فلسفة مفهوم الاستقلالية كموضوع ذي قيمة

اقرأ في هذا المقال


الاستقلالية هي قدرة الفرد على تقرير المصير أو الحكم الذاتي، حيث إنّه مفهوم مثير للجدل ويظهر في عدد من الساحات المختلفة، فهناك المفهوم الشعبي للاستقلالية والذي يعمل عادةً كرغبة غير مكتملة للحرية في بعض مجالات حياة المرء، والتي قد تكون مرتبطة أو لا ترتبط بفكرة الوكيل عن الصالح الأخلاقي، وهذا المفهوم الشعبي للاستقلالية يطمس الفروق التي يرسمها الفلاسفة بين الاستقلالية الشخصية والاستقلالية الأخلاقية والاستقلال السياسي.

هل تعد الاستقلالية قيمة؟

يمكن أن يلعب الاستقلالية دورًا في النظرية الأخلاقية دون أن تكون هذه النظرية ذات بنية كانطية كاملة، فعلى سبيل المثال من الممكن المجادلة بأنّ الاستقلالية الشخصية لها قيمة جوهرية مستقلة عن وجهة نظر معدة بالكامل للعقل العملي، وباتباع جون ستيوارت ميل مثلًا يمكن للمرء أن يدّعي أنّ الاستقلالية هي أحد عناصر الرفاهية، وإنّ النظر إلى الاستقلالية كقيمة جوهرية أو كعنصر مكوِّن في الرفاهية الشخصية بهذه الطريقة يفتح الباب لإطار أخلاقي عواقبي بشكل عام مع الانتباه إلى أهمية الحكم الذاتي لحياة مرضية.

قد يكون من غير الواضح أيضًا لماذا يجب أن يكون للاستقلالية التي يُنظر إليها هنا على أنّها القدرة على التفكير في قيم الفرد وشخصيته والتزاماته والمصادقة عليها قيمة مستقلة عن نتائج ممارسة تلك القدرة، ولماذا تعتبر الاستقلالية الذاتية لشخص ما ذات قيمة جوهرية عندما تستخدمها لإيذاء نفسها على سبيل المثال، أو ربما اتخاذ قرارات متهورة أو منحرفة أخلاقياً؟ وبشكل عام كيف يمكننا أن نأخذ في الاعتبار التحيزات والتشوهات المنهجية التي ابتلي بها التفكير البشري النموذجي في تقييم قدرة الناس على اتخاذ القرارات بأنفسهم؟

يصبح هذا السؤال أكثر حدة عندما نفكر في الطرق التي يمكن أن تحصل عليها الاستقلالية بالدرجات، لذلك من غير الواضح لماذا يجب أن يُنظر إلى الاستقلالية الشخصية على أنّها ذات قيمة متساوية في الأشخاص الذين يظهرون مستويات مختلفة منها، أو مستويات مختلفة من تلك القدرات التي هي شروطها مثل العقلانية.

في الواقع غالبًا ما يُستشهد بالاستقلالية كأساس لمعاملة جميع الأفراد على قدم المساواة من وجهة نظر أخلاقية، ولكن إذا لم تكن الاستقلالية خاصية الكل أو لا شيء، فإنّ هذا الالتزام بالمساواة الأخلاقية يصبح إشكاليًا، ويمكن القول أنّه بقدر ما تتنوع القدرات المطلوبة للاستقلالية مثل الانعكاس العقلاني والكفاءات في تنفيذ قرارات الفرد وما شابه ذلك باختلاف الأفراد (داخل أو بين الأنواع أيضًا)، فمن الصعب الحفاظ على أنّ كل شخص مستقل الكائنات لها مكانة أخلاقية متساوية أو أنّ مصالحهم تستحق نفس الوزن عند النظر في القرارات التي تؤثر عليهم.

أعتقد أنّ الخطوة التي يجب القيام بها هنا تلتقط لمعان الفيلسوفه كرستين كورسجارد على الكانطية والحجة القائلة بأنّ قدراتنا الانعكاسية تؤسس في النهاية التزاماتنا تجاه الآخرين، وبالتالي التزامات الآخرين باعتبارنا متساوين أخلاقياً، ومع ذلك يجادل أرنيسون بأنّ الناس يختلفون بالتأكيد في هذه السعة أيضًا، أي القدرة على التفكير بشكل انعكاسي في الخيارات والاختيار العقلاني من بينها.

أما فيما يتعلق بأوجه الغموض في حساب كورسجارد فيما يتعلق بالدرجة التي يتم بها إضفاء الطابع المثالي على الانعكاس الذاتي على أساس الالتزام، فإذا كان الأمر كذلك فلن تكون القدرة اليومية على النظر إلى داخل أنفسنا واتخاذ قرار يمنحنا المكانة الأخلاقية، بل القدرة الأكثر ندرة على القيام بذلك بشكل عقلاني بالمعنى الكامل، ولكننا بالتأكيد نختلف في قدرتنا على الوصول إلى هذا المثال، فلماذا يجب اعتبار استقلاليتنا على قدم المساواة؟

قد تكون الإجابة هي أنّ التزاماتنا المعيارية لا تنشأ من قدراتنا الفعلية على التفكير والاختيار، على الرغم من أنّه يجب أن تكون لدينا مثل هذه القدرات إلى حد ما، ولكن بالأحرى من الطريقة التي يجب أن ننظر بها إلى أنفسنا على أننا نمتلك هذه القدرات، ونعطي وزناً خاصاً لقراراتنا الحالية والسابقة وذلك حتى نواصل تنفيذ المشاريع والخطط التي نضعها لأننا مع تساوي كل الأشياء الأخرى صنعناها فهي قراراتنا على الأقل عندما نقوم بها بعد بعض المداولات التأملية.

لا يمكن تفسير الجاذبية التي تتمتع بها قراراتنا بشأن مشاريعنا وأفعالنا الجارية إلّا بافتراض أننا نمنح المكانة والقيمة للقرارات لمجرد أننا اتخذناها بشكل انعكاسي، ربما على الرغم من ذلك في ضوء الاعتبارات الخارجية والموضوعية، وهذه قدرة الكل أو لا شيء وبالتالي قد تكون كافية لتأسيس وضعنا المتساوي حتى لو ربما في الحياة الواقعية نمارس هذه القدرة بدرجات متفاوتة.

لقد كتب الكثير عن مفاهيم الرفاهية التي تتدرب على هذه المخاوف، والذي يمكن دعم مثل هذا الرأي بفكرة أنّ إسناد الوكالة المستقلة والاحترام الذي يُزعم أنّه يتماشى معها هو في حد ذاته موقف معياري، وليس مجرد ملاحظة لكيفية تفكير الشخص وتصرفه.

الفلسفة بين الاستقلالية والأبوة:

مفهوم الأبوة هو السياسة أو الممارسة من جانب الأشخاص في السلطة لتقييد حرية ومسؤوليات المرؤوسين أو المعتمدين عليهم في مصلحتهم المفترضة.

عند الحديث عن الاستقلالية فإنّ هناك جانب الأشخاص الذين يسيئون إلى الأبوة غير المبررة، ويمكن أن تكون التدخلات الأبوية شخصية تحكمها المعايير الاجتماعية والأخلاقية، أو مسألة سياسة بوساطة قواعد رسمية أو قانونية، ولا يتم تحديد مثل هذه التدخلات من خلال نوع الأفعال التي تنطوي عليها ولكن من خلال التبرير المقدم لها، بحيث تتضمن الأبوة التدخل في تصرفات الشخص أو معرفته ضد إرادة ذلك الشخص بغرض تعزيز مصلحة ذلك الشخص.

بينما يُقصد باحترام الاستقلالية حظر مثل هذه التدخلات لأنّها تنطوي على حكم بأنّ الشخص غير قادر على أن يقرر بنفسه أفضل السبل لتحقيق مصلحته، والاستقلالية هي القدرة على اتخاذ القرار، لذلك بالنسبة للموضوع المستقل لمثل هذه التدخلات تنطوي الأبوة على عدم احترام الاستقلالية.

ولكن كما أوضحت مناقشتنا لطبيعة الاستقلالية غالبًا ما يكون من غير الواضح بالضبط ما الذي تنطوي عليه هذه الخاصية، والمهم في هذا السياق هو ما إذا كان يمكن أن يتجلى الاستقلالية في درجات سواء كانت القدرات التي تشكل الاستقلالية تحصل عليها دفعة واحدة أو تدريجياً، أو من الممكن التمتع باستقلالية كافية في بعض مجالات حياة المرء ولكن ليس في مجالات أخرى.

إذا كانت الاستقلالية مسألة درجة في أي من هذه الطرق فمن غير الواضح ما إذا كان هناك ما يبرر الحظر الشامل للأبوة، وسيكون بعض الناس أقل قدرة على الحكم بأنفسهم على ماهية مصلحتهم، وبالتالي يكونون أكثر عرضة للتدخل الأبوي المبرر.

غالبًا ما يتطلب مثل هذا الالتزام تجاه شخص آخر أن نتعامل معه على أنّه مستقل، ومستقل عن المدى الذي يتعلق به فيما يتعلق بالاختيار المعني، وهذا هو الحال على الأقل عندما يكون الشخص مستقلاً ذاتيًا فوق عتبة معينة، فهو بالغ وليس تحت تأثير العوامل المنهكة وما إلى ذلك، ومن المعلوم أنّ الشخص يقع إلى حد ما تحت تأثير الضغوط الخارجية التي تحد بشدة من قدرته على التحكم في حياته واتخاذ خيارات مستقلة.

لكن طالما أنّها لم تفقد قدرتها الأساسية على التفكير في خياراتها واتخاذ الخيارات بشكل انعكاسي، وإذا تدخلت ضد إرادتها (لمصلحتها)، فمن الممكن إظهار احترامًا أقل لها كشخص مما لو سمحت لها بارتكاب أخطائها، وهذا لا يعني بالطبع أنّ التدخل في مثل هذه الحالات قد لا يكون في النهاية مبررًا، وفقط أنّ شيئًا ما يضيع عند الانخراط فيه، وما ضاع هو درجة من الاحترام الشخصي ندين به لبعضنا البعض.

ومع ذلك تعتمد هذه الخطوة على تحديد الاستقلالية الأساسية والحجة القائلة بأنّ هذه العتبة ليست تعسفية، ومن المهم هنا أيضًا مسألة الاستقلالية الإجرائية مقابل الاستقلالية الموضوعية كأساس لحظر الأبوة، لأنّه إذا كنا نعني بالاستقلالية القدرة على حكم الذات بغض النظر عن مدى فساد الخيارات التي تمارس أو لا قيمة لها أخلاقياً، فمن غير الواضح أنّ العائق أمام الأبوية واحترام الأشخاص بشكل عام أن يحتفظ بقوته المعيارية.

ويجب أن يكون الرد على هذا التحدي هو أنّ قدرة اتخاذ القرار نفسها ذات قيمة غير مشتقة ومستقلة عن محتوى تلك القرارات، على الأقل إذا كان المرء يرغب في تجنب الصعوبات في طرح قرار موضوعي، وبالتالي غير محايد لمفهوم الاستقلالية كأساس لاحترام العلاقات الشخصية.


شارك المقالة: