فلسفة ميل في الديمقراطية الليبرالية والصالح العام

اقرأ في هذا المقال


ماذا عن جوهر الحكم الديمقراطي؟ على الرغم من أنّ جون ستيوارت ميل مدافع عن الحكومة المحدودة بطرق قد يتوقعها المرء، حيث بالنظر إلى دفاعه عن الحريات الأساسية في حول الحرية (On Liberty)، إلّا أنّه ليس ليبراليًا، حيث إنّه يرفض بشدة فكرة أنّ الحكومة الشرعية مقصورة على وظائف توفير الحماية ضد القوة والاحتيال، وبدلاً من ذلك يعتقد أنّ هناك مجموعة متنوعة من الطرق التي يمكن للحكومة ويجب عليها أن تتدخل في حياة المواطنين أحيانًا كقسوة وأحيانًا أخرى كعامل تمكين أو ميسّر من أجل تعزيز الصالح العام.

دور الحكومة في تنظيم حياة الأفراد:

تشير ادعاءات ميل عن السعادة إلى أنّ خير كل فرد يكمن في ممارسة قدراتها العليا، ويتطلب هذا حياة نشطة يتم فيها تنظيم أنشطة الفرد من خلال مداولات وخيارات الفرد، وكما هو ملاحظ في مناقشات ميل النقدية حول الأبوة فإنّ هذا يضع قيودًا على كيفية تعزيز الآخرين لمصلحتهم، ولا يمكن للفرد الترويج لمصلحته بهذه الطريقة المفهومة، ولكن بطرق تتجاوز وكالة الفرد أكثر مما يمكنه الفوز بسباق من أجله.
ولكن مثلما يمكنه القيام بأشياء تساعده على الفوز بالسباق بنفسه (التدريب معه ومشاركة النصائح الغذائية ومساعدته في التخطيط الاستراتيجي) لذلك يمكنه أيضًا القيام بأشياء تساعده على عيش حياة مستقلة. كما يمكنه توفير أنواع مختلفة من الشروط اللازمة لعيش مثل هذه الحياة، وإذا كان خير الفرد يتألف من هذا النوع من تحقيق الذات، فيجب على الحكومة التي تهدف إلى الصالح العام أن تهتم بشكل كبير بالتوفير العادل لفرص الرفاهية.

فلسفة ميل في سمات العالم الحديث:

في وقت مبكر من كتاب ميل (إخضاع النساء) تتناقض أنظمة الطبقة الوراثية، مثل الإقطاع والأنظمة الاجتماعية القائمة على العبودية، مع الالتزام الحديث والتقدمي المتميز بتكافؤ الفرص في الرفاهية.

“ما هي السمة المميزة للعالم الحديث، حيث الاختلاف الذي يميز بشكل رئيسي المؤسسات الحديثة والأفكار الاجتماعية الحديثة، والحياة الحديثة نفسها، عن تلك التي كانت في الماضي البعيد؟ هو أنّ البشر لم يعودوا يولدون في مكانهم في الحياة، ومقيدين برباط لا يرحم بالمكان الذي ولدوا فيه، ولكنهم أحرار في توظيف قدراتهم والفرص المواتية مثل العرض، ولتحقيق الكثير الذي قد يبدو لهم أكثر من المرغوب فيه”.

الفيلسوف ميل.

كما هو الحال مع الحريات الأساسية فإنّ فرص الرفاهية لها قيمة ليس في حد ذاتها، ولكن باعتبارها شروطًا ضرورية لنوع من الإدراك الذاتي الذي يخصص له ميل قيمة جوهرية بارزة، ولكنهم ليسوا أقل أهمية لهذا السبب، وفي الواقع يمكن إرجاع العديد من وظائف الحكومة التي يعترف بها إلى توفير فرص لتحقيق الذات.

فلسفة ميل في المساواة العادلة بين الأفراد:

على الرغم من أنّ ميل يعارض عمومًا الأبوة والرقابة وتنظيم الجريمة والأخلاق، إلّا أنّه يدرك الوظائف المختلفة التي يجب أن تؤديها الحكومة في السعي وراء الصالح العام، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنّ الفرص المتاحة لكل منها تعتمد جزئيًا على موقف وموارد الآخرين، ويعتقد ميل أنّ توفير المساواة العادلة في الفرص يقيد التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية المسموح بها .

“إنّ التشريع العادل والحكيم سيمتنع عن التمسك بدوافع التبديد بدلاً من توفير مكاسب الجهد الصادق، وتتمثل حيادها بين المنافسين في السعي إلى أنّ يبدأوا جميعًا بشكل عادل، وفي الواقع يفشل الكثيرون في بذل جهود أكبر من تلك التي ينجح بها الآخرون ليس بسبب اختلاف المزايا ولكن بسبب اختلاف الفرص، ولكن إذا تم القيام بكل ما في وسع الحكومة الرشيدة القيام به من خلال التعليمات والتشريعات لتقليل عدم المساواة في الفرص فإنّ الفروق في الثروة الناشئة عن أرباح الناس الخاصة لا يمكن أن تثير الاستياء”.

كما أوضح ميل في هذا المقطع فإنّ اهتمامه لا يتعلق بعدم المساواة في حد ذاته، على الرغم من أنّه يتصور مجتمعًا يتم فيه تقليل التفاوتات ويكون فيه مستوى معيشي أدنى لائق متاحًا للجميع، فإنّه يدافع عن أرباح الرأسماليين على أنّها تعويض عادل لمدخراتهم ومخاطرهم والإشراف الاقتصادي، وبدلاً من ذلك ينصب اهتمام ميل في هذا المقطع على التفاوتات المشتقة من عدم المساواة في الفرص وتلك اللامساواة التي تديم عدم المساواة في الفرص.

ولتحقيق تكافؤ الفرص يؤيد ميل إجراءات ضريبية مختلفة لإعادة التوزيع، وهو يدافع عن معدل ضريبة ثابت على الدخل المكتسب الذي يتجاوز الحد الضروري لتأمين حد أدنى لائق للمعيشة تاركًا الدخل المكتسب أقل من هذا الحد دون ضرائب، وبالإضافة إلى ذلك يؤيد استخدام معدلات ضريبية أعلى على الدخل غير المكتسب والميراث، وهذه الضرائب تحد من عدم المساواة بين الأجيال التي من شأنها أن تقيد تكافؤ الفرص.

فلسفة ميل في تكافؤ الفرص في التعليم بين الأفراد:

ضمن هذا الإطار الذي تم إنشاؤه لتكافؤ الفرص يدافع ميل عن وظائف حكومية إضافية مصممة لتعزيز الصالح العام، وإنّ الشرط الأساسي للكفاءة المعيارية هو التعليم اللائق، ويعتقد ميل أنّه من الأدوار المركزية للدولة أن تتطلب، وإذا لزم الأمر توفير تعليم جيد، ويعتقد ميل أنّ الدولة يمكنها ويجب عليها أن تطلب من الآباء توفير التعليم لأطفالهم، وضمان إتاحة هذا النوع من التعليم للجميع بغض النظر عن الظروف المالية من خلال دعم تكاليف التعليم للفقراء بحيث يكون متاحًا مجانًا أو تكلفة رمزية.

كما أنّ ميل يعتقد أنّ الصدقة تولد التبعية بدلاً من الاستقلال الذاتي، وهذا هو أحد الأسباب التي دفعته إلى الدفاع عن تبني القوانين الفقيرة التي توفر من بين أمور أخرى، والعمل من أجل المعوزين القادرين جسديًا، ويعتقد ميل أيضًا أنّ الحكومة يجب أن تتدخل حيث من غير المرجح أن توفر قوى السوق ما يحتاجه الناس أو يريدونه، وبهذه الطريقة يعتقد أنّه من الوظائف المهمة للدولة سواء كانت مركزية أو محلية وإنشاء وصيانة جوانب مختلفة من البنية التحتية المجتمعية بما في ذلك أشياء مثل الدفاع المشترك والطرق والصرف الصحي والشرطة والمرافق الإصلاحية.

فلسفة ميل في العمل وتنظيم ظروفه:

كما يعتقد أنّ تنظيم ظروف العمل (الساعات والأجور والمزايا) مسموح به لأنّ توفير ظروف عمل محسنة يكون له عادة هيكل سلعة عامة أو جماعية للعمال وكل منهم سيكسب ميزة تنافسية من خلال التنازل عن أكثر بقليل من رأس المال من أقرانه، وإذا تُركت دون تنظيم فسيكون لدى كل شخص حافز للتنازل عن رأس المال أكثر من منافسيه مما يؤدي إلى جعل جميع العمال أسوأ حالًا، ويعتقد ميل أيضًا أنّ تدخل الدولة وتنظيمها هو أفضل حل لمشكلة العمل الجماعي هذه، وهو يعتقد أيضًا أنّ هناك سلعًا أخرى سيؤدي توفير السوق لها إلى نقص الإنتاج وربما بسبب العوامل الخارجية الإيجابية، ولهذا السبب يعتقد أنّ الدولة يجب أن تدعم البحث العلمي والفنون.

ليبرالية ميل:

تلتزم ليبرالية ميل بالمؤسسات السياسية الديمقراطية التي ينتشر فيها الامتياز وحقوق الملكية الخاصة واقتصاديات السوق والفرص الاجتماعية والاقتصادية المتساوية ومجموعة متنوعة من الحريات الشخصية والمدنية، ولتقدير أهمية علامته التجارية لليبرالية من المفيد التركيز على جوهر مفهومه للأساسيات الليبرالية – حزمة الحريات الفردية ومسؤوليات الدولة التي يؤيدها – والطريقة التي يبرر بها مفهومه للأساسيات الليبرالية.

فالليبرالية الميليّة ليست ليبرالية قائمة على مبدأ عدم التدخل وهي تبرر الأساسيات الليبرالية كطريقة لتعزيز الصالح العام، وربما يُنظر إلى تميز هذا النوع من الليبرالية بشكل أفضل على النقيض من مفهومين آخرين لليبرالية، فمفهوم أكثر تحررية للأساسيات الليبرالية وتبريرها الذي سيطر على الحزب الليبرالي البريطاني في منتصف القرن ونوع الليبرالية السياسية المعاصرة التي تبرر الليبرالية، والأساسيات كما هو مطلوب إذا أرادت الدولة أن تكون محايدة بين المفاهيم المتنافسة للحياة الجيدة التي قد يحملها مواطنوها.

كان جزء كبير من أجندة الحزب الليبرالي خلال معظم القرن التاسع عشر يتألف من إصلاحات سعت إلى إلغاء القيود التي فرضتها الدولة على حريات وفرص المواطنين، خاصة عندما تميل أشكال تدخل الدولة هذه إلى تعزيز الامتيازات الطبقية، وتجسدت هذه الثقافة السياسية في إلغاء قوانين الذرة ومعارضة الاضطهاد الديني والعديد من الإصلاحات الانتخابية، ولكن في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر ظهرت وجهة نظر جديدة حول دور مثل هذه الإصلاحات في الأجندة الليبرالية.

اعتقد الليبراليون الأوائل مثل هربرت سبنسر أنّ الإصلاح يجب أن يقتصر على إزالة تدخل الدولة في الحرية الفردية، وعلى النقيض من ذلك اعتقد الليبراليون الجدد أنّ هذه الإصلاحات التي وسعت الحريات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يجب أن تُستكمل بإصلاحات اجتماعية واقتصادية في مجالات العمل والتعليم والصحة المصممة لمعالجة آثار عدم المساواة، حيث أعطت هذه الإصلاحات الجديدة للدولة مسؤوليات إيجابية وليست سلبية فقط، وتتطلب أحيانًا التدخل في الحريات الفردية.

نظرًا لأنّ ميل يعتقد أنّ للدولة دورًا مهمًا تلعبه في تأمين تكافؤ الفرص، وضمان تعليم جيد من شأنه تعزيز الكفاءة المعيارية، ومعالجة إخفاقات السوق المختلفة وتوفير المنافع العامة المختلفة، فمن المنطقي أن ننظر إلى ميل على أنّه وضع الكثير من المثقفين، والأساس لليبرالية الجديدة سواء في مفهومها للأساسيات الليبرالية أو في مفهومها للتبرير الصحيح للأساسيات الليبرالية من خلال مناشدة مصلحة تبعية واسعة في تعزيز تحقيق الذات.

ويقدم تبرير ميل الذي يسعى إلى الكمال للأساسيات الليبرالية أيضًا تناقضًا مع الخيط المؤثر في الدفاعات الفلسفية الأنجلو أمريكية الحديثة لليبرالية التي تصر على الحياد بين المفاهيم المتنافسة للحياة الجيدة، و وفقًا للعديد من الليبراليين المعاصرين فإنّ الحياد حول الخير هو التزام تأسيسي لليبرالية، والحياد الليبرالي يضع قيودًا على تبرير تصرف الدولة.

ومن وجهة النظر هذه يمكن للحكومات الليبرالية ويجب عليها إنفاذ الحقوق الفردية وأي مطالب أخرى للعدالة الاجتماعية بما في ذلك تلك الضرورية للحفاظ على السلام والنظام، ولكن لا يجب عليهم القيام بأي عمل كوسيلة لتعزيز مفهوم معين للحياة الجيدة أو عقيدة فلسفية شاملة، وفيما يتعلق بالصالح  يجب أن تكون الدولة الليبرالية محايدة تمامًا، بحيث لا يمكنها أن تروج لمصلحة مواطنيها إلّا بطرق تتفق مع كل مفهوم معقول للخير.

على النقيض من ذلك فإنّ ميل هو ليبرالي يسعى إلى الكمال ويتجنب الحياد بشأن الصالح، ووفقًا للكمال الميلي لا يتم تعريف الحياة الجيدة بمصطلحات طائفية على أنّها تتكون في مجموعة معينة من الأنشطة، وبدلاً من ذلك تُفهم الحياة الجيدة من حيث ممارسة القدرات للتداول العملي التي يمكن تحقيقها بطرق متنوعة للغاية وإن كانت محدودة، بحيث تعتبر الحريات الأساسية مهمة لأنّها شروط ضرورية لهذا النوع من التوجيه الذاتي الانعكاسي وتحقيق الذات، وفي هذه النسخة من الليبرالية تعترف الدولة بمختلف الحريات المدنية وتقاوم الأبوية والأخلاقية المنتظمة ليس لأنّها لن تتخذ موقفًا بشأن مسائل الصالح، ولكن على وجه التحديد لأنّها تعترف بالاستقلال الذاتي وتقرير المصير على أنّهما سلع ذات ترتيب أعلى.


شارك المقالة: