الخلق يظهر دائمًا ضمن مجموعة من الظروف التاريخية أو الطبيعية، ومع ذلك فإنّ هذه الشروط ليست كافية لتفسير وجود الخليقة الجديدة، وبالتالي حتى لو كان هناك (ربما مستحيل) حساب كامل وشامل للظروف التي تؤطر أي مناسبة للخلق، فلا يمكن فهم وجود الخلق الجديد أو خصوصيته تمامًا على أنّه مشتق من تلك الظروف.

على سبيل المثال نحن نفتقد الحداثة التاريخية الجذرية للخلق الاجتماعي اليوناني للديمقراطية، وإذا حاولنا تفسيرها ببساطة من حيث ما كان موجودًا بالفعل في أثينا في ذلك الوقت، فلقد كسر خلق الديمقراطية القيود المشروطة للوضع الاجتماعي القائم، وبهذا المعنى كانت الديمقراطية اليونانية جديدة بشكل جذري.

كاستورياديس وإنشاء العدم:

عارض كاستورياديس مرارًا وتكرارًا إنشاء العدم مع الإنتاج أو خصم العواقب وذلك لأنّ:

1- أولاً يستلزم الإنتاج تقديم مجموعة من العناصر أو المواد، والتي يتم بعد ذلك تشكيلها أو تعديلها إلى منتج جديد، وحتى مفاهيم التمايز الذاتي هي في الحقيقة مجرد أفكار للإنتاجية بهذا المعنى، لأنّها تصور الخلق الجديد -والذي يطلق عليه (X) الأصلي (X-prime)-، على أنّه ينبثق من (X) الأصلي على أنّه مجرد تعديل ذاتي لذلك (X) الأصلي، وبالتالي فإنّ المنتج الجديد لا يتم التعامل معه على أنّه أصلي بحد ذاته بل نسخة معدلة من الأصل، وليس هذا ما يعنيه كاستورياديس بالخليقة الجديدة.

2- ثانيًا في حالة الاستنتاج جادل بأنّ النظرية الاستنتاجية للحداثة تعني فقط أنّ هناك بعض الاستنتاج الجديد، والذي يتبع بشكل كافٍ من مجموعة من العوامل نتيجة لوجود قاعدة أو قانون محدد لعملية الاستنتاج نفسها ( قوانين الاستدلال وما إلى ذلك).

ومع ذلك فإنّ هذا الاستنتاج لا يخلق أو يكشف شيئًا جديدًا لا غنى عنه، بل بدلاً من ذلك فهو ينطوي على استنتاج من المقدمات إلى شيء مختلف من المفترض أن يكون موجودًا بالفعل لأنّ وجوده يأتي من المقدمات، وبالتالي قال إنّ كل من الإنتاج والاستنتاج مدينان لنظريات (الاختلاف) التي تفسر الجديد فقط كمشتق أو تشابه معدل أو شيء موجود بالفعل، وقد عارض كاستورياديس هذه المفاهيم بحدة مع الخلق من العدم.

فلسفة كاستورياديس والمفهوم المعرفي:

الأهم من ذلك أنّ فكرة كاستورياديس عن الخلق لا تعادل المفهوم المعرفي لعدم القدرة على التنبؤ، كما أوضح في عام 1983 في الوقت والخلق (Time and Creation)، ولا يزال الظهور المستمر لشيء ما من شيء آخر غير متوقع تمامًا، وقد يعني عدم القدرة على التنبؤ، فعلى سبيل المثال ببساطة أنّه ليس كل المنتجين أو العوامل أو قوانين الاستدلال ذات الصلة معروفة أو قابلة للمعرفة، بحيث لا يزال من الممكن تحديد حدث أو ظاهرة غير متوقعة من خلال عوامل غير معروفة.

يمكن أن يكون عدم القدرة على التنبؤ نتيجة لقيود المعرفة، وبالتالي فإنّ عدم القدرة على التنبؤ لا يعادل الخلق، بينما وافق كاستورياديس على أنّ العارفين ليسوا على حد علمنا كلي المعرفة، فقد جادل بأنّه مع كل خلق يظهر شيء جديد وجوديًا، وهو شيء لا يبدو مجرد جديد بالنسبة لنا بسبب نقص شخصي في المعرفة، وبفصل الخلق الراديكالي عن مجرد الفكرة المعرفية لعدم القدرة على التنبؤ يدافع كاستورياديس عن فكرة أنّ الخلق يجلب شيئًا جديدًا حقًا.

فلسفة كاستورياديس والحتمية:

علاوة على ذلك جادل كاستورياديس بأنّ الخلق لا يمنع الحسابات الحتمية من الالتصاق إذا جاز التعبير، فلا يمكن أن يتعارض الخلق مع الحتمية فقط، وبدلاً من ذلك يستبعد الخلق فقط فكرة أنّه يمكن أن يكون هناك دمج كامل لمختلف طبقات الكائنات (والإبداعات) ضمن مستوى واحد نهائي وأولي من التحديد، وهكذا لم ينكر كاستورياديس أنّ الإبداع يمكن فهمه من حيث الاختلاف المستمر (الإنتاج والاستنتاج) أو التصميم، بل بدلاً من ذلك تظهر دائمًا طبقة من الاختلاف القابل للتفسير كنتيجة لعلاقة الخلق بتلك الظروف التي تحدث (ولكن ليس منها).

على سبيل المثال في حين أنّ الديمقراطية اليونانية كانت إبداعًا اجتماعيًا جديدًا جذريًا في التاريخ، فإنّ هذا الخلق أيضًا أعاد في نفس الوقت ترسيخ العديد من الظروف التي نشأت فيها، وبالتالي فإنّ الاستمرارية الناتجة و(مجرد) الاختلافات واضحة بين الديمقراطية اليونانية والعالم الموجود قبل ظهورها، وهذه الطبقة من الاستمرارية و(مجرد) الاختلاف يمكن تفسيرها إلى حد ما من حيث ما يمكن إنتاجه أو استنتاجه من الظروف أو العناصر الموجودة بالفعل، ولكن الديمقراطية هي أيضًا شيء أصيل تمامًا وشيء يفتقر إلى الاستمرارية الكاملة لما يسبقه.

أخيرًا لا ينبغي الخلط بين مصطلحات كاستورياديس لـ من العدم (ex nihilo) والمعنى اللاهوتي للخلق من العدم، حيث قال إنّ الخلق اللاهوتي عادة ما يعامل على أنّه (إنتاج) من قبل الله وفقًا للأفكار أو الإمكانات الموجودة مسبقًا مثل طبيعة أو عقل الله، وإنّ الإله الذي ينظر إلى الأفكار الموجودة دائمًا سواء كانت تلك الأفكار خاصة بالله (أوغسطين) أو نماذج أبدية غير متطابقة مع الله (أفلاطون)، ولا يُنظر إليه على أنّه مبدع حقًا بمعنى كاستورياديس.

علاوة على ذلك يقول اللاهوت عادة أنّ خلق العالم هو أمر مكتمل، وقد يلعب دوره بطرق مثيرة للاهتمام، ولكن هذا اللعب لا يشمل إمكانية أي حداثة جذرية، وهكذا فإنّ الحلول التقليدية لمشكلة الثيودسيا -أي إثبات الخير الإلهي والعناية الإلهية في ضوء وجود الشر- سواء كانت تتضمن إلهًا يخلق العالم باستمرار وفقًا للقوانين العامة (مالبرانش) أو إلهًا يخلق أحاديات معبأة مسبقًا (لايبنيز).

كما تفترض دائمًا أنّ الله لديه خطة محددة مسبقًا عندما  خلق العالم (مرة واحدة وإلى الأبد)، وبالتالي فإنّ الخلق اللاهوتي في أقصى نقطة له يتطابق في الواقع مع النزعة الاستبدادية الأكثر راديكالية (سبينوزا)، فكلاهما ينكر الجديد جذريًا، وهكذا قال كاستورياديس مازحا إنّ الروحانيين هم أسوأ الماديين.


شارك المقالة: