أثرت الأفكار المعقدة للفيلسوف دونالد هربرت ديفيدسون والمتغلغلة في موضوعات مثل التحليل اللغوي وطبيعة الحقيقة على جيل من المفكرين، وترك الدكتور ديفيدسون بصمته بمجموعة من المقالات البارزة على مدى أربعة عقود، والتي ألقى خلالها 20 محاضرة وأستاذية متميزة في جامعات في الولايات المتحدة وخارجها، وكان أستاذًا فخريًا بجامعة كاليفورنيا حتى وقت وفاته.
الشمولية وعدم التحديد:
نظرًا لأنّها في الواقع نظرية واحدة مجمعة هي الهدف هنا، لذلك يجب قياس مدى ملاءمة أي نظرية من هذا القبيل من حيث المدى الذي تقدم فيه النظرية بالفعل رؤية موحدة لمجموع الأدلة السلوكية المتاحة لنا، وذلك بالاقتران مع معتقداتنا الخاصة حول العالم وبدلاً من الإشارة إلى أي عنصر فردي من السلوك، ويمكن النظر إلى هذا على أنّه نسخة أكثر عمومية من نفس المطلب، وتم إجراؤه فيما يتعلق بنظرية رسمية للمعنى.
وأنّ نظرية المعنى للغة تتناول مجمل الكلمات المنطوقة لتلك اللغة، على الرغم من أنّه في سياق التفسير الراديكالي يجب أن يُفهم هذا المطلب على أنّه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحاجة إلى الاهتمام بالاعتبارات المعيارية للعقلانية الشاملة، وتتمثل النتيجة المباشرة لهذا النهج الشامل في أنّه سيكون هناك دائمًا أكثر من نظرية واحدة للتفسير ستكون كافية لأي مجموعة معينة من الأدلة نظرًا لأنّ النظريات قد تختلف في سمات معينة للاعتقاد أو تخصيصات المعنى بينما تقدم مع ذلك تفسيرًا مرضيًا بنفس القدر للسلوك العام للمتحدث.
كما إنّه فشل التفرد هذا هو ما يسميه ديفيدسون (عدم التحديد) للتفسير والذي يوفر نظيرًا لعدم تحديد الترجمة الذي يظهر أيضًا، على الرغم من تطبيقه المحدود في فلسفة كوين، وفي حساب ديفيدسون في حين أنّ عدم التحديد غالبًا ما يمر دون أن يلاحظه أحد، وهو في الواقع أقل بالنسبة لديفيدسون منه بالنسبة إلى كوين (جزئيًا كنتيجة لتوظيف ديفيدسون للتارسكي وبالتالي للحاجة إلى قراءة بنية المنطق من الدرجة الأولى في اللغة المفسرة)، ومع ذلك فإنّه لا يزال سمة لا يمكن القضاء عليها من كل التفسيرات.
علاوة على ذلك لا يجب النظر إلى اللاحتمية على أنّها مجرد انعكاس لبعض القيود المعرفية على التفسير، بل تعكس الطابع الكلي للمعنى والاعتقاد، وتحيلنا مثل هذه المفاهيم إلى الأنماط العامة في سلوك المتحدثين بدلاً من الكيانات المنفصلة، والتي يجب على التفسير بطريقة ما الوصول إليها، وفي الواقع تنطبق الكلية من هذا النوع ليس فقط على المعاني والمعتقدات، ولكن أيضًا على ما يسمى المواقف الافتراضية بشكل عام.
يتم وصف هذا الأخير ببساطة على أنّه مواقف يمكن تحديدها من خلال الإشارة إلى اقتراح، كالاعتقاد بأنّ هناك باذنجان على العشاء هو مسألة تصديق الاقتراح القائل بوجود باذنجان على العشاء، والرغبة في أن يكون هناك باذنجان على العشاء هي مسألة الرغبة في ذلك، وأن يكون صحيحًا أنّه يوجد باذنجان على العشاء، ولذا فإنّ محتويات المواقف من هذا النوع دائمًا ما تكون مقترحة، وبالتالي فإنّ كلية ديفيدسون هي كلية تنطبق على المعاني والمواقف وبالتالي أيضًا على محتوى المواقف.
في الواقع يمكننا التحدث عن تفسير ديفيدسون للتفسير على أنّه توفير حساب عام تمامًا لكيفية تحديد المحتوى العقلي، والذي يُفهم هذا المحتوى على أنّه محتوى الحالات العقلية الافتراضية مثل الاعتقاد، ومن خلال العلاقة السببية بين المتحدثين والأشياء في العالم ومن خلال التكامل العقلاني لسلوك المتحدثين، وهكذا كما اتضح أنّ نهج ديفيدسون لنظرية المعنى ينطوي على نظرية أكثر عمومية للتفسير، لذا فإنّ نظرته الكلية للمعنى تعني نظرة شمولية للعقل والمحتوى العقلي بشكل عام.
إنّ التزام ديفيدسون باللاحتمية التي تنبع من نهجه الشمولي دفع البعض إلى النظر إلى موقفه على أنّه ينطوي على شكل من أشكال معاداة الواقعية حول العقل والمعتقدات والرغبات وما إلى ذلك، ويجادل ديفيدسون مع ذلك بأنّ عدم تحديد التفسير يجب أن يُفهم على نحو مشابه مع عدم التحديد المرتبط بالقياس، ومثل هذه النظريات تعين قيمًا رقمية للأشياء على أساس ظواهر يمكن ملاحظتها تجريبياً ووفقًا لقيود نظرية رسمية معينة.
في حالة وجود نظريات مختلفة تتناول نفس الظواهر يمكن لكل نظرية تعيين قيم عددية مختلفة للأشياء المعنية، كما هو الحال بالنسبة للدرجة المئوية والفهرنهايت في قياس درجة الحرارة، ومع ذلك لا يوجد فرق في الكفاية التجريبية لتلك النظريات لأنّ المهم هو النمط العام للتخصيصات وليس القيمة المخصصة في أي حالة معينة، وبالمثل في التفسير فإنّ النمط العام الذي تجده النظرية في السلوك هو المهم والذي يظل ثابتًا بين النظريات المختلفة، ولكن بشكل متساوٍ، وإنّ حساب معنى اللغة هو سرد لهذا النمط فقط.
نقد أطروحة ديفيدسون:
على الرغم من أنّ أطروحة عدم التحديد كانت في بعض الأحيان محورًا للاعتراضات على نهج ديفيدسون، إلّا أنّها الأطروحة الأكثر أساسية للشمولية كما تم تطويرها في شكلها الكامل في حساب التفسير الراديكالي (وخاصة فيما يتعلق بالمعنى) التي اجتذبت في كثير من الأحيان النقد الأكثر مباشرة ولاذعًا، وكان مايكل دوميت أحد أهم منتقدي موقف ديفيدسون.
حيث يجادل دوميت بأنّ التزام ديفيدسون بالشمولية لا يؤدي فقط إلى إثارة المشاكل المتعلقة على سبيل المثال بكيفية تعلم اللغة، حيث يبدو أنّها تتطلب أن يفهم المرء اللغة بأكملها دفعة واحدة، في حين أنّ التعلم دائمًا مجزأ، ولكنه يقيد أيضًا قدرة ديفيدسون على إعطاء ما يراه دوميت بمثابة سرد كامل لطبيعة الفهم اللغوي، ولأنّه يعني أنّ ديفيدسون لا يستطيع تقديم تفسير يشرح المعنى من حيث غير الدلالي.
جاءت انتقادات أكثر حداثة من جيري فودور من بين آخرين الذين كانت معارضتهم للكلية وليس فقط في ديفيدسون ولكن في كوين ودينيت وأماكن أخرى، مدفوعة إلى حد كبير بالرغبة في الدفاع عن إمكانية اتباع نهج علمي معين للعقل.
علم الوجود والشكل المنطقي:
تستدعي حسابات ديفيدسون للفعل والعقل مجموعة متطورة من التحليلات المتعلقة بالمفاهيم النفسية مثل الاعتقاد والرغبة والنية، وهي مفاهيم يتم تحليلها بشكل أكبر في عدد من الأوراق التي تتابع الأفكار وتطورها أو تعدلها، وقد تم تحديدها أولاً في ورقة الإجراءات والأسباب كأسباب، وكذلك في مناقشات ديفيدسون للقضايا المعرفية والدلالية، ولكن عمل ديفيدسون في هذا المجال يعتمد أيضًا على تفسيره لمفاهيم السبب والحدث والقانون، وعلى وجه الخصوص على دفاعه عن وجهة النظر القائلة بأنّ الأحداث هي تفاصيل وبالتالي تشكل فئة وجودية أساسية.
إذا كانت الأحداث بالفعل تفاصيل فإنّ السؤال المهم يتعلق بشروط هوية الأحداث، وفي تفرده الأحداث أو وحدانية الأحداث يجادل ديفيدسون بأنّ الأحداث متطابقة إذا وفقط إذا كانت لها نفس الأسباب والتأثيرات بالضبط، وفي (الرد على كوين على الأحداث) تخلى عن هذا المعيار لصالح الاقتراح الفلسفة الكوينية بأنّ الأحداث متطابقة إذا وفقط إذا كانت تشغل نفس المكان بالضبط في المكان والزمان.
من السمات المميزة لنهج ديفيدسون تجاه مثل هذه الأسئلة الأنطولوجية التركيز على البنية المنطقية للجمل حول الكيانات المعنية بدلاً من التركيز على تلك الكيانات بحد ذاتها، ونهج ديفيدسون للأحداث على سبيل المثال يرتكز على تحليل الشكل المنطقي الأساسي للجمل حول الأحداث، وفي حالة العلاقات السببية في تحليل الشكل المنطقي للجمل التي تعبر عن مثل هذه العلاقات، وفي نهجه في العمل أيضًا يتضمن نهج ديفيدسون تحليلًا للشكل المنطقي للجمل حول الأفعال.
وهذا يعكس التزامًا أكثر عمومية من جانب ديفيدسون تجاه عدم الفصل بين أسئلة الأنطولوجيا وأسئلة المنطق، وتم توضيح هذا الالتزام صراحة في منهج الحقيقة في الميتافيزيقيا في عام 1977، وهو يوفر نقطة اتصال أخرى بين عمل ديفيدسون في فلسفة الفعل والحدث والعقل وعمله حول مسائل المعنى واللغة.