فلسفة بايل في الضمير الخاطئ والتسامح الديني

اقرأ في هذا المقال


إنّ اهتمام الفيلسوف بيير بايل بالضمير والتسامح لا يقتصر على التعليق الفلسفي بل هو المكان الذي يدافع فيه بايل بوضوح عن التسامح الديني، ولقد أوضح خطين من الجدل للتسامح الديني أحدهما على أساس مذهبه عن الضمير الضال كما هو مطور في النقد العام لعام 1682 والرسائل الجديدة لعام 1685، وواحد على أساس مبدأ الضوء الطبيعي الذي بموجبه أي قراءة للكتاب المقدس تشير إلى جريمة أخلاقية هي قراءة خاطئة، فبالنسبة لبايل كلا الطريقتين للدفاع عن التسامح الديني ضروريان من أجل منع الإكراه أو من قبل الأشخاص الذين يتصرفون على أساس الضمير سواء كان ذلك الضمير دقيقًا أم خاطئًا.

فلسفة بايل والتسامح الديني:

تفترض حجة بايل للتسامح الديني على أساس مذهبه عن الضمير الخاطئ أنّ علينا واجب وحق في التصرف وفقًا لأنوار الضمير، وهذا ادعاء أقل إثارة للجدل عندما تكون معتقدات الضمير دقيقة، ومع ذلك فإنّ عقيدة بايل عن الضمير الخاطئ تستلزم أنّه حتى عندما تكون معتقدات الضمير خاطئة فإنّ نفس الواجبات وحقوق الضمير تحصل.

يضع بايل بعض الشروط على اكتساب الضمير الضال لهذه الواجبات والحقوق وهي حسن النية، حيث فقط عندما يكون الضمير المخطئ (بحسن نية) -أي عندما يكون الخطأ صادقًا- يحصل الضمير الضال على الحقوق والواجبات ذات الصلة، ويتمسك بايل باستمرار بشرط (حسن النية) في كل من الرسائل النقدية الجديدة والتعليق الفلسفي.

في الرسائل النقدية الجديدة كتب أنّ: “أخطاء حسن النية لها نفس الحق على الضمير مثل الأرثوذكسية سواء اعتنقنا هذه الأخطاء قليلاً جدًا، أو ما إذا كنا قد أجرينا عليها الفحص الأكثر صرامة الذي يمكننا إدارته”، ويضع بايل أخطاء حسن النية للشخص العادي المخلص على قدم المساواة مع أخطاء حسن النية للمفكر الصارم، والأهم من ذلك على نفس الأساس مثل الأرثوذكسية.

فلسفة بايل والتكافؤ الأخلاقي:

يسمح هذا لبايل بتأكيد نوع من التكافؤ الأخلاقي بين الضمير الصحيح والضمير المخطئ، بمعنى أيا كانت الحقوق والواجبات المترتبة على الضمير الصحيح فإنّ الضمير المخطئ يعود أيضًا إلى الضمير الخاطئ، وبالتالي إذا كان يجب التسامح مع معتقدات الضمير الصحيح فيجب التسامح مع معتقدات الضمير الضال، وينظم بايل عدة حجج مختلفة لادعاء التكافؤ الأخلاقي لكن أقوى حجة من الشك.

من المفترض أنّ كل شخص لا يسعه إلّا أن يعتقد أنّ ضميره على حق في الحالات التي تتعارض فيها معتقدات الضمير، وفي غياب الدليل القاطع والموضوعي لاعتقاد الضمير إذن لا يوجد سبب لمنح ضمير ما حقوقًا وواجبات على الآخر.

فلسفة بايل ومشكلة الضمير الخاطئ:

تنشأ مشكلة محتملة خطيرة فيما يتعلق بعقيدة الضمير الضال وهي قضية التعصب، بافتراض أنّ الضمير الضال له نفس الواجبات والحقوق التي يتمتع بها الضمير الدقيق، فما الذي يمنع الفرد من التصرف بناءً على ضمير متعصب؟

يقول بايل في القاموس إنّ المتعصبين -الأشخاص الذين سيستفيدون أكثر من عقيدة الضمير الضال- هم الذين يدعمون المبدأ القائل بأنّ التصرف ضد الضمير يمكن أن يكون جيدًا، وهكذا يرى بايل المتعصبين على أنّهم نوع من الأشخاص المستعدين لتخريب الأخلاق، وحتى حقوق ضمائرهم من أجل تقويض حقوق الآخرين، ومع ذلك فإنّ المتعصبين الحقيقيين لا يدركون في كثير من الأحيان أنّهم يفعلون ذلك، لأنّهم مقتنعون عادة بأنّهم الأشخاص الوحيدون الذين يدركون الحقيقة على حقيقتها.

إذا اقتنع المتعصب بصحته -أي أنّ أنوار ضميره دقيقة- فسوف يطبق على نفسه كل ما يقال لصالح الحقيقة ضد من يرى أنّهم مخطئون، وينقل المتعصب عبء الزيف إلى أولئك الذين يختلف معهم كوسيلة للتخلص من الشك أو عدم الراحة، بينما يخلق في الوقت نفسه معيارًا مزدوجًا من الفعل مسموح به عندما أفعله، ولكن ليس عندما يفعله الآخرون.

ما يفشل المتعصبون في إدراكه عندما يناقشون من أجل حقوق الحقيقة وذلك من أجل تبرير اضطهاد أولئك الذين يعتقدون أنّهم على خطأ على الأرجح، هو أنّه إذا تم عكس الأدوار -إذا كان المتعصبون أقلية- كانوا بلا شك يجادلون لصالح التسامح الديني.

فلسفة بايل ومبدأ الضوء الطبيعي:

تؤدي مشكلة الضمير الخاطئ إلى حجة بايل الثانية للتسامح الديني على أساس مبدأ الضوء الطبيعي المنصوص عليه في التعليق الفلسفي الذي يحظر ارتكاب الجرائم، ويدعم مبدأ بايل الأخلاقي ضد ارتكاب الجرائم دفاعه عن عقيدة الضمير الضال، فإذا كان للضمير الدقيق حقًا في الإكراه فسيكون ذلك حقًا يُنظر إليه من وجهة نظر مجرد.

وفقا لبايل فإنّ وجهة النظر المجردة ليست وجهة نظر الضمير، ويوفر الضمير التوجيه لمعتقدات وأفعال معينة لشخص معين، وبغض النظر عن وجهة النظر المجردة فإنّ الطريقة الوحيدة لتبرير الإكراه هي من خلال مناشدة الضمير نفسه الذي تمثل دقته بالضبط القضية المطروحة، وبما أنّ التبرير الوحيد المتاح للضمير هو قوة إقناعه فعندئذ إذا أمر الله الدين الحقيقي باضطهاد الزنادقة، فسيكون للزنادقة أيضًا الحق في اضطهاد الدين الحقيقي.

هذا المشهد من الاضطهاد المتفشي هو مثال للانهيار الأخلاقي، ويعتقد بايل أنّه لا يمكن تبرير مثل هذا الموقف من خلال مناشدة الكتاب المقدس أو الضمير، وإنّ الإكراه الديني ليس فقط خسيسًا من الناحية الأخلاقية، ولكنه ينتهك صميم كل الأديان والأهم من ذلك بالنسبة لقراء بايل أنّه ينتهك قلب المسيحية.

إنّ مبدأ بايل للنور الطبيعي يضيف بالتالي استنكارًا أخلاقيًا لأي عقوبة قائمة على الضمير ضد الإكراه، كما أنّه يوفر مبدأ يمكن أن يتفق عليه أصحاب الضمائر المختلفة، وإنّ الكشف عن الضوء الطبيعي الذي يستشهد به بايل هنا -بأنّ ارتكاب الجرائم دائمًا ما يكون غير أخلاقي بغض النظر عن التبرير- يأتي من كلية العقل الصحيح، ويجادل بايل في كتابه (أفكار متنوعة) بأنّ ملكة العقل هذه المسؤولة عن حدس بعض المبادئ الأخلاقية الأساسية يمكن الوصول إليها بالتساوي لكل من الملحدين والمؤمنين سواء كانوا هرطقة أو أرثوذكس.

وهذا يعني أنّ الجميع يخضعون لنفس هذه المبادئ الأخلاقية، بما في ذلك التحريم المطلق لاستخدام الضمير كدافع لتبرير ارتكاب الجرائم، ومع ذلك إنّ مبدأ الضوء الطبيعي هذا لا يحكم سوى الفعل، أي أنّه يحظر ارتكاب الجرائم وهو مجال الفعل، وإنّه لا يعطي إرشادًا عقلانيًا واضحًا خارج هذه المبادئ الأخلاقية الأساسية.

فوائد فصل بين المعتقدات الدينية والأخلاقية:

إنّ مبدأ الضوء الطبيعي يفصل بين المعتقدات الدينية حيث يكون بايل متساهل نوعًا ما عن المعتقدات الأخلاقية الأساسية حيث يسيطر العقل الصحيح فقط، وهناك نوعان من الفوائد الرئيسية لهذا الفصل:

1- يسمح لبايل بالحفاظ على أنّ جميع الأفراد من كل مذهب يخضعون لنفس المبادئ الأخلاقية الأساسية، والتي تنطبق بالتساوي على كل شخص يتمتع بإمكانية الوصول إلى الضوء الطبيعي للعقل الصحيح.

2- يسمح لبايل بالحفاظ على أنّه ربما لا يزال لدينا سبب وجيه لإدانة معتقدات أولئك الذين لديهم ضمير خاطئ، ولكن بدلاً من إدانة أولئك الذين يؤمنون بالخطأ يجب أن ندين أولئك الذين يصرحون بحسن نية ولكنهم ليسوا خطيئة وليس مجرد إيمان بل فعل.

يتناول بايل هذه المشكلة على وجه التحديد في مقالته في القاموس عن آريوس، والمجموعة التي يحتفظ بايل بأقوى إدانتها له في تلك المقالة ليسوا معلمين هرطقيين بحسن نية، ويوجهون الناس بطريقة بسيطة تتفق مع معتقدات المعلمين الضميرية، بل أقوى كلماته هي للمعلمين الهرطقيين الذين يعلمون البدعة دون تصديق ويسميهم (وحوش الطموح والخبث)، ومن المفترض أنّ قوة إدانة بايل لا تعتمد على بدعة هؤلاء المعلمين ولكن على نفاقهم وذلك بالتناقض بين الإيمان والفعل.

ومن المثير للاهتمام أنّه على الرغم من كل تركيز بايل على العمل الصحيح على الإيمان الصحيح، فإنّه لا يزال يترك مجالًا للتمييز بين المعتقدات القيمة والتي لا قيمة لها، وفقط لأنّ بايل يصر على أسبقية الممارسة الصحيحة على دوكسا (doxa) الصحيح، فهذا لا يعني أن جميع الآراء جيدة على قدم المساواة، والدوكسا هي مجموعة من الآراء وردت دون مناقشة كما هو واضح في حضارة معينة.

وهذا يتفق مع موقف بايل القائل بوجود سبب وجيه لإدانة المعتقدات الدينية الخاطئة وللحفاظ على المعتقدات الأرثوذكسية، ومع ذلك فإنّ أكثر ما يميّز بايل هو إعادة تعريفه لجوهر الدين، وهو الشيء الأكثر أهمية ليس الإيمان الصحيح ولكن العمل الصحيح، ويتطلب العمل الصحيح سببًا صحيحًا، ويتطلب السبب الصحيح التسامح الديني.

المصدر: Pierre BaylePierre Bayle (1647–1706)Pierre Bayle, 1679, Harangue de Mr. de Luxembourg à ses juges, reprinted in E. Lacoste, Bayle: Nouvelliste et Critique, Brussels, M. Lamertin, 1929.Pierre Bayle, 1734 (2nd ed.), The Dictionary Historical and Critical of Mr Peter Bayle, trans. P. Desmaizeaux, London: Knapton , 1987, Pierre Bayle’s Philosophical Commentary. A Modern Translation and Critical Interpretation, trans. Amie Godman Tannenbaum, New York: Peter Lang.


شارك المقالة: