فلسفة جيرمي بنثام في القانون الدستوري وإدارة الحكومة

اقرأ في هذا المقال


جيريمي بنثام فيلسوف يستحق مكانة بارزة في تاريخ الأفكار الديمقراطية، ولم يكن يعتقد فقط أنّ الحكم الشعبي وسيلة لتجسيد رؤيته للمجتمع النفعي ولكنه قدم لنا أيضًا صورة مفصلة للمؤسسات الأساسية لشكل الحكم الديمقراطي الذي تصوره.

فلسفة الإدارة والحكومة والقانون الدستوري:

كما هو الحال مع بانوبتيكون (panopticon) كان الاقتصاد والشفافية والمساءلة بنفس القدر من الأهمية في حساب جيرمي بنثام المبتكر للإدارة وكذلك الأجهزة التي تضمن تعظيم الكفاءة الفكرية والأخلاقية والنشطة في الموظفين العموميين، وتتطلب النتائج النفعية في الحكومة إجراءات ديمقراطية متنوعة تعمل بمثابة ضمانات ضد سوء الحكم، وتشمل هذه الإجراءات: الاقتراع العام الافتراضي والبرلمانات السنوية والاقتراع السري وأحكام الشفافية والدعاية والمناقشة العامة غير المقيدة.

إنّ الكثير مما أوصى به بنثام فيما يتعلق بالمؤسسات الإدارية والسياسية يحكمه مبدأ تقاطع المصالح، وهو مبدأ مصمم لضمان التوفيق بين مصالح أصحاب السلطة والمصلحة العامة، وكانت هذه الفكرة بارزة في جزء من الحكومة حيث جادل بأنّ الحكومة الفعالة لا يجب أن تكون على أساس صيغ مجردة مثل المؤسسات المختلطة والمتوازنة، ولكنها تتطلب التغييرات المتكررة والسهلة للظروف بين المحافظين والمحكومين، حيث تختلط مصالح فئة ما مع مصالح الطبقة الأخرى بشكل أو بآخر.

في الكتابات الدستورية اللاحقة لبنثام أضاف العديد من الأجهزة الإدارية لضمان الكفاءة والشفافية والمساءلة ولا شيء أكثر أهمية من محكمة الرأي العام أو المحكمة المفتوحة للرأي العام التي تأسست على حريةالصحافة، والتي من خلالها يمكن للإجراءات الحكومية أن تخضع للتدقيق العام، ومثلما كان من المقرر أن تتم مراقبة البانوبتيكون عن طريق نشر تقارير منتظمة، فإنّ التقارير المتعلقة بنشاط الحكومة كانت مطلوبة لإبقاء النظام الديمقراطي على اطلاع وتسهيل مساءلة المسؤولين الحكوميين.

عندما حوّل بنثام أفكاره إلى القانون الدستوري بشكل جدي في عشرينيات القرن التاسع عشر المستوحى جزئيًا من صياغة الدستور في أجزاء من جنوب أوروبا، كان عن قناعة بأنّ جميع الدول التي توجد فيها بالفعل مؤسسات الديمقراطية التمثيلية أو التي يمكن إدخالها فيها حيث كانت تربة خصبة للفائدة النفعية، وأعلن قرب بداية القانون الدستوري ومن هذا الدستور: “إنّ الهدف الشامل أو النهاية في المنظور هو من الأول إلى الآخر هو السعادة الأكبر لأكبر عدد، أي بمعنى لأكبر عدد من الأفراد الذين يتألف منهم المجتمع السياسي أو الدولة التي يكون دستورها”.

احتلت التفاصيل الإدارية والانتخابية والتشريعية لهذا المشروع الكثير من العقد الأخير من حياته حيث نوقشت أفكاره الأساسية في صفحات مجموعة متنوعة من الأعمال بالإضافة إلى المدونة، مثل أوراق مالية ضد سوء الحكم (Securities Against Misrule) وأول المبادئ التحضيرية للقانون الدستوري، والكفاءة الرسمية إلى أقصى حد حيث المصاريف المصغرة، ودعمت المبادئ الفرعية للمساءلة والكفاءة والاقتصاد التصميم المؤسسي والعمليات الإجرائية الموضحة في هذه الكتابات، والتي في جوهرها قدمت هذه المبادئ الأساس لـ (ضمانات ضد سوء الحكم) التي اعتقد بينثام أنّها ضرورية لضمان أن يكون الهدف الحاكم للحكومة في ديمقراطية تمثيلية جمهورية.

فلسفة بنثام في أوراق مالية ضد سوء الحكم:

رأى بنثام أنّ أولئك الذين يمتلكون القوة التنفيذية في الحكومة والإدارة والقضاء مثل أي شخص آخر تحركهم المصلحة الشخصية، ولذلك من الضروري وضع آليات تضمن أنّه فقط من خلال العمل من أجل المصلحة العامة يمكنهم تعزيز مصالحهم الخاصة، لذلك على سبيل المثال في ظل الديمقراطية التمثيلية يمكن الاعتماد على أعضاء الهيئة التشريعية كممثلين للسلطة التأسيسية للشعب، ولتعزيز أكبر قدر من السعادة ومحاسبة الموظفين الآخرين نظرًا لأنّ المشرعين المنتخبين يخدمون فقط في ناخبيهم ويخاطرون بعدم إعادة انتخابهم إذا فشلوا في أداء واجبهم.

وبالنظر إلى الصلاحيات الواسعة التي تصورها بنثام، فإنّ الوزارات الثلاث عشرة للحكومة التي تم إصلاحها ستمتلك سلطة أكبر بكثير في مجالات الصحة العامة والتعليم وإغاثة الفقراء والمعوزين، مما كانت عليه في ذلك الوقت ستكون هناك حاجة لمزيد من الضمانات.

وبعد تنقيح وتوسيع الاقتراحات الواردة في خطته للإصلاح البرلماني الذي نص على أنّ الموظفين العموميين يجب أن يمتلكوا ما يلي:

  1. الكفاءة الأخلاقية المطلوبة: الاستعداد لتعزيز أكبر قدر من السعادة.
  2. الكفاءة الفكرية: مقسمة إلى الكفاءة العلمية أو المعرفة والقضاء الكفاءة أو الحكم.
  3. الكفاءة النشطة: وهي الأداء الضميري للمسؤوليات المسندة.

ويجب اختبار الكفاءة الفكرية والنشطة من خلال عملية الفحص، على الرغم من أنّ هذا لن يكون شيئًا إذا لم يكن المسؤول المعين يمتلك الكفاءة الأخلاقية المناسبة، وتشمل الأجهزة الأخرى المصممة لضمان الكفاءة المطلوبة للموظفين العموميين وتشجيعها واختبارها ما يلي:

  1. التحديد الدقيق للمسؤوليات المرتبطة بكل مكتب والتي يمكن على أساسها الحكم على تصرفات المسؤولين من قبل أي مسؤول أعلى أو الجمهور.
  2. مبدأ التبعية والذي بموجبه يكون كل مسؤول تابعًا لآخر يمكن أن يعاقبه على عدم الكفاءة في أداء مهامه.
  3. التعرض الكامل للملاحقة القانونية لجميع المسؤولين عن ارتكاب مخالفات.
  4. القضاء على ممارسة توزيع ألقاب الشرف غير المبررة لمؤيدي الحزب والمفضلين الآخرين.
  5. الدعاية الكاملة للأعمال الحكومية وإلغاء السرية.
  6. حرية الصحافة والتعبير وتكوين الجمعيات.

فلسفة السيادة لدى بنثام:

يبدو أنّ الأبعاد الشعبية للقانون الدستوري تتعارض مع الوضعية القانونية المرتبطة بشكل شائع بنفعية بنثام، مما يعني ضمناً نظرية السيادة التي تتطلب أن تكون السلطة في أيدي المشرع وبغض النظر عن تشكيلها وتنص على أنّ جميع القوانين ضرورية، وتعتمد في إنفاذها على عقوبات قسرية، جادل روزن أنّه في وقت مبكر من جزء من الحكومة رفض بنثام فكرة هوبز عن السيادة على أساس الأمر والطاعة البسيطة حيث يكون السيادة بالضرورة سلطة عليا واحدة وموحدة، ولصالح مفاهيم التقييد القانوني و تقسيم السلطة السيادية.

بشكل عام كان مصطلح (السيادة) لدى بينثام يعني سلطة التشريع (السيادة القانونية)، ولكنه استخدمها أيضًا فيما يتعلق بسلطة الشعب في تقييد الحكومة والمسؤولين العموميين أو السيطرة عليهم (السيادة السياسية أو الشعبية)، وبالمعنى الأول للمصطلح يبدو أنّه من المستحيل أن يكون هناك قانون يعمل عمدًا على عكس إرادة الهيئة التشريعية، وكل قانون ينبع من إرادة السيادة وإرادة صاحب السيادة ولا يمكن أن تكون غير قانونية.

ومع ذلك رأى بنثام أيضًا أنّ كل سلطة سياسية بغض النظر عن الشكل الذي تتخذه مقيدة بالضرورة بقدرتها على إجبار الناس على الطاعة، وعلى حد تعبيره في جزء من الحكومة: “أعني بالملك أي شخص أو مجموعة من الأشخاص من المفترض أن يكون المجتمع السياسي بأكمله (بغض النظر عن أي حساب) في استعداد لدفع الطاعة”.

وفي حدود الفرع الجنائي للفقه أوضح أنّ هذا ينطوي على إرادتين كلاهما مكونان ضروريان لنظرية كاملة للسيادة حيث من ناحية تشريعات السلطة التشريعية ومن ناحية أخرى الإرادة على الناس طاعة تلك التشريعات، وفي الواقع فإنّ إرادة الشعب في العصيان ترقى إلى رقابة دستورية دائمة على سلطة الحاكم المطلق، وبهذا المعنى فإنّ خضوع الشعب وطاعته بمثابة السبب المكون للسيادة، وقد تكون الهيئة التشريعية عليا ولكنها لا يمكن أن تكون في حد ذاتها مطلقة وغير محدودة أو ترقى إلى مستوى سلطة الأمر برمته.

والنتيجة هي مفهوم الانقسام للسيادة المحدد من خلال تفاعل ديناميكي بين السلطة التشريعية والشعب، ويخضع لتغير الأزمنة وانعكاس ذلك في موقف الجمهور من القانون تجاه ما هو مقبول وغير مقبول، وإنّ عملية المداولات العامة والمساءلة التي يتطلبها هذا يتم تسهيلها بشكل كبير من خلال الحريات التواصلية لـ (حرية الصحافة) و(حرية تكوين الجمعيات العامة) والتي تبلورت في تصور بنثام لمحكمة الرأي العام (Public Opinion Tribunal – POT).

فلسفة محكمة الرأي العام لدى بنثام:

بناءً على إعلانه في وقت سابق عن شعار المواطن الصالح – الالتزام في المواعيد والرقابة بحرية تصور بنثام المحكمة الجنائية الدولية على أنّها محكمة وهمية أو محكمة عامة للرأي والحجة، وناقش قائلًا: “يقودها الحكام البارعون”، كما أنّه نصح: “يستخدمها الحكام الحكيمون أو يتبعونها، أما الحكام الحمقى يتجاهلون ذلك”.

سوف يقوم محكمة الرأي العام (POT) بفحص تصرفات الممثلين المنتخبين والمسؤولين العموميين والقضائيين، وملاحقة التهم التي يتم العثور عليهم فيها مقصرين في مسؤولياتهم، ومراقبة سوء الإدارة وفرض العقوبات عند الاقتضاء، وتتخذ العقوبات بشكل عام شكل العقوبة الأخلاقية من حيث بث العار والعار من السلوك، وإسناد سمعة الشخص المسؤول، وبهذه المصطلحات سيكون محكمة الرأي العام (POT) هو الأمن الرائد ضد إساءة استخدام السلطة وإساءة استخدامها.

والتي تعمل على أساس مستمر وبالتالي ليست مقيدة كمراجعة وتحقق بنفس الطريقة المحدودة للانتخابات الدورية، وبذلك فإنّها ستكون بمثابة القوة الوحيدة التي بواسطتها يمكن للحكومة عند عملها في اتجاه شرير أن تواجه أقل عائق أمام مسارها.

يعتبر نشر المعلومات أمرًا حيويًا لعمل (POT) بسبب ما يلي:

  • في المقام الأول قد يتطلب ذلك إنشاء أرشيف عام للإجراءات والأنشطة الحكومية التي تحتوي على سجلات القانون والسياسة والنقاش التشريعي والإحصاءات، والتي ستكون الحكومة مطالبة بموجب الدستور بإتاحتها للجمهور من خلال توفير حرية المعلومات وفي القانون الدستوري لضمان الشفافية.
  • ثانيًا يتطلب الأمر وجود صحافة غير مقيدة لضمان دعاية واسعة النطاق وحرية الانتقاد دون عوائق بأوامر الرقابة أو الإسكات.

اعتمد بنثام هنا على مقالته حول حرية الصحافة والمناقشة العامة (1821) للإشارة إلى مخاطر القوانين المصممة للحد من هذه الحريات، وإنّ حرية الصحافة هي ضابط لا غنى عنه للحكم التعسفي، وبالتالي فهي ضرورية للحفاظ على الحكم الرشيد، وتعتبر الدعاية أمرًا حيويًا في هذه العملية لأنّه كلما زاد عدد أفراد المجتمع بأسره الذين تم الكشف عن وجود فعل من أعمال القمع زاد عدد أولئك الذين لا يجوز فقط منع الطاعة ولكن المقاومة عارضت.

لم يعتبر بنثام أنّ فعالية POT كجهاز فحص على سوء الحكم يمكن تقويضها من خلال الأساليب الحكومية السرية للحد من تدفق المعلومات، كما لم يخطر بباله أنّ الصحافة التي تهيمن عليها آراء فئة واحدة يمكن أن تقوض صحة المعلومات التي نشرتها، وعلق إيمانه على الشفافية والدعاية.

ومن الناحية المثالية سيتم إعلام الجمهور بشكل كافٍ وسيتم تشكيل POT من قبل أولئك من الجمهور الذين كانوا على دراية ومهتمين بالقضايا المعروضة عليه، ويمكن أن تتغير أحكامها مع ظهور أدلة جديدة أو عند طرح حجج جديدة، ويمكن أن تكون مجزأة أو موحدة في وجهة نظرها بما يتناسب مع الآراء الفردية المتنوعة المعبر عنها.


شارك المقالة: