فلسفة مور ومفارقة التحليل

اقرأ في هذا المقال


خلال مسيرته المهنية الطويلة في جامعة كامبريدج وكمحرر للمجلة الفلسفية البريطانية الأولى، قدم جورج إدوارد مور مساهمة هائلة في تطوير الفكر الأنجلو أمريكي في القرن العشرين، على الرغم من أنّه درس مع برادلي وماك تاغارت في كامبريدج إلّا أنّ مور كان قائدًا مبكرًا في الثورة ضد المثالية المطلقة.

وكذلك كان مندهشًا من الطابع الغريب للجدل الفلسفي، حيث افترض مور أنّ معتقدات الفطرة السليمة حول العالم صحيحة كما هي، وليس الغرض من الفلسفة مناقشة حقيقتها بل البحث عن تحليل مناسب لأهميتها، فقد كان لمور تأثير كبير على راسل (Russell) فيتجنشتاين (Wittgenstein) رايل (Ryle).

فلسفة مور في مفهوم مفارقة التحليل:

لا بد أنّ مور كان قد اعتنق وجهة النظر هذه للحقيقة والواقع لما يقرب من عقد من الزمان والذي تم خلاله نشر العديد من أعماله الأكثر تأثيرًا، ومن بين هذه الأوراق البحثية الشهيرة (تفنيد المثالية)، وهنا يتعامل مع المثالية وجهاً لوجه وبشكل محدد، وبتأكيده على أنّ جميع أشكال المثالية تستند إلى الادعاء بأنّ الأساسي (esse) هو محسوس (percipi)، حيث أن يكون يُدرك أو كما يعاملها مور أن تكون خاضعًا للتجربة.

يجادل مور بأنّ الادعاء خاطئ بدأ بتحليل مفصل للعديد من المعاني المحتملة لصيغة (esse is percipi)، ففي النهاية قرر أنّ المثاليين يعتبرونها حقيقة تحليلية من حيث إثباتها من خلال قانون التناقض، وبالتالي فإنّهم يعتقدون أيضًا أنّ الوجود والإدراك متطابقان إلى حد ما.

وفقًا لهذا فإنّ وجود اللون الأصفر يعني فقط أن يكون لدى شخص ما إحساس باللون الأصفر، وفي تحديد اللون الأصفر والإحساس باللون الأصفر يفشل المثالي في رؤية أنّ هناك أي شيء في الأخير ليس في السابق، وبالتالي بالنسبة له: “الأصفر والإحساس باللون الأصفر متطابقان تمامًا”.

لكن وفقًا لمور هذا خطأ، فالانتباه الدقيق لإحساس اللون الأصفر من ناحية والأصفر من ناحية أخرى سيكشف أنّهما غير متطابقين، وكما يقول: “يؤكد المثالي أنّ الهدف أو الدافع والموضوع مرتبطان بالضرورة، ويرجع ذلك أساسًا إلى أنّه فشل في رؤية أنّهما متمايزان”، ولكن مور يعتقد أنّه يستطيع إظهار أنّهما متميزان وقد استخدم حجتين لتحقيق هذه الغاية.

فلسفة مور في تفسير مفارقة التحليل باللغة:

حيث تدور حجته الأولى حول ما سيدعى لاحقًا بمفارقة التحليل، وهي مشكلة مستعصية ومن المفارقات ولا بد أنّها ستكون مصدر إزعاج لمور لاحقًا، ويمكن تفسير المفارقة من حيث الفعل المألوف لتعريف المصطلح، وفي أي حالة من حالات التعريف يواجه المرء جزأين من اللغة وهما:

1- التعريف: المصطلح المراد تعريف، أو المصطلح الذي يقوم بالتعريف.

2- المحددات: التعريف نفسه.

من المفترض أن يكون لكل من التعريف والمحددات نفس المعنى، وإلّا فإنّ الأخير لن يكون قادرًا على إلقاء الضوء على معنى الأول، ولكن إذا كان كلا المصطلحين يعنيان نفس الشيء فمن الصعب أن نرى كيف يمكن أن يكون تقديم تعريفاً مفيدًا، ولننظر في قضية دفاع العازب والرجل غير المتزوج.

ولكي يكون الرجل غير المتزوج تعريفًا جيدًا لمصطلح اعزب، يجب أن يعني نفس معنى الأعزب، ولكن إذا كان ذلك يعني نفس الشيء بالضبط فيبدو أنّ قول أعزب يعني الرجل غير المتزوج، ولا ينبغي أن يكون مختلفًا عن قول العازب يعني العازب أو الرجل غير المتزوج يعني رجل غير متزوج، ومع ذلك يبدو أنّ هناك فرقًا في أنّنا نجد أنّ الشيء الواحد مفيد لكن الآخرين لا يجدون، وهكذا يبدو أنّ هناك فرقاً في المعنى بين العازب وغير المتزوج.

مأزق مفهوم مفارقة التحليل:

باختصار إذاً فإنّ المفارقة هي يجب أن يقول المصطلح وتعريفه نفس الشيء حتى يكون التعريف صحيحًا، ومع ذلك يجب أن يقولوا شيئًا مختلفًا حتى يكون التعريف مفيدًا، ويمكن وضع المفارقة في شكل معضلة وورطة حيث:

1- إذا كانت أداة الدفاع صحيحة فإنّ معناها هو نفس المعنى الخاص بالملف.

2- إذا كانت أداة الدفاع مفيدة فلن يكون معناها هو نفس المعنى الخاص بالملف.

3- لا يمكن أن يكون معنى التعريف هو نفسه وليس نفس المعنى الخاص بالدفاع.

4- وبالتالي لا يمكن أن تكون الدفاعات صحيحة وغنية بالمعلومات.

الآن تعمل هذه المفارقة في حجة مور الأولى ضد صيغة (Esse is percipi) بالطريقة التالية، بحيث يمكن قراءة الصيغة نفسها كتعريف، تمامًا كما نقول: “العازب هو رجل غير متزوج”، وهكذا يقول المثالي: “الوجود يعني الاعتراف” أو “الأصفر هو الإحساس باللون الأصفر”.

المثالية ومفارقة التحليل في فلسفة مور:

إذا كان الاثنان متطابقين بالفعل فسيكون من غير الضروري التأكيد على أنّهما كذلك، وهكذا فإنّ حقيقة أنّ المثالي يرى أنّ هناك حاجة لتأكيد الصيغة تكشف أنّ هناك، كما هو الحال مع أي دفاعية ودفاعاتها بعض الاختلاف بين الوجود والإدراك، أو الأصفر والإحساس باللون الأصفر وكما يقول مور:

“بالطبع تشير القضية (أي الصيغة) أيضًا إلى أنّ التجربة بعد كل شيء هي شيء مميز عن اللون الأصفر، وإلّا فلن يكون هناك سبب للإصرار على أنّ اللون الأصفر هو إحساس، وأنّ الحجة (أي الصيغة) يؤكد وينفي أنّ اللون الأصفر والإحساس باللون الأصفر متميزان وهو ما يدحضه بما فيه الكفاية”.

قد تبدو الحجة حاسمة، ومع ذلك يجب أن نلاحظ أنّه يتحول إلى قرار مور بدفع المثاليين نحو الاعتبار الثاني من المعضلة وهي مفارقة التحليل، فكلا القرنين مدمران تمامًا للمعرفة عن طريق الوصف (التي تعتبر المعرفة التعريفية نوعًا منها)، لذلك لن يكون أداء المثاليين أفضل مع الاعتبار الأول.

لكن مفارقة التحليل هي مشكلة ليس فقط للمثاليين، ولكن لكل من يريد أن يؤكد ممارسة إعطاء تعريف أو كما سيسميها مور لاحقًا تحليل مفهوم، وبالتالي قد يميل المرء إلى التراجع عن احتضان أي من الاعتبارين والتركيز بدلاً من ذلك على حل التناقض.

في الواقع باستثناء حقيقة أنّ مور لم يدرك بعد نطاق المفارقة الكامنة تحت سطح حجته تمامًا، فقد كان علينا أن نقول إنّه كان غير عادل بشكل رهيب من خلال الإصرار على أن يستعجل المثاليون ويخبطون أنفسهم في الاعتبار الثاني.

مور ومفهوم الوعي أو أشياء الإحساس:

حجة مور الثانية أفضل بكثير حيث إنّه في الأساس تطبيق للتمييز المألوف الآن والمضاد للنفسية بين الذات والموضوع، ويبدأ بمقارنة الإحساس باللون الأزرق بإحساس باللون الأخضر، وهذه هي نفسها من ناحية واحدة وبفضل ذلك يطلق عليهما الأحاسيس، ولكنّهما يختلفان في نواحٍ أخرى حيث يقال أنّ أحدهما أزرق والآخر أخضر.

يعطي مور اسم الوعي للاحترام الذي يتماثلون فيه والاحترام الذي يختلفان فيه، وكما يسميه أشياء الإحساس أو الوعي، وهكذا كما يقول: “كل إحساس هو عبارة عن معقد للوعي والموضوع”.

بعد أن يميز المرء بين الوعي والشيء يستمر مور في التمييز بين الشيء والإحساس، وذلك بالتركيز الآن على إحساس واحد الإحساس باللون الأزرق، فيقول مور إنّه عندما يكون موجودًا إمّا :

1- يوجد الوعي وحده.

2- الكائن وحده (أي الأزرق) موجود

3- أو كلاهما موجودان معًا (من المفترض أنّ هذا هو إحساس اللون الأزرق).

لكن كل من هذه الاحتمالات يمثل حالة مختلفة حيث لا (1) يمثل الوعي وحده، ولا (3) يمثل الوعي والأزرق معًا بحيث يكونان متطابقان مع (2) الأزرق، وبالتالي فليس الأمر هو أنّ الإحساس باللون الأزرق مطابق للأزرق، وبالتالي فمن الخطأ أن تكون (esse) هي (percipi) .

هذا الاستنتاج السلبي لمقال مور هو دحض المثالية بشكل صحيح، ومع ذلك فإنّ لمقال مور أيضًا نتيجة إيجابية والتي تهدف إلى إثبات حقيقة حساب واقعي مباشر للإدراك، وقبل معظم الفلاسفة في العصر الحديث شكلاً من أشكال التمثيلية، والتي بموجبها لدينا وصول معرفي مباشر فقط إلى حالاتنا العقلية (الأفكار والانطباعات والتصورات والأحكام…إلخ).

ولكن وفقًا لمور فإنّ ما يُظهره تحليله للوعي هو أنّه “كلما كان لدي مجرد إحساس أو فكرة، فإنّ الحقيقة هي أنّني أدرك حينها شيئًا، وليس جانبًا لا يتجزأ من تجربتي” وهذا له عواقب وخيمة حيث لا يوجد أي سؤال حول كيفية الخروج من دائرة أفكارنا وأحاسيسنا.

وبمجرد أن يكون لدى المرء إحساس هو أن يكون بالفعل خارج تلك الدائرة، وهو أن يعرف شيئًا ما هو حقًا وليس جزءًا من تجربته مثل أي شيء يمكنه معرفته، تماشيًا مع وجهة نظره عام 1899 أصبح لدينا وصول إدراكي مباشر إلى أشياء تجربتنا.


شارك المقالة: