فلسفة كامو في موضوع العبثية

اقرأ في هذا المقال


بغض النظر عما إذا كان ينتج الفيلسوف ألبير كامو دراما أو خيالًا أو غير خيالي، فإنّ كامو في كتاباته الناضجة دائمًا ما يتناول ويعيد استكشاف نفس القضايا الفلسفية الأساسية، حيث تشكل هذه الموضوعات المتكررة المكونات الرئيسية لفكر كامو، وهي تتضمن موضوعات مثل العبث والتغريب والانتحار والتمرد التي تتبادر إلى الذهن تلقائيًا تقريبًا كلما ذكر اسمه، ومن ثم فإنّ أي ملخص لمكانته في الفلسفة الحديثة سيكون غير مكتمل دون مناقشة وجيزة على الأقل لهذه الأفكار وكيف تتلاءم معًا لتشكيل رؤية مميزة وأصلية للعالم.

مفهوم العبثية:

حتى القراء الذين لم يكونوا على دراية وثيقة بأعمال كامو يدركون سمعته كمفسر فلسفي وعالم تشريح وشاعر  كرسول العبث، ففي الواقع كما يفهم على ما يبدو كتّاب المسرحية الهزلية والكوميديا ​​الارتجالية -ولكن الحقيقة الغريبة أنّه تمت مقارنة الحلقة الأخيرة الكئيبة من سينفيلد (Seinfeld) مع الغريب (The Stranger)، وقد تم استخدام فكر كامو لشرح حلقات عائلة سمبسون- فقد انتهى الأمر إلى حد كبير، ففكر وكتابات المؤلف الفرنسيالجزائري أنّ مفهوم العبثية أصبح جزءًا ليس فقط من الأدب العالمي وفلسفة القرن العشرين ولكن أيضًا من الثقافة الشعبية الحديثة.

إذن ما هو المقصود بمفهوم العبث؟ يبدو أنّه على عكس وجهة النظر التي تنقلها الثقافة الشعبية فإنّ العبثية (على الأقل في مصطلحات كامو) لا تشير ببساطة إلى بعض التصور الغامض بأنّ الحياة الحديثة مليئة بالمفارقات والتناقضات والارتباك الفكري -على الرغم من أنّ هذا التصور يتوافق بالتأكيد مع صيغته- بل بدلاً من ذلك كما يؤكد ويحاول أن يوضح فإنّ العبث يعبر عن تنافر أساسي وعدم توافق مأساوي في وجودنا.

في الواقع يجادل كامو بأنّ العبث هو نتاج تصادم أو مواجهة بين رغبتنا البشرية في النظام والمعنى والهدف في الحياة وصمت الكون الفارغ اللامبالي: “السخف ليس في الإنسان ولا في العالم” كما يشرح كامو: “لكن في وجودهما معًا فهو الرابط الوحيد الذي يوحدهما”.

إذن ها نحن ذا فالمخلوقات الفقيرة تسعى بشدة إلى الأمل والمعنى في عالم لا أمل فيه ولا معنى له، ويقدم الفيلسوف جان بول سارتر في مقالته الاستعراضية لكتاب الغريب (The Stranger) مزيدًا من اللمعان حول الفكرة بأنّه: “من المؤكد أنّ العبث لا يكمن في الإنسان ولا في العالم، وإذا كنت تفكر في كل منهما على حدة، ولكن بما أنّ السمة الغالبة للإنسان هي الوجود في العالم فإنّ العبث في النهاية جزء لا يتجزأ من الحالة الإنسانية”، إذن العبث يقدم نفسه في شكل معارضة وجودية.

الاستجابات الفلسفية لمفهوم العبثية:

بما إنّه ينشأ من مطالبة الإنسان بالوضوح والتعالي من ناحية وكونه لا يقدم شيئًا من هذا النوع من ناحية أخرى، وهذا هو مصيرنا فنحن نعيش في عالم لا يبالي بمعاناتنا ويصمم احتجاجاتنا، ومن وجهة نظر كامو هناك ثلاث استجابات فلسفية محتملة لهذا المأزق، اثنان من هؤلاء يدينها على أنّهما تهرب والآخر يطرحه كحل مناسب:

1- الخيار الأول صريح وبسيط وهو الانتحار الجسدي، فإذا قررنا أنّ الحياة بدون هدف أو معنى أساسي لا تستحق العيش، فيمكننا ببساطة أن نختار قتل أنفسنا، وكامو يرفض هذا الاختيار باعتباره جبانًا، وهو بحسب شروطه نبذ الحياة أو رفضها وليس ثورة حقيقية.

2- الخيار الثاني هو الحل الديني بطرح عالم متسامي من العزاء والمعنى يتجاوز العبث، ويسمي كامو هذا الحل بالانتحار الفلسفي ويرفضه باعتباره مراوغًا ومحتالًا بشكل واضح، حيث إنّ تبني حل خارق للطبيعة لمشكلة العبث (على سبيل المثال من خلال نوع من التصوف أو قفزة الإيمان) هو إبادة العقل، والذي يعتبر في نظر كامو قاتلاً ومدمرًا للذات مثل الانتحار الجسدي، وفي الواقع بدلاً من إخراج نفسه من المواجهة العبثية للذات والعالم مثل الانتحار الجسدي، فإنّ المؤمن الديني ببساطة يزيل العالم المسيء ويستبدله عبر نوع من التعويذة الميتافيزيقية ببديل أكثر قبولًا.

3- الخيار الثالث من وجهة نظر كامو هو الحل الوحيد الأصيل والصحيح، وهو ببساطة قبول العبثية أو الأفضل من ذلك اعتناقها وتبنيها والاستمرار في العيش، وبما أنّ العبث في نظره هو خاصية لا مفر منها بل هي سمة مميزة للشرط البشري فإنّ الرد المناسب الوحيد عليه هو القبول الكامل والثابت والشجاع، ويقول كامو: “إنّ الحياة يمكن أن تُعاش بشكل أفضل إذا لم يكن لها معنى”.

استخدام كامو لفلسفة العبثية في أعماله:

المثال الأكثر امتيازًا لهذا الخيار من الشجاعة الروحية والثورة الميتافيزيقية هو سيزيف الأسطوري لمقال كامو الفلسفي، والذي حكم عليه بالعمل الأبدي في أساسه مدركًا تمامًا لليأس الجوهري لمحنته حيث يواصل سيزيف مع ذلك، وبذلك يصبح بالنسبة لكامو أيقونة رائعة لروح الثورة وللحالة الإنسانية، كما أن تنهض كل يوم لخوض معركة وتعلم أنك لا تستطيع الفوز بها والقيام بذلك بذكاء ونعمة ورأفة بالآخرين وحتى بشعور بالرسالة هو مواجهة العبث بروح البطولة الحقيقية.

خلال مسيرته المهنية قام كامو بفحص العبثية من وجهات نظر متعددة ومن خلال عيون العديد من الشخصيات المختلفة من كاليجولا المجنون المهووس بالمشكلة إلى مورسو المنعزل بشكل غريب وفي نفس الوقت الذي يمتص نفسه بنفسه، والذي يبدو غير مبالٍ إليها حتى عندما يجسدها ويصبح ضحية لها في النهاية، وفي أسطورة سيزيف يتتبعها كامو في شخصيات معينة من الأسطورة والأدب (دون جوان وإيفان كارامازوف) وأيضًا في أنواع معينة من الشخصيات (الممثل والفاتح)، وكل من يمكن فهمه بطريقة ما على أنّه نسخة أو مظهر من مظاهر سيزيف البطل السخيف البدائي.

ملاحظة تم اقتراح مفهوم مختلف إلى حد ما ولكن من المحتمل أن يكون مرتبطًا عن العبثية في عمل كيركيجارد وخاصة في الخوف والارتجاف والتكرار، ولكن بالنسبة لكيركجارد فإنّ العبث لا يصف حالة إنسانية أساسية وعالمية، ولكن الحالة الخاصة وطبيعة الإيمان الديني، وهي حالة متناقضة والتي يمكن مع ذلك أن تكون فيها مسائل الإرادة والإدراك المستحيلة موضوعياً صحيحة في نهاية المطاف.

على الرغم من أنّه من الصعب تحديد ما إذا كان كامو قد وضع كيركجارد في الاعتبار بشكل خاص عندما طور مفهومه الخاص عن العبث، إلّا أنّه لا يوجد شك في أنّ فارس إيمان كيركجارد هو من نواحٍ معينة سلفًا مهمًا لكامو سيزيف، فكلا الشكلين متورطان في المستحيل، والمهام المؤلمة التي لا تنتهي والتي مع ذلك يتابعونها بثقة وحتى بمرح، وفي تحدي الفارس الخيالي والانتماء وجد كامو نموذجًا لمثله الأعلى للتأكيد البطولي والثورات الفلسفية.


شارك المقالة: