اقرأ في هذا المقال
في العمل الفلسفي للفيلسوف جان بودريار مرآة الإنتاج، أو الوهم النقدي للمادية التاريخية عام 1973 والتبادل الرمزي والموت عام 1976، انفصل بودريار عن الماركسية لتطوير حساب لمجتمع ما بعد الحداثة، والذي فيه المستهلك والإلكتروني أصبحت الصور أكثر واقعية (فائقة الواقعية) من الواقع المادي، وحيث أدت محاكاة الواقع (محاكاة) إلى إزاحة أصولها الأصلية ولم يتبق سوى صحراء الواقع، وقد تم اقتباس هذه العبارة في فيلم الخيال العلمي الأمريكي الشهير المصفوفة (The Matrix) عام 1999.
نقد بودريلارد للنظام الماركسي:
يمكن قراءة أعمال بودريار الثلاثة الأولى في إطار نقد ماركسي جديد للمجتمعات الرأسمالية، ويمكن للمرء أن يقرأ تأكيد بودريار على الاستهلاك كمكمل لتحليل ماركس للإنتاج وتركيزه على الثقافة والعلامات كمكمل مهم للاقتصاد السياسي الماركسي الكلاسيكي، والذي يضيف بعدًا ثقافيًا وشيميولوجيًا إلى المشروع الماركسي.
لكن في استفزازه عام 1973 مرآة الإنتاج (المترجم إلى الإنجليزية في عام 1975)، شن بودريلاد هجوماً منهجياً على الماركسية الكلاسيكية، مدّعياً أنّ الماركسية ليست سوى مرآة للمجتمع البرجوازي وتضع الإنتاج في قلب الحياة، وبالتالي تطبيع التنظيم الرأسمالي للمجتمع.
على الرغم من أنّه في الستينيات شارك بودريار في الأحداث المضطربة في أيار عام 1968، وكان مرتبطًا باليسار الثوري والماركسية، فقد انفصل عن الماركسية في أوائل السبعينيات، ولكنه ظل راديكاليًا سياسيًا على الرغم من عدم انتسابه لبقية العقد، ومثل الكثيرين في اليسار شعر بودريلاد بخيبة أمل لأنّ الحزب الشيوعي الفرنسي لم يدعم حركات الستينيات راديكالية.
كما أنّه لم يثق في الماركسية الرسمية للمنظرين مثل لويس ألتوسير الذي وجده عقائديًا واختزاليًا، وبالتالي بدأ بودريار نقدًا جذريًا للماركسية وهو نقد تكراره العديد من معاصريه الذين سيأخذون أيضًا منعطفًا ما بعد الحداثة، ويجادل بودريار في عام 1975 بأنّ الماركسية أولاً لا تنير بشكل كافٍ المجتمعات ما قبل الحداثة التي كانت منظمة حول الدين والأساطير والتنظيم القبلي وليس الإنتاج.
كما يجادل بأنّ الماركسية لا تقدم نقدًا راديكاليًا كافيًا للمجتمعات الرأسمالية وخطابات ووجهات نظر نقدية بديلة، وفي هذه المرحلة يلجأ بودريار إلى وجهات النظر الأنثروبولوجية حول المجتمعات ما قبل الحداثة للحصول على تلميحات عن المزيد من البدائل التحررية، ومع ذلك من المهم أن نلاحظ أنّ هذا النقد للماركسية مأخوذ من اليسار، بحجة أنّ الماركسية لم تقدم نقدًا راديكاليًا بما فيه الكفاية، أو بديلًا للمجتمعات الرأسمالية والشيوعية المعاصرة المنظمة حول الإنتاج.
وقد خلص بودريار إلى أنّ فشل الشيوعيين الفرنسيين في دعم حركات 68 أيار، وقد كان متجذرًا جزئيًا في نزعة محافظة لها جذور في الماركسية نفسها، ومن ثم بدأ بودريار وآخرون من جيله في البحث عن وظائف بديلة.
بودريلار والماركسية الجديدة:
بحلول عام 1970 ميّز بودريار نفسه عن النظرية الماركسية للثورة وبدلاً من ذلك افترض فقط إمكانية الثورة ضد المجتمع الاستهلاكي بشكل غير متوقع ولكنه مؤكد، وفي أواخر الستينيات ارتبط بمجموعة من المفكرين حول مجلة المدينة الفاضلة (Utopie) التي سعت إلى التغلب على الحدود التخصصية وبروح جاي ديبورد والموقف الدولي للجمع بين التفكير في المجتمعات البديلة والهندسة المعمارية وأنماط الحياة اليومية.
بجمع الأفراد على هوامش العمارة وتخطيط المدن والنقد الثقافي والنظرية الاجتماعية، فقد ميّز بودريار ورفاقه أنفسهم عن التجمعات السياسية والنظرية الأخرى، وطوروا خطابًا خاصًا وهامشيًا خارج حدود التخصصات الراسخة والميول السياسية، واستمر هذا الانتماء إلى (Utopie) حتى أوائل السبعينيات فقط، لكنه ربما ساعد في إنتاجه رغبة في العمل على الهامش والابتعاد عن الاتجاهات والبدع الحالية وتطوير مواقفه النظرية الخاصة، وقد تم جمع مقالاته من هذا المشروع في الترجمة الإنجليزية في (Utopia) المؤجلة.
فلسفة بودريلارد في الطبقة الثورية:
وهكذا كان لبودريار علاقة متناقضة مع الماركسية الكلاسيكية في أوائل السبعينيات، ومن ناحية دفع بالنقد الماركسي لإنتاج البضاعة الذي يحدد وينتقد مختلف أشكال الاغتراب والهيمنة والاستغلال التي تنتجها الرأسمالية، وفي هذه المرحلة بدا أنّ نقده يأتي من وجهة نظر الماركسية الجديدة القياسية التي تفترض أنّ الرأسمالية تستحق اللوم لأنّها تجانس الحياة الاجتماعية وتتحكم فيها وتسيطر عليها، بينما تسرق الأفراد من حريتهم وإبداعهم ووقتهم وإمكاناتهم البشرية.
من ناحية أخرى لا يستطيع أن يشير إلى أي قوى ثورية وعلى وجه الخصوص لم يناقش وضع وإمكانيات الطبقة العاملة كعامل للتغيير في المجتمع الاستهلاكي، وفي الواقع ليس لدى بودريار نظرية عن الذات كعامل نشط للتغيير الاجتماعي على الإطلاق، وبالتالي اتباع النقد البنيوي وما بعد البنيوي للموضوع الفلسفي والعملي الذي صنفه ديكارت وكانط وسارتر والذي كان سائدًا لفترة طويلة في الفكر الفرنسي، وقد جادل البنيويون وما بعد البنيويون بأنّ الذاتية أنتجت عن طريق اللغة والمؤسسات الاجتماعية والأشكال الثقافية ولم تكن مستقلة عن بنائها في هذه المؤسسات والممارسات.
كما لم يطور بودريار نظرية عن الثورة الطبقية أو الجماعية أو أي نظرية للتنظيم السياسي أو النضال أو الاستراتيجية من النوع الذي كان شائعًا في فرنسا بعد الستينيات، ومع ذلك فإنّ عمل بودريار هنا قريب بشكل خاص من عمل مدرسة فرانكفورت، وخاصة عمل هربرت ماركوز الذي طور بالفعل بعض الانتقادات الماركسية الأولى للمجتمع الاستهلاكي.
مثل لوكاس عام 1971 ومدرسة فرانكفورت يحلل بودريار كيف تتغلغل السلعة والتسليع في الحياة الاجتماعية ويهيمنان على الفكر والسلوك الفردي، وباتباع الخط العام للماركسية النقدية يجادل بودريار بأنّ عملية التجانس الاجتماعي والاغتراب والاستغلال تشكل عملية تجسيد في السلع والتقنيات والأشياء (أي الأشياء) التي تهيمن على الناس (الموضوعات) وتجردهم من صفاتهم وقدراتهم البشرية.
بالنسبة إلى لوكاس ومدرسة فرانكفورت وبودريلارد فإنّ التجسيد -العملية التي يهيمن فيها البشر على الأشياء ويصبحون أكثر شبهاً بهم- يأتي ليحكم الحياة الاجتماعية، وفرضت ظروف العمل الخضوع والتوحيد على حياة الإنسان، واستغلال العمال وعزلهم عن حياة الحرية وتقرير المصير، وفي الإعلام والمجتمع الاستهلاكي أصبحت الثقافة والاستهلاك أيضًا متجانسة، مما يحرم الأفراد من إمكانية تنمية الفردية وتقرير المصير.
بمعنى ما يمكن قراءة عمل بودريار باعتباره سردًا لمرحلة أخرى من التشيُّع والهيمنة الاجتماعية، أكثر من تلك التي وصفتها مدرسة فرانكفورت التي وصفت كيف كانت المؤسسات الحاكمة وأنماط التفكير تتحكم في الأفراد، ويتجاوز بودريار في مدرسة فرانكفورت من خلال تطبيق النظرية السيميائية للعلامة لوصف كيف توفر السلع والوسائط والتقنيات عالماً من الوهم والخيال، الذي يتغلب فيه الأفراد على قيم المستهلك والأيديولوجيات الإعلامية ونماذج الأدوار والتقنيات المغرية مثل أجهزة الكمبيوتر التي توفر عوالم الفضاء السيبراني.
في النهاية سيأخذ تحليله للسيطرة من خلال العلامات ونظام الأشياء إلى استنتاجات أكثر تشاؤماً، حيث يخلص إلى أنّ موضوع (نهاية الفرد) الذي رسمته مدرسة فرانكفورت قد وصلت إلى ثمارها في الهزيمة الكاملة للذاتية البشرية من قبل العالم الموضوعي.
ومع ذلك في بعض الكتابات لدى بودريلارد كنظرية استهلاك أكثر نشاطًا إلى حد ما من تلك الخاصة بمدرسة فرانكفورت التي تصور عمومًا الاستهلاك على أنّه نمط سلبي من التكامل الاجتماعي، وعلى النقيض من ذلك فإنّ الاستهلاك في كتابات بودريلار المبكرة هو في حد ذاته نوع من العمل، فالـ(تلاعب نشط بالإشارات) وطريقة لإدخال الذات في المجتمع الاستهلاكي والعمل على تمييز الذات عن الآخرين.
ومع ذلك فإنّ هذا التلاعب النشط بالإشارات لا يعادل افتراض الذات البشرية النشطة، التي يمكن أن تقاوم أو تعيد تعريف أو تنتج إشاراتها الخاصة، وبالتالي فشل بودريلارد في تطوير نظرية حقيقية للفاعلية.