ألبير كامو كان فيلسوفًا ومؤلفًا وصحفيًا فرنسيًا، فقد ساهمت آرائه في ظهور الفلسفة المعروفة بالعبثية، وكان قد كتب في مقالته المتمرد (The Rebel) أنّ حياته كلها كانت مكرسة لمعارضة فلسفة العدمية بينما لا يزال يغوص بعمق في الحرية الفردية.
مفهوم الثورة أو تمرد:
الفكرة المصاحبة للعبثية في أعمال كامو (والموضوع الفلسفي الآخر الوحيد الذي كرس له كتابًا كاملاً) هي فكرة الثورة، فما هي الثورة؟ ببساطة إنّها روح التحدي العبثية في وجه العبث، وبشكل أكثر تقنية وأقل مجازًا إنّها روح معارضة ضد أي ظلم أو قمع أو إهانة في الحالة الإنسانية.
يبدأ التمرد بمعنى كامو باعتراف بالحدود، والحدود التي تحدد الذات الجوهرية للفرد والشعور الأساسي بالوجود وبالتالي لا يجب التعدي عليها، كما هو الحال عندما يقف العبد أمام سيده ويقول في الواقع: “حتى الآن وليس أكثر من ذلك، هل سيأمرني”، ويبدو أنّ تعريف الذات في مرحلة ما على أنّها غير قابلة للانتهاك هو عمل من أعمال الأنانية الخالصة والفردية ولكنه ليس كذلك.
في الواقع يجادل كامو بإسهاب لإظهار أنّ فعل التمرد الضميري هو في نهاية المطاف أكثر بكثير من مجرد لفتة فردية أو فعل احتجاج منفرد، ويقول إنّ المتمرد يرى أن هناك: “مصلحة عامة أهم من مصيره، وأنّ هناك حقوقًا أهم منه”، كما إنّه يتصرف باسم قيم معينة لا تزال غير محددة ولكن يشعر أنّها مشتركة بينه وبين جميع الناس”.
ثم يواصل كامو التأكيد على أنّ: “تحليل التمرد يؤدي على الأقل إلى الشك في أنّه على عكس افتراضات الفكر المعاصر توجد طبيعة بشرية كما اعتقد الإغريق“، وبعد كل شيء يتساءل لماذا تتمرد، وإذا لم يكن هناك شيء دائم في الذات يستحق الحفاظ عليه؟ فالعبد الذي يقف ويؤكد نفسه يفعل ذلك في الواقع من أجل الجميع في العالم.
يعلن كامو في الواقع أنّ جميع الناس -حتى الرجل الذي يهينه ويضطهده- لهم مجتمع طبيعي، وهنا قد نلاحظ أنّ فكرة أنّه قد تكون هناك بالفعل طبيعة بشرية أساسية هي في الواقع أكثر من مجرد شك بقدر ما كان كامو معنيًا به، وفي الواقع كان الأمر بالنسبة له أشبه بمقالة أساسية من إيمانه الإنساني، وعلى أي حال فهو يمثل أحد المبادئ الأساسية لأخلاقه وهو أحد المبادئ التي تميز فلسفته عن الوجودية.
إنّ التمرد الحقيقي إذن لا يتم فقط من أجل الذات ولكن أيضًا بالتضامن مع الآخرين وبدافع الشفقة معهم، ولهذا السبب استنتج كامو أنّ للثورة حدودها أيضًا، وإذا كان يبدأ بالاعتراف بالمجتمع البشري وبكرامة إنسانية مشتركة وينطوي بالضرورة على الاعتراف به فإنّه لا يمكنه دون خيانة شخصيته الحقيقية، ومعاملة الآخرين كما لو كانوا يفتقرون إلى تلك الكرامة أو ليسوا جزءًا من ذلك المجتمع.
في النهاية من اللافت للنظر والمدهش حقًا مدى قرب فلسفة كامو في التمرد، على الرغم من الإلحاد والفردية الشديدة للمؤلف مع الأخلاق الكانطية مع حظرها لمعاملة البشر كوسائل ومثلها الأعلى للمجتمع البشري كمملكة غايات.
الغريب أو الدخيل:
من الموضوعات المتكررة في أعمال كامو الأدبية والتي تظهر أيضًا في كتاباته الأخلاقية والسياسية شخصية أو منظور الغريب أو الدخيل، ويعد مورسو الراوي المقتضب لكتاب الغريب (The Stranger) وهو المثال الأكثر وضوحًا، ويبدو أنّه يلاحظ كل شيء حتى سلوكه من منظور خارجي، ومثل عالم الأنثروبولوجيا يسجل ملاحظاته مع انفصال إكلينيكي في نفس الوقت الذي يلاحظ فيه بحذر من قبل المجتمع من حوله.
جاء كامو من هذا المنظور بشكل طبيعي، وبصفة الفرد أوروبيًا في إفريقيا، وأفريقيًا في أوروبا وكافرًا بين المسلمين وكاثوليكيًا ساقطًا وانسحابًا من الحزب الشيوعي، ومقاومًا سريًا والذي كان عليه في بعض الأحيان استخدام أسماء مشفرة وهويات مزيفة، فقد نشأ على يد أم أرملة (كانت أميّة وصمّ وبكم فعليًا)، كما عاش كامو معظم حياته في مجموعات ومجتمعات مختلفة دون أن يندمج فيها حقًا.
هذه النظرة الخارجية ووجهة نظر المنفى أصبحت موقفه المميز ككاتب، كما إنّه يفسر كلاً من الدقة الرائعة والموضوعية (درجة الصفر) لمعظم أعماله وكذلك القيمة العالية التي خصصها للمثل العليا التي يتوق إليها مثل الصداقة والمجتمع والتضامن والأخوة.
الذنب والبراءة:
أظهر كامو طوال حياته المهنية في الكتابة اهتمامًا عميقًا بمسائل الذنب والبراءة، ومرة أخرى يقدم مورسو في كتاب الغريب مثالًا صارخًا، وهل هو بريء قانونيًا من جريمة القتل المنسوبة إليه؟ أم أنّه مذنب من الناحية الفنية؟ ومن ناحية يبدو أنّه لم تكن هناك نية واعية وراء أفعاله، وفي الواقع يتم القتل كما لو كان مصادفة مع وجود مورسو في حالة ذهول شاردة الذهن تشتت انتباهها الشمس.
من وجهة النظر هذه تبدو جريمته سريالية ومحاكمته وإدانته اللاحقة مهزلة، ومن ناحية أخرى من الصعب على القارئ عدم مشاركة وجهة نظر الشخصيات الأخرى في الرواية وخاصة متهمي مورسو وشهوده وهيئة المحلفين، الذين يبدو في نظرهم أنّه إنسان معيب بشكل خطير وفي أحسن الأحوال هو نوع من الرجل الفارغ، بينما في أسوأ الأحوال كوحش التمركز حول الذات والعزلة، وإنّ كون الشخصية قد أثارت مثل هذا النطاق الواسع من ردود الفعل من النقاد والقراء -من التعاطف إلى الرعب- هو تكريم للتعقيد النفسي ودقة صورة كامو.
يواصل كامو الرواية الأخيرة المصممة ببراعة السقوط ( The Fall) اهتمامه الشديد بموضوع الذنب، وهذه المرة من خلال راوي مهووس به فعليًا، حيث يُعذب جان بابتيست كلامانس (صوت في البرية يدعو إلى الرأفة والمغفرة) من خلال الشعور بالذنب في أعقاب حادث يبدو أنّه عرضي، وبينما كان يتجول في منزله في أحد أمسيات شهر تشرين الثاني الممطرة، لم يُظهر اهتمامًا كبيرًا ولم يكن هناك أي رد فعل عاطفي على الإطلاق تجاه الانغماس الانتحاري لامرأة شابة في نهر السين.
لكن بعد ذلك بدأت الحادثة في قضمه وفي النهاية بدأ ينظر إلى تقاعسه عن العمل على أنّه نموذجي لنمط طويل من الغرور الشخصي وفشل هائل في التعاطف البشري من جانبه، وبعد أن أصابه الندم وكراهية الذات ينحدر تدريجياً إلى جحيم رمزي، حيث كان محاميًا سابقًا وهو الآن يصف نفسه بأنّه (القاضي التائب) -مزيج خاطئ ومغري ومدعي عام وأب معترف- والذي يظهر كل ليلة في منزله المحلي وهو حانة للبحار بالقرب من منطقة الضوء الأحمر في أمستردام، حيث إلى حد ما بطريقة ملاح كوليردج القديم ويروي قصته لمن يسمعها.
في الأقسام الأخيرة من الرواية وسط صور ورمزية مسيحية واضحة يعلن عن رؤيته الحاسمة القائلة بأنّه على الرغم من ادعاءاتنا بالصلاح فإننا جميعًا مذنبون، ومن ثم لا يحق لأي إنسان إصدار حكم أخلاقي نهائي على شخص آخر، حيث في تطور أخير يؤكد كلامانس أنّ صورته الذاتية الحمضية هي أيضًا مرآة لمعاصريه، ومن ثم فإنّ اعترافه يعتبر أيضًا اتهامًا، وليس فقط لرفيقه المجهول (الذي يعمل كمدقق صامت لمونولوجه) ولكن في النهاية للمحاضر المنافق أيضًا.