في بداية كتاب المتمرد (The Rebel) تابع الفيلسوف ألبير كامو (Albert Camus) من حيث توقف في أسطورة سيزيف، كما يكتب كفيلسوف مرة أخرى ويعود إلى ميدان الجدل من خلال شرح ما يستلزمه التفكير العبثي، فاستنتاجها النهائي هو نبذ الانتحار وقبول المواجهة اليائسة بين البحث البشري وصمت الكون.
الفلسفة العبثية ومواجهة الواقع:
بما أنّ الاستنتاج العبثي بخلاف ذلك من شأنه أن ينفي فرضيته ذاتها أي وجود السائل، فإنّ العبثية يجب أن تقبل منطقيًا الحياة باعتبارها الصالح الوحيد الضروري، فلقول أنّ الحياة عبثية يجب أن يكون الوعي على قيد الحياة، والعيش والأكل هما في حد ذاته أحكام قيمة، والتنفس هو الحكم، وكما هو الحال في نقده للوجوديين يدعو كامو إلى وجهة نظر واحدة يمكن من خلالها الدفاع عن الصحة الموضوعية أي الاتساق.
ومع ذلك للوهلة الأولى يبدو أنّ موضوع الكتاب يحتوي على موضوع تاريخي أكثر من موضوع فلسفي، فالغرض من هنا هو مواجهة واقع الحاضر، وهو جريمة منطقية وفحص الحجج التي يتم تبريرها بها بدقة، من حيث إنّها محاولة لفهم الأوقات التي نعيش فيها، وقد يعتقد المرء أنّ الفترة التي في غضون خمسين عامًا تقتل أو تستعبد أو تقتل سبعين مليونًا من البشر يجب إدانتها تمامًا، ولكن لا يزال يجب فهم مسؤوليته.
الفلسفة العبثية والقتل:
هل تمثل هذه الأسئلة فلسفة جديدة تمامًا أم أنّها مستمرة مع أسطورة سيزيف؟ فلم يتم حل المشكلة من خلال التفسيرات التي قدمها كامو لتغيره في الصفحات الأولى من كتاب المتمرد (The Rebel)، وذلك بالإشارة إلى جرائم القتل الجماعي في الثلث الأوسط من القرن العشرين.
عصر النفي كما يقول كامو قد عزز القلق بشأن الانتحار، ولكن الآن في عصر الأيديولوجيات يجب علينا فحص موقفنا فيما يتعلق بالقتل، وهل تغيرت الأعمار في أقل من عشر سنوات بين الكتابين؟ فقد يكون محقًا في القول إنّ ما إذا كان للقتل أسس عقلانية هو السؤال الكامن في دماء وصراع هذا القرن، ولكن في تغيير تركيزه من الانتحار إلى القتل، فمن الواضح أيضًا أنّ كامو يحول نظرته الفلسفية من فرد لانتمائنا الاجتماعي.
وبذلك يطبق كامو فلسفة العبث في اتجاهات اجتماعية جديدة ويسعى للإجابة على أسئلة تاريخية جديدة، ولكن كما نراه يضع هذا في بداية كتابه المتمرد، فإنّ الاستمرارية مع القراءة الفلسفية لكتاب الغريب واضحة أيضًا بشكل لافت للنظر، فالروائي كامل داود روى الغريب من وجهة نظر الضحية، ويصف مقتل قريبه العربي بأنّه جريمة فلسفية.
في بداية كتاب المتمرد (The Rebel) يوضح بإنّ الوعي باللامعقول عندما ندعي أولاً استنتاج قاعدة سلوكية منه، يجعل القتل يبدو وكأنّه مسألة لامبالاة على أقل تقدير، وبالتالي من ممكن انّه لا يوجد مؤيد أو خداع، فالقاتل ليس على صواب ولا مخطئ، ونحن أحرار في إشعال حرائق الجثث أو تكريس أنفسنا لرعاية المصابين بالجذام أو الجنون فالشر والفضيلة مجرد صدفة أو نزوة.
الفلسفة العبثية والتمرد:
يبدو أنّه إذا كان القتل هو المشكلة اليوم تاريخيًا فإنّ المواجهة مع العبثية تخبرنا أنّ الأمر نفسه صحيح من الناحية الفلسفية، وبعد استبعاد الانتحار ماذا يمكن أن يقال عن القتل؟ فبدءًا من غياب وجود الله والموضوع الرئيسي لكتاب الأعراس وحتمية العبثية، فإنّ الموضوع الرئيسي لأسطورة سيزيف يدمج كامو كلاهما في كتابه المتمرد (The Rebel)، ولكن بجانبهما يشدد الآن على التمرد، كما يفترض فعل التمرد حالة المسند الأساسي للتجربة الإنسانية مثل الكوجيتو الديكارتي الذي اتخذه سارتر كنقطة انطلاق له.
عبّر كامو عن هذا أولاً بشكل مباشر مستوحى من لقاءه مع الوجود والعدم، ولكن بتسميته ثورة فإنّه يأخذها في اتجاه مختلف تمامًا عن سارتر الذي بنى من الكوجيتو مقالًا في الأنطولوجيا الظاهراتية، كما يتجاهل كامو البعد الأنطولوجي تمامًا ويهتم الآن بالقضايا العاجلة للتجربة الاجتماعية البشرية، ومن المؤكد أنّ الثورة لا تزال تتضمن التمرد ضد العبثية التي وصفها كامو في أسطورة سيزيف، ومرة أخرى سيتحدث عن التمرد ضد فنائنا وعديم المعنى وعدم الترابط في الكون، ولكن الثائر يبدأ بنوع من التمرد الذي يرفض القهر والعبودية ويحتج على ظلم العالم.
ففي البداية مثل أسطورة سيزيف تمرد فرد واحد ولكن كامو يؤكد الآن أنّ الثورة تخلق القيم والكرامة والتضامن، فجملة: “أنا أثور، لذلك نحن” هي عبارة متناقضة، ولكن كيف من الممكن أن يقود إلى نحن؟ وكيف نتبع (نحن) من (أنا أثور أو أنا أتمرد)؟ وكيف يمكن أن تنبع خبرة الفرد في العبث والتمرد ضده من، أو تنتج أو توحي أو تستلزم الإحساس الاجتماعي الأوسع بالظلم والتضامن؟
نحن في الواقع هو موضوع المتمرد على الرغم من أنّ عنوان الرجل الثائر (L’Homme revolté) يشير إلى أنّ الدافع الأصلي للفرد قد يكون فرديًا، ويستلزم العمل ضد الاضطهاد اللجوء إلى القيم الاجتماعية، وفي نفس الوقت الانضمام إلى الآخرين في النضال، والتضامن على كلا المستويين هو حالتنا المشتركة.
يتخذ كامو في كتابه المتمرد (The Rebel) خطوة أخرى وتشغل معظم الكتاب لتطوير مفهومه عن التمرد الميتافيزيقي والتاريخي في مقابل مفهوم الثورة، وبتطبيق موضوعاته الفلسفية مباشرة على السياسة في السنوات التي تلت مباشرة تحرير فرنسا عام 1944، استنتج كامو بالفعل أنّ الماركسيين وخاصة الشيوعيين كانوا مذنبين بالتهرب من عبثية الحياة من خلال السعي إلى تحول شامل في المجتمع والتي يجب أن تكون بالضرورة عنيفة، والآن في المتمرد يصف هذا بأنّه اتجاه رئيسي للتاريخ الحديث مستخدمًا مصطلحات مشابهة لتلك التي استخدمها في أسطورة سيزيف لوصف المراوغات الدينية والفلسفية.
أي نوع من العمل هذا؟ ففي كتاب مشحون بالمعنى السياسي لا يقدم كامو أي حجج أو إيحاءات سياسية صريحة، ولا يقدم سوى القليل من التحليل الاجتماعي الفعلي أو الدراسة التاريخية الملموسة، فالمتمردين هو بالأحرى مقال فلسفي مؤطر تاريخيًا حول الأفكار والمواقف الأساسية للحضارة، يقترح ديفيد سبرينتزن (David Sprintzen) أنّ هذه المواقف المسلمة تعمل ضمنيًا في خلفية المشاريع البشرية ونادرًا ما تصبح واعية.
شعر كامو أنّه من الملّح إجراء فحص نقدي لهذه المواقف في عالم أصبح فيه القتل المحسوب أمرًا شائعًا، ويشرح تطبيق أفكاره ورؤياه العبثية على السياسة في كتاب المتمرد (The Rebel)، وهو ما يعتبره رفض العالم الحديث المنظم والكارثي بشكل متزايد لمواجهة العبث والقبول والعيش بعبثية، كما يقدم الكتاب منظورًا فريدًا من حيث يقدم بنية متماسكة ومبتكرة للفرضية والمزاج والوصف والفلسفة والتاريخ وحتى التحيز.