فلسفة بودريار وما بعد الحداثة وتأثير اللغة

اقرأ في هذا المقال


أثبت الفيلسوف جين بودريار أنّه كان له تأثير مهم على منظري وفناني ما بعد الحداثة، مما جعل حضوره محسوسًا في فريدريك جيمسون لمفهوم ما بعد الحداثة، فجيمسون يرسم بودريار صورة قاتمة إلى حد ما لحالة ما بعد الحداثة الحالية، بحجة أننا فقدنا الاتصال بـ (الحقيقي) أو (الواقع) بطرق مختلفة، وأنّه لم يبق لدينا شيء سوى الانبهار المستمر باختفائه، وعند قراءة بودريار عن ما بعد الحداثة يشعر المرء أحيانًا بأننا فقدنا بالفعل، وأنّ بودريار يشير فقط إلى الطرق المختلفة التي فاز بها المجتمع الاستهلاكي والمحاكاة في استعمارهم لكل (الواقع).

اللغة وعلاقتها بما بعد الحداثة:

تتحد فئات المحاكاة والانفجار الداخلي والواقعية الفائقة التي وضعها بودريار، لتخلق حالة ما بعد حداثية ناشئة تتطلب أنماطًا جديدة تمامًا من النظرية والسياسة لرسم واستجابة مستجدات العصر المعاصر، فأسلوبه واستراتيجياته في الكتابة متفجرة أيضًا (أي العمل ضد الفروق المهمة سابقًا)، حيث تجمع بين مواد من مجالات مختلفة بشكل مذهل، ومرصعة بأمثلة من وسائل الإعلام والثقافة الشعبية في نمط مبتكر لنظرية ما بعد الحداثة التي لا تحترم الحدود التأديبية.

تحاول كتاباته محاكاة الظروف الجديدة والتقاط مستجداتها من خلال الاستخدام المبتكر للغة والنظرية، ومثل هذا التساؤل الجذري للنظرية المعاصرة والحاجة إلى استراتيجيات نظرية جديدة يتم إضفاء الشرعية عليها بالنسبة لبودريار من خلال المدى الكبير للتغييرات في العصر الحالي.

على سبيل المثال يدّعي بودريار أنّ الحداثة تعمل بنمط تمثيل، حيث تمثل الأفكار الحقيقة والواقعية، وهي مفاهيم تمثل الافتراضات الرئيسية للنظرية الحديثة، ويفجّر مجتمع ما بعد الحداثة نظرية المعرفة هذه من خلال خلق موقف يفقد فيه الأشخاص الاتصال بالواقع ويتشظون ويذوبون، وينذر هذا الموقف بنهاية النظرية الحديثة التي عملت مع جدلية الموضوع، حيث كان من المفترض أن يمثل الموضوع الكائن ويتحكم فيه.

في قصة الفلسفة الحديثة يحاول الموضوع الفلسفي تمييز طبيعة الواقع وتأمين المعرفة الراسخة، وتطبيق هذه المعرفة للسيطرة على الموضوع والسيطرة عليه، على سبيل المثال الطبيعة والأشخاص الآخرين والأفكار وما إلى ذلك، ويتبع بودريار هنا نقد ما بعد البنيوية بأنّ الفكر والخطاب لم يعد من الممكن ترسيخهما بشكل آمن في بنى مسبقة أو مميزة لـ (الواقعي).

فقد انتقل الفكر الفرنسي وخاصة بعض التفكيكية (النصيون الأقوياء لرورتي) رد فعل ضد طريقة التمثيل في النظرية الحديثة إلى مسرحية النص والخطاب، الذي يُزعم أنّه يشير فقط إلى نصوص أو خطابات أخرى يكون فيها (الواقعي) أو تم نفي (الخارج) إلى عالم الحنين إلى الماضي.

فلسفة بودريار والمحاكي القوي:

بطريقة مماثلة يدّعي بودريار (المحاكي القوي) أنّه في وسائل الإعلام والمجتمع الاستهلاكي ينشغل الناس بلعب الصور والنظارات والمحاكاة، التي لديها علاقة أقل وأقل مع الخارج إلى (واقع) خارجي لدرجة أنّ مفاهيم الواقع الاجتماعي أو السياسي أو حتى الواقع لم يعد لها أي معنى، والوعي المخدر والمذهل (بعض استعارات بودريار) المشبع بالوسائط في حالة من الانبهار بالصورة والمشهد، بحيث يتلاشى مفهوم المعنى نفسه (الذي يعتمد على حدود ثابتة وتركيبات ثابتة وإجماع مشترك).

في هذا الوضع ما بعد الحداثي المثير للقلق والجديد يختفي كل من المرجع والخلفي والخارجي، جنبًا إلى جنب مع العمق والجوهر والواقع ومع اختفائهم تتلاشى أيضًا إمكانية كل معارضة محتملة.

ومع انتشار عمليات المحاكاة فإنّها تشير إلى نفسها فقط، بمعنى كرنفال من المرايا التي تعكس الصور المسقطة من المرايا الأخرى على شاشة التلفزيون والكمبيوتر وشاشة الوعي، والتي بدورها تشير الصورة إلى مخزنها السابق للصور التي أنتجها أيضًا مرايا محاكاة، بحيث يكونون عالقون في عالم المحاكاة: “الجماهير تستحمون في تدليك إعلامي” بدون رسائل أو معنى، وذو عصر جماهيري تختفي فيه الطبقات والسياسة ميتة وكذلك الأحلام العظيمة للانفصال والتحرير والثورة.

يدّعي بودريار أنّ الجماهير من الآن فصاعدًا تسعى إلى المشهد وليس المعنى، وإنّهم ينفجرون من الداخل إلى الأغلبية الصامتة مما يدل على نهاية المجتمع، كما يشير بودريار إلى أنّ النظرية الاجتماعية تفقد موضوعها الأساسي حيث تنفجر المعاني والطبقات والاختلاف في ثقب أسود من عدم التمايز.

كما تنفجر الفروق الثابتة بين المجموعات الاجتماعية والأيديولوجيات وتنحسر العلاقات الاجتماعية الواقعية وجهاً لوجه مع اختفاء الأفراد في عوالم المحاكاة من الوسائط وأجهزة الكمبيوتر والواقع الافتراضي نفسه، وهكذا تفقد النظرية الاجتماعية نفسها موضوعها الاجتماعي، بينما تفقد السياسة الراديكالية موضوعها وفاعليتها.

ومع ذلك يدّعي في هذه المرحلة من مساره (أي أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات) أنّ رفض المعنى ومشاركة الجماهير هو شكل من أشكال المقاومة، ويحوم بودريار بين الحنين إلى الماضي والعدمية ويقضي في الحال على الأفكار الحديثة (على سبيل المثال الذات والمعنى والحقيقة والواقع والمجتمع والاشتراكية والتحرر)، ويؤكد نمط التبادل الرمزي الذي يبدو أنّه يظهر رغبة حنين إلى العودة إلى الثقافة ما قبل الحداثة.

ومع ذلك تم التخلي عن هذا البحث اليائس عن بديل ثوري حقيقي بحلول أوائل الثمانينيات، ومن الآن فصاعدًا يطوّر المزيد من وجهات النظر الجديدة حول اللحظة المعاصرة، ويتأرجح بين رسم أنماط بديلة للفكر والسلوك ونبذ البحث عن التغيير السياسي والاجتماعي.

بمعنى ما هناك انعكاس ساخر للمادية التاريخية في بودريار، وبدلاً من تأكيد ماركس على الاقتصاد السياسي وأولوية الاقتصاد، فإنّ النموذج والبنية الفوقية بالنسبة لبودريار هو الذي يولد الواقعي في وضع يشير إليه على أنّه: “نهاية الاقتصاد السياسي”، وبالنسبة إلى بودريار تسود قيم الإشارة على قيم الاستخدام وقيم التبادل، وتختفي مادية الاحتياجات وقيم استخدام السلع لخدمتهم في خيال بودريار السيميولوجي، حيث تكون للعلامات الأسبقية على الحياة البشرية الحقيقية وإعادة بناءها.

عند قلب الفئات الماركسية ضد نفسها تمتص الجماهير الطبقات، وموضوع التطبيق العملي متصدع وتصبح الأشياء تحكم البشر، ويتم امتصاص الثورة من خلال موضوع النقد ويحل الانهيار التكنولوجي محل الثورة الاشتراكية في إحداث قطيعة في التاريخ.

فبالنسبة لبودريار على عكس ماركس فإنّ كارثة الحداثة واندلاع ما بعد الحداثة ناتجة عن اندلاع الثورة التكنولوجية، وبالتالي يستبدل بودريار حتمية ماركس الاقتصادية والاجتماعية الصعبة بتأكيدها على البعد الاقتصادي والصراع الطبقي والتطبيق البشري، وبشكل من المثالية السيميائية والحتمية التكنولوجية حيث تهيمن العلامات والأشياء على الموضوع.

وهكذا يستنتج بودريار أنّ الكارثة حدثت وأنّ تدمير الحداثة والنظرية الحديثة التي أشار إليها في منتصف السبعينيات، قد اكتمل بتطور المجتمع الرأسمالي نفسه، وأنّ الحداثة قد اختفت وحل مكانها وضع اجتماعي جديد، وفي مواجهة الاستراتيجيات التقليدية للتمرد والثورة بدأ بودريار في مناصرة ما يسميه (الاستراتيجيات القاتلة)، والتي تدفع قيم النظام إلى أقصى الحدود على أمل الانهيار أو الانقلاب، وفي النهاية يتبنى أسلوبًا من الخطاب الميتافيزيقي الساخر للغاية الذي يتخلى عن التحرر وخطاب وآمال التحول الاجتماعي التقدمي.


شارك المقالة: