فلسفة ديفيدسون في تعلم اللغة ومناهضة الشكوكية

اقرأ في هذا المقال


عندما انضم دونالد ديفيدسون إلى كلية بيركلي في جامعة كاليفورنيا في عام 1980، كانت سمعته الدولية -التي نمت بشكل مطرد منذ ذلك الحين- آمنة بالفعل وكانت آرائه الفلسفية موضوع العديد من الندوات في قسم الفلسفة، ولم يتوقف أبدًا عن سعيه للتوصل إلى توليفة مرضية للأفكار التي كان يصارعها ويصقلها ويوسعها لعقود ومنها التفسير الراديكالي والوحدانية الشاذة وترابط المعتقد والرغبة والمعنى، ونظرية القرار كنموذج للعقل العقلاني وملاءمة نظرية الحقيقة كنظرية للمعنى والتفسير كنوع من أنواع القياس.

الحقيقة والمعنى:

في عام 1967 نشر ديفيدسون الحقيقة والمعنى حيث جادل بأنّ أي لغة قابلة للتعلم يجب أن تكون قابلة للتعلم في شكل محدود، حتى لو كانت قادرة على عدد لا حصر له من التعبيرات نظريًا، كما قد يفترض المرء أنّ اللغات البشرية الطبيعية على الأقل من حيث المبدأ، وإذا لم يكن من الممكن ذكرها بطريقة محدودة فلا يمكن تعلمها من خلال طريقة تجريبية محدودة مثل الطريقة التي يتعلم بها البشر لغاتهم.

ويترتب على ذلك أنّه يجب أن يكون من الممكن إعطاء دلالات نظرية لأي لغة طبيعية يمكن أن تعطي معاني عدد لا حصر له من الجمل على أساس نظام محدود من البديهيات، وأضاف أنّ إعطاء معنى للجملة كان مكافئًا لتوضيح شروط الحقيقة الخاصة بها، وبالتالي إنشاء العمل الحديث حول دلالات الحقيقة المشروطة، وباختصار اقترح أنّه يجب أن يكون من الممكن التمييز بين عدد محدود من السمات النحوية المتميزة للغة، وأن يشرح كل منها طريقة عملها بطريقة تولد عبارات تافهة (صحيحة بوضوح) عن ظروف الحقيقة للجميع.

فالجمل (العديدة بلا حدود) التي تستخدم هذه الميزة، أي أنّه يمكن للمرء أن يعطي نظرية محدودة عن المعنى للغة طبيعية، حيث اختبار صحتها هو أنّه سينتج (إذا تم تطبيقه على اللغة التي تمت صياغتها بها) جميع الجمل ذات الشكل (p) صحيحة إذا وفقط إذا كان (p)، وكذلك الثلج أبيض (Snow is white) يكون صحيحًا إذا و فقط إذا كان الثلج أبيض، وهذه تسمى جمل (T) وهي التي استمد ديفيدسون الفكرة من ألفريد تارسكي.

تم تسليم هذا العمل في الأصل في محاضرات جون لوك في أكسفورد، وأطلق مسعى كبير من قبل العديد من الفلاسفة لتطوير نظريات ديفيدسون الدلالية للغة الطبيعية، وساهم ديفيدسون نفسه بالعديد من التفاصيل لمثل هذه النظرية في مقالات عن الاقتباس والخطاب غير المباشر وأوصاف الفعل.

ضد النسبية والتشكيك:

على الرغم من أنّها ليست مجرد فكرة معرفية فإنّ الطريقة التي يقدم بها ديفيدسون فكرة التثليث تميل إلى أن تكون مثل إبراز آثارها المعرفية في المقدمة، وهذا ينطبق بشكل خاص على الطريقة التي طور بها ديفيدسون الفكرة في ثلاثة أنواع من المعرفة، ونظرًا لأنّ معرفتنا بعقولنا ليست مستقلة عن معرفتنا بالعالم ولا عن معرفتنا بالآخرين لذلك لا يمكننا التعامل مع معرفة الذات على أنّها مسألة وصولنا إلى مجموعة من الأشياء العقلية الخاصة.

كما تنشأ معرفتنا بأنفسنا فقط فيما يتعلق بتورطنا مع الآخرين وفيما يتعلق بعالم يمكن الوصول إليه بشكل عام، بالإضافة إلى تاريخ من هذه المشاركة -وهذا في الواقع جزء من نقطة مثال الشهير المستنقع (Swampman) الذي طرحه ديفيدسون- ومع ذلك فإننا نحتفظ بسلطة معينة على مواقفنا وأقوالنا لمجرد حقيقة أنّ تلك المواقف والألفاظ هي بالفعل ملكنا، وعلاوة على ذلك نظرًا لأنّ معرفتنا بالعالم لا تنفصل عن أشكال المعرفة الأخرى فإنّ الشك المعرفي العالمي وهو الرأي القائل بأنّ جميع معتقداتنا حول العالم أو معظمها يمكن أن تكون خاطئة تبين أنّها ملتزمة بأكثر بكثير مما يُفترض عادةً.

إذا اتضح بالفعل أنّ معتقداتنا حول العالم كانت كلها أو في معظمها خاطئة، فإنّ هذا لا يعني فقط زيف معظم معتقداتنا عن الآخرين، ولكن سيكون له أيضًا نتيجة غريبة تجعلنا أكثر خطأ، ومن معتقداتنا عن أنفسنا بما في ذلك الافتراض بأننا نتمسك بالفعل بتلك المعتقدات الخاطئة، وعلى الرغم من أنّ هذا قد لا يرقى إلى مستوى إثبات زيف مثل هذه الشكوك إلّا أنّه يوضح بالتأكيد أنّها مشكلة عميقة.

إنّ الطريقة التي يستمد بها رفض ديفيدسون للشكوكية بالفعل بشكل مباشر تمامًا من تبني ديفيدسون لنهج شامل خارجي للمعرفة وللمحتوى السلوكي بشكل عام، قد تم طمسها أحيانًا من خلال عرض ديفيدسون لحجته ضد الشك من خلال التوظيف على سبيل المثال، وللمرة الأولى في الفكر والحديث في عام 1975، وللمفهوم الإشكالي إلى حد ما المترجم كلي العلم، وينسب مثل هذا المترجم المعتقدات إلى الآخرين ويحدد المعاني لأقوالهم، ولكنه مع ذلك سيفعل ذلك على أساس معتقداته الحقيقية الخاصة.

لذلك يجب على المترجم الفوري أن يجد قدرًا كبيرًا من الاتفاق بين معتقداته ومعتقدات أولئك الذين يفسرهم، وما تم الاتفاق عليه أيضًا من خلال الفرضية سيكون صحيحًا، ومع ذلك مثل مثال المستنقع (Swampman) أدى مثال المترجم الشامل إلى عدد من التعقيدات وسوء الفهم (لدرجة أنّ ديفيدسون قد أعرب عن أسفه على الإطلاق لنشر هذه الأمثلة في المقام الأول)، وعلى الرغم من ظهور المترجم كلي العلم في عدد الأماكن في كتابات ديفيدسون، ولا تظهر الفكرة في مناقشاته اللاحقة ولكن بدلاً من ذلك تم استبدالها بمفهوم التثليث.

من سمات كل من حجة التثليث وتفسير ديفيدسون للتفسير الراديكالي أنّ إسناد المواقف يجب أن يستمر دائمًا جنبًا إلى جنب مع تفسير الأقوال، من تحديد المحتوى سواء كان من الأقوال أو المواقف وهو في الواقع مشروع واحد، وعدم القدرة على تفسير الكلام المنطقي (أي عدم القدرة على تخصيص معاني لحالات السلوك اللغوي المفترض) يعني بالتالي عدم القدرة على عزو المواقف (والعكس صحيح).

المخلوق الذي لا يمكننا تفسيره على أنّه قادر على الكلام الهادف سيكون أيضًا مخلوقًا لا يمكننا تفسيره على أنّه قادر على امتلاك مواقف مضمونة، وتقود هذه الاعتبارات ديفيدسون إلى إنكار أنّ الحيوانات غير اللغوية قادرة على التفكير، حيث ينطوي الفكر على امتلاك مواقف افتراضية مثل المعتقدات أو الرغبات، وهذا لا يعني أنّ مثل هذه الحيوانات ليس لها حياة عقلية على الإطلاق، ولا يعني أنّه لا يمكننا استخدام المفاهيم العقلية بشكل مفيد في شرح والتنبؤ بسلوك هذه المخلوقات.

ما يعنيه ذلك مع ذلك هو أنّ المدى الذي يمكن أن نفكر فيه في مثل هذه المخلوقات على أنّها تمتلك مواقف وحياة عقلية مثل حياتنا تقاس بمدى قدرتنا على تخصيص محتوى افتراضي محدد للمواقف التي ننسبها إلى تلك المخلوقات، والنتيجة الأخرى لهذا الرأي هي أنّ فكرة اللغة غير القابلة للترجمة -وهي فكرة توجد غالبًا مرتبطة بأطروحة النسبية المفاهيمية- بحيث لا يمكن إعطاؤها أي صياغة متماسكة، وعدم القدرة على ترجمة التهم كدليل ليس على وجود لغة غير قابلة للترجمة، ولكن على عدم وجود لغة من أي نوع.


شارك المقالة: