فلسفة ديفيدسون ونظرية الحقيقة الترسكية

اقرأ في هذا المقال


تتمثل إحدى المزايا العظيمة لنظرية الحقيقة الترسكية واتفاقية (T) في أنّه يمكّن الفيلسوف دونالد هربرت ديفيدسون من ربط روايته لنظرية المعنى بنهج موجود بالفعل لنظرية الحقيقة، أي تلك التي طورها ألفريد تارسكي وذلك في عمله الأساسي مفهوم الحقيقة في اللغات الرسمية الذي نُشر لأول مرة باللغة البولندية عام 1933 وبالترجمة الإنجليزية في عام 1956.

نظرية الحقيقة الترسكية:

كانت نظرية تارسكي عن الحقيقة مقصودة في الأصل ليس كتفسير عام لطبيعة الحقيقة، ولكن بالأحرى كطريقة لتعريف مسند الحقيقة كما ينطبق في لغة رسمية، حيث يقترح تارسكي أن نصل إلى تعريف رسمي للمسند (صحيح) من خلال توفير جملة مطابقة (p) في اللغة الفوقية التي هي ترجمة لـ (s)، حيث هنا في استخدامه لفكرة المرادفات متعدية، ويعتمد تارسكي في الواقع على مفهوم المعنى من أجل الوصول إلى نظرية الحقيقة وذلك عكس ديفيدسون هذا النهج.

الجملة (T) الناتجة سيكون لها شكل كالتالي: “يكون (s) صحيحًا في اللغة (L) إذا وفقط إذا كان (p)”، وأن تكون النظرية الملائمة قادرة بالفعل على توليد جملة (T) لكل جملة في لغة الكائن هو جوهر اتفاقية (T) عند تارسكي، وهو مطلب يتطابق بوضوح مع المطلب الشامل الذي يحدده ديفيدسون أيضًا لنظرية مناسبة للمعنى.

فلسفة اللغة بين نظرية المعنى ونظرية الحقيقة الترسكية:

مثلما تعامل نظرية دافيدسون عن المعنى مع معنى الجمل الكاملة على أنّها تعتمد على مكونات تلك الجمل، فإنّ نظرية الحقيقة الترسكية تعمل أيضًا بشكل متكرر عن طريق المفهوم التقني للرضا، وهي فكرة تقف على جمل مفتوحة (التعبيرات) والتي تحتوي على متغيرات غير منضمة وكذلك حقيقة الجمل المغلقة (التعبيرات التي لا تحتوي على متغيرات بخلاف المتغيرات المرتبطة)، بحيث يُنظر إلى شروط الرضا للجمل الأكثر تعقيدًا على أنّها تعتمد على شروط الرضا للجمل الأبسط.

إنّ البنية الشكلية التي يوضحها تارسكي في حسابه الدلالي للحقيقة مطابقة لتلك التي يشرحها ديفيدسون كأساس لنظرية المعنى، حيث يمكن لنظرية الحقيقة الترسكية أن تولد لكل جملة من لغة الكائن جملة (T)، والتي تحدد معنى كل جملة بمعنى تحديد الشروط التي بموجبها تكون صحيحة، وما يُظهره عمل ديفيدسون إذن هو أنّ تلبية متطلبات اتفاقية تارسكي (T) يمكن اعتبارها مطلبًا أساسيًا لنظرية مناسبة للمعنى.

مزايا ومشكلات بين نظرية المعنى ونظرية الحقيقة الترسكية:

تعرف نظرية الحقيقة الترسكية الحقيقة على أساس جهاز منطقي يتطلب أكثر قليلاً من الموارد المتوفرة ضمن المنطق الكمي من الدرجة الأولى كما تكمله نظرية المجموعات، وعلاوة على ذلك فإنّه يعمل أيضًا على تقديم تعريف للحقيقة (ممتدة) بحتة، أي أنّها تحدد الحقيقة من خلال تحديد تلك الحالات التي ينطبق عليها مسند الحقيقة بشكل صحيح دون أي إشارة إلى المعاني أو الأفكار أو الكيانات المكثفة الأخرى، وتمثل هاتان الميزتان مزايا مهمة لنهج ديفيدسون حيث رفض ديفيدسون للمعاني المحددة لأنّ لها دورًا مهمًا تلعبه في نظرية المعنى ينطوي بالفعل على التزام بنهج موسع للغة.

ومع ذلك فإنّ هذه الميزات تمثل أيضًا بعض المشكلات حيث يرغب ديفيدسون في تطبيق النموذج الترسكي كأساس لنظرية المعنى للغات الطبيعية ولكن مثل هذه اللغات أغنى بكثير من الأنظمة الرسمية المحددة جيدًا التي لفت تارسكي انتباهه إليها، وتحتوي اللغات الطبيعية بشكل خاص على ميزات يبدو أنّها تتطلب موارد تتجاوز تلك الخاصة بمنطق الدرجة الأولى أو أي تحليل موسع بحت، وتتضمن الأمثلة على هذه الميزات الكلام غير المباشر أو المبلغ عنه (قال جاليليو أنّ الأرض تتحرك)، والتعبيرات الظرفية (فلورا سبحت ببطء حيث ببطء تعدل فلورا سبحت) والجمل غير الإرشادية مثل الضرورات (أكل الخاص بك باذنجان!).

كان جزء مهم من عمل ديفيدسون في فلسفة اللغة هو إظهار كيف يمكن بالفعل تحليل مثل هذه السمات العنيفة للغة الطبيعية لجعلها قابلة للعلاج الترسكي، وفي أعماله على قول ذلك (On Saying That) واقتباس (Quotation) حيث يتناول مسألة الكلام غير المباشر، وفي الحالة المزاجية والعروض يتعامل مع الكلام غير الدلالي، وفي ظروف العمل تناول مشكلة تعديل الظرف.

كما هو الحال في تحليل ديفيدسون للأفعال والأحداث يلعب مفهوم الشكل المنطقي دورًا مهمًا في مقاربته هنا، حيث تظهر مشكلة كيفية تطبيق نظرية الحقيقة الترسكية على اللغة الطبيعية على أنّها تعتمد على توفير تحليل للشكل المنطقي الأساسي لتعبيرات اللغة الطبيعية التي تجعلها تندرج في نطاق نهج توسع بحت يستخدم الحد الأدنى من الموارد المنطقية فقط.

ومع ذلك هناك مشكلة عامة أخرى تؤثر على استيلاء ديفيدسون على التارسكي، بينما يستخدم تارسكي مفهوم تشابه المعنى من خلال مفهوم الترجمة كوسيلة لتقديم تعريف للحقيقة، حيث أحد متطلبات الاتفاقية (T) هو أنّ تكون الجملة الموجودة على الجانب الأيمن من جملة تاركسية ترجمة الجملة على اليسار، ويهدف ديفيدسون إلى استخدام الحقيقة لتقديم تفسير للمعنى، ولكن في هذه الحالة يبدو أنّه يحتاج إلى طريقة أخرى لتقييد تكوين جمل (T) للتأكد من أنّها تقدم بالفعل المواصفات الصحيحة لما تعنيه الجمل.

يتم توضيح هذه المشكلة بسهولة من خلال السؤال عن كيفية استبعاد جمل (T) من النموذج في جملة: “الثلج أبيض” صحيحة إذا وفقط إذا كان العشبأخضر، ونظرًا لأنّ الشرط الثنائي (إذا وفقط إذا) يضمن فقط أنّ الجملة المسماة على اليسار سيكون لها نفس قيمة الحقيقة مثل الجملة الموجودة على اليمين، لذلك يبدو أنّها تسمح لنا بإجراء أي استبدال للجمل على اليمين طالما قيمتها الحقيقية مماثلة لتلك الموجودة على اليسار.

في أحد الجوانب يتم مواجهة هذه المشكلة ببساطة من خلال الإصرار على الطريقة التي يجب أن يُنظر بها إلى الجمل (T) على أنّها نظريات تولدها نظرية المعنى الملائمة للغة المعنية ككل، ونظرًا لأنّ معنى تعبيرات معينة لن يكون مستقلاً عن معنى التعبيرات الأخرى، وذلك بحكم الالتزام بالتكوين يجب إنشاء معاني جميع الجمل على نفس القاعدة المحدودة، ولذا فإنّ النظرية التي تولد نتائج إشكالية فيما يتعلق بواحد يمكن توقع أن يؤدي التعبير إلى نتائج إشكالية في مكان آخر، وعلى وجه الخصوص ينتج عنه أيضًا نتائج لا تفي بمتطلبات الاتفاقية (T).

ومع ذلك يمكن أيضًا رؤية هذه المشكلة باعتبارها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بنقطة اختلاف مهمة أخرى بين نظرية الحقيقة الترسكية ونظرية دافيدسون عن المعنى، بحيث يجب أن تكون نظرية المعنى للغة طبيعية نظرية تجريبية -إنّها بالفعل نظرية يجب أن تنطبق على السلوك اللغوي الفعلي- وعلى هذا النحو يجب أن تكون قابلة للتحقق تجريبياً.

إنّ الإيفاء بمتطلبات أن تكون نظرية المعنى مناسبة كنظرية تجريبية، ولكي تكون مناسبة للسلوك الفعلي للمتحدثين سيضمن أيضًا قيودًا أكثر صرامة (إذا لزم الأمر) على تكوين جمل (T)، ففي الواقع لم يكن ديفيدسون واضحًا تمامًا فقط في التأكيد على الطابع التجريبي لنظرية المعنى، ولكنه يقدم أيضًا وصفًا تفصيليًا يشرح كيف يمكن تطوير مثل هذه النظرية ويحدد طبيعة الدليل الذي يجب أن تستند إليه.

المصدر: Donald Herbert Davidson: Mind and ActionDonald DavidsonDonald Davidson (philosopher)Essays on Actions and Events. Oxford: Oxford University Press, 1980.Inquiries into Truth and Interpretation. Oxford: Oxford University Press, 1984.Subjective, Intersubjective, Objective. Oxford: Oxford University Press, 2001.


شارك المقالة: