فلسفة ديفيدسون أنواع من المعرفة والعقيدة الثالثة للتجربة

اقرأ في هذا المقال


دونالد ديفيدسون الفيلسوف الأمريكي المعروف بمعالجاته المبتكرة والمنهجية بشكل لافت للنظر للمشكلات التقليدية في عدد من المجالات، حيث طور ديفيدسون أيضًا حججًا معقدة ضد إمكانية النسبية المفاهيمية، وهي وجهة النظر القائلة بوجود مخططات مفاهيمية غير مفهومة بشكل متبادل، والشك العالمي وهي الرأي القائل بأنّ معظم أو كل معتقدات الفرد حول العالم يمكن أن تكون خاطئة.

ثلاثة أنواع من المعرفة:

في عمل ديفيدسون تم استبدال السؤال: “ما هو المعنى؟” بالسؤال: “ما الذي يحتاج المتحدث إلى معرفته لفهم أقوال الآخرين؟” والنتيجة هي حساب يتعامل مع نظرية المعنى على أنّها بالضرورة جزء من نطاق أوسع بكثير، فنظرية التفسير وفي الواقع نهج أوسع بكثير للعقلية على هذا النحو، وهذا الحساب شمولي بقدر ما يتطلب أنّ أي نظرية مناسبة يجب أن تتناول السلوك اللغوي وغير اللغوي في مجمله.

كما يبدو بالفعل هذا يعني أنّ نظرية التفسير يجب أن تتبنى نهجًا تركيبيًا لتحليل المعنى، ويجب أن يعترف بالطابع المترابط للمواقف والمواقف والسلوك، ويجب أيضًا أن ينسب المواقف ويفسر السلوك بطريقة مقيدة بالمبادئ المعيارية للعقلانية، ومع ذلك فإنّ العقلانية ليست هي المبدأ الوحيد الذي يعتمد عليه تفسير ديفيدسون للتفسير الراديكالي، كما إنّه ينطوي في الواقع على تزاوج كل من الاعتبارات الشمولية والخارجية، حيث اعتبارات تتعلق باعتماد محتوى المواقف على الروابط العقلانية بين المواقف (الكلية)، وفيما يتعلق باعتماد مثل هذا المحتوى على الروابط السببية بين المواقف والأشياء في العالم (الخارجية).

وبالفعل فإنّ هذا الزواج واضح في مبدأ الصدقة نفسها ومزيجها من اعتبارات الترابط والتوافق، حيث يعتقد ديفيدسون في الواقع أنّه يمكن عزو المواقف، وبالتالي تحديد محتوى المواقف فقط على أساس بنية ثلاثية تتطلب التفاعل بين مخلوقين على الأقل بالإضافة إلى التفاعل بين كل مخلوق ومجموعة من الأشياء المشتركة في العالم.

فكرة التثليث والمعرفة:

إن تحديد محتوى المواقف هو مسألة تحديد أهداف تلك المواقف، وفي معظم الحالات الأساسية تكون أهداف المواقف متطابقة مع أسباب تلك المواقف نفسها (لأنّ سبب اعتقادي بوجود طائر خارج نافذتي هو الطائر الموجود خارج نافذتي)، ويتضمن تحديد المعتقدات عملية مماثلة لعملية التثليث (كما هو مستخدم في المسح الطوبوغرافي وفي تحديد الموقع) حيث يتم تحديد موضع كائن (أو بعض المواقع أو السمات الطوبوغرافية) عن طريق أخذ خط من كل من اثنين بالفعل المواقع المعروفة للكائن المعني، حيث تقاطع الخطوط يحدد موضع الكائن.

وبالمثل يتم إصلاح موضوعات المواقف الافتراضية من خلال البحث عن الأشياء التي تمثل الأسباب الشائعة، وبالتالي الأشياء المشتركة لمواقف اثنين أو أكثر من المتحدثين القادرين على مراقبة سلوك الآخر والاستجابة له، وفي عمله ثلاثة أنواع من المعرفة طور ديفيدسون فكرة التثليث كوسيلة لتوضيح الترابط المفاهيمي ثلاثي الاتجاهات الذي يجادل بأنّه يحصل بين معرفة الذات ومعرفة الآخرين ومعرفة العالم.

تمامًا كما لا يمكن فصل معرفة اللغة عن معرفتنا العامة للعالم، كذلك يجادل ديفيدسون بأنّ معرفة الذات ومعرفة الأشخاص الآخرين ومعرفة العالم الموضوعي المشترك تشكل مجموعة مترابطة من المفاهيم لا أحد منها ممكن في غياب الآخرين.

فكرة التثليث لها آثار مهمة تتجاوز بكثير أسئلة المعرفة وحدها والفكرة هي واحدة من العناصر الأكثر أهمية ودائمة، ولكنها أيضًا مثيرة للجدل في تفكير ديفيدسون اللاحق، وعلاوة على ذلك على الرغم من أنّ الفكرة قد تبدو للوهلة الأولى على أنّها مقصودة بحتة كاستعارة، يبدو أنّ هيكل التثليث يوجه الانتباه في الواقع إلى الطريقة التي تعتمد بها المعرفة والعمل والمحتوى يعتمدان بشكل أساسي على الطابع المتجسد والموجود حقًا للمتحدثين والوكلاء.

كما يقدم ديفيدسون الأمور فإنّه فقط من خلال مشاركتهم الملموسة في العالم، وفيما يتعلق بكل من الأشياء والمتحدثين أو الوكلاء الآخرين يمكن لأي متحدث أو وكيل أن يكون قادرًا على التحدث أو الوكالة الحقيقية، كما يمكن لأي متحدث أو وكيل أن يكون كذلك أنّه يمكن أن يكون لديهم أفكار أو أن يكونوا قادرين على العمل.

يتم التعبير أيضًا عن التركيز على الطابع الكلي والخارجي للمعرفة والمحتوى الذي يعتبر مركزيًا جدًا في التثليث في مثال ديفيدسون المعروف (المستنقع)، وهنا يُطلب منا تخيل موقف تؤدي فيه ضربة صاعقة في مستنقع إلى تقليل جسد ديفيدسون إلى عناصره الأساسية، مع تحويل شجرة ميتة قريبة في نفس الوقت إلى نسخة طبق الأصل منه.

على الرغم من أنّ (المستنقع) الناتج يتصرف تمامًا مثل المؤلف الأصلي لتفسير راديكالي، إلّا أنّ ديفيدسون ينكر أنّه يمكن القول بشكل صحيح أنّ (المستنقع) لديه أفكار أو أنّ كلماته لها معنى، والسبب ببساطة هو أنّ (المستنقع) يفتقر إلى هذا النوع، وللتاريخ السببي المطلوب من أجل إقامة الروابط الصحيحة بينه وبين الآخرين وبين العالم والتي تدعم إسناد الفكر والمعنى.

على الرغم من سمعته السيئة فإنّ مثال (المستنقع) لم يتم تفصيله من قبل ديفيدسون والمثال له فائدة محدودة للغاية، وفي هذا الصدد فإنّ الاهتمام الذي أحدثه (المستنقع) غير متناسب تمامًا مع ظهوره القصير للغاية في كتابات ديفيدسون.

العقيدة الثالثة للتجربة:

يعتبر رفض ديفيدسون لفكرة اللغة غير القابلة للترجم حيث إنّ الفكرة المرتبطة بها والشائعة أيضًا في العديد من أشكال النسبية المفاهيمية لنظام إيمان مختلف جذريًا وبالتالي غير قابل للقياس، وجزءًا من حجة أكثر عمومية يقدمها لا سيما في حول فكرة المخطط المفاهيمي ضد ما يسمى بالعقيدة الثالثة للتجربة، فأول عقيدتين هما تلك التي اشتهر بها الفيلسوف كوين في عقيدتان تجريبية الذي نُشر لأول مرة في المجلة الفلسفية في عام 1951.

الأول هو الاختزالية حيث فكرة أنّه يمكن إعادة صياغة أي بيان ذي مغزى بلغة التجربة الحسية الخالصة، أو على الأقل من حيث مجموعة من الأمثلة التوكيدية، بينما الثاني هو التحليلي فذلك التمييز التركيبي في الفكرة القائلة بأنّه فيما يتعلق بجميع العبارات ذات المعنى يمكن للمرء أن يميز بين العبارات التي تكون صحيحة من حيث معناها وتلك التي تكون صحيحة من حيث معانيها وبعض الحقائق أو الوقائع حول العالم، ويمكن اعتبار رفض كل من هذه العقائد عنصرًا مهمًا في تفكير ديفيدسون.

العقيدة الثالثة التي يدّعي ديفيدسون أنّه لا يزال من الممكن تمييزها في عمل كوين، وبالتالي يمكن أن تنجو من الرفض حتى للتمييز التحليلي التركيبي، وتتمثل في فكرة أنّه يمكن للمرء أن يميّز داخل المعرفة أو التجربة بين المكون المفاهيمي (المخطط المفاهيمي) ومكوِّن تجريبي (المحتوى التجريبي)، فغالبًا ما يُستمد الأول من اللغة والأخير من التجربة أو الطبيعة أو شكل من أشكال المدخلات الحسية.

في حين أنّ هناك صعوبات في التوصل إلى صياغة واضحة لهذا التمييز وخاصة فيما يتعلق بطبيعة العلاقة بين المكونين، فإنّ هذا التمييز يعتمد على القدرة على التمييز وعلى مستوى أساسي ما بين مساهمة ذاتية في المعرفة تأتي من أنفسنا ومساهمة موضوعية تأتي من العالم، وما يوضحه حساب ديفيدسون للمعرفة والتفسير مع ذلك هو أنّه لا يمكن التمييز بين هذا القبيل، فالمواقف مترابطة بالفعل -سببيًا ومعنويًا ومعرفيًا- مع الأشياء والأحداث في العالم، في حين أنّ معرفة الذات والآخرين تفترض بالفعل معرفة العالم.

وهكذا رفض ديفيدسون فكرة المخطط المفاهيمي مع فكرة أي شكل قوي من أشكال النسبية المفاهيمية، كما إنّ امتلاك المواقف والقدرة على الكلام هو بالفعل القدرة على تفسير الآخرين والانفتاح على التفسير من قبلهم.


شارك المقالة: