الفيروسات في مياه المحيط

اقرأ في هذا المقال


حياة الفيروسات في مياه المحيط :

شكل الحياة الميكروبية في المحيط لا تزال في مهدها ولكن من خلال الاستعانة بالآلات في جمع سلسلة من العينات من مختلف التوقيتات وأعماق المياه والتحليل الجينومي واسع النطاق، بدأنا نلقي نظرة خاطفة على ذلك المتحف الحاشد القابع تحت الماء، ونعثر على مفاتيح توحي بأنها تلعب دورا حيوياً في الحفاظ على الحياة فوق كوكب الأرض.

بطبيعة الحال تصيب العديد من الفيروسات البحرية الأحياء البحرية بالأمراض وهي بهذا تشكل تهديداً للمؤسسات التجارية ومشروعات المحافظة على البيئة.
ومن الأمثلة على ذلك، فيروس (متلازمة البقعة البيضاء) المعدي الخطير والفتاك بدرجة كبيرة والذي أدى إلى تدمير مزارع الجمبري في أنحاء عديدة من العالم، وفيروس (الورم الحليمي) الذي يصيب السلاحف البرية فيهدد مجتمعاتها بالفناء.

وهناك فيروسات أخرى مثل فيروس الأنفلونزا الذي يصيب الفقمات والطيور البحرية ويصيب كذلك البشر، ويتنقل بين اليابسة والبحار ومن ثم ييسر انتشار العدوى من قارة لأخرى.
إلا أن الاكتشافات التي وقعت مؤخراً تشير إلى أن الفيروسات البحرية لديها أيضاً تأثيرات خفية على البيئة البحرية، وقد أثرت تلك الاكتشافات بقوة في وجهة نظرنا حول النظام البيئي والتطور والدورات الجيوكيميائية.

أولاً: العوالق النباتية والحيوانية:

العوالق النباتية: مجموعة من الكائنات التي تستعين بالطاقة الشمسية وثاني أكسيد الكربون في توليد الطاقة عن طريق التمثيل الضوئي. وكناتج ثانوي لهذا التفاعل، تنتج تلك الكائنات ما يقرب من نصف كمية الأكسجين الموجود في العالم، ومن ثم فإنها تمثل أهمية حيوية للاستقرار الكيميائي على سطح الكوكب.

وشكّلت العوالق النباتية قاعدة لمجمل شبكة الطعام البحرية، حيث تتغذى عليها العوالق الحيوانية التي بدورها تكون فريسة تتغذى عليها الأسماك والحيوانات البحرية الأرقى مرتبة من آكلات اللحوم. وعن طريق إصابة ميكروبات العوالق بالعدوى وقتلها، تتحكم الفيروسات في ديناميكية جميع المجتمعات الرئيسية وتفاعلها فيما بينها.

على سبيل المثال، العالق النباتي الشائع بل وجميل المنظر المُسمى (إي هوكسليي) يتعرض بصفة منتظمة لفترات إزهار تحول سطح المحيط إلى اللون الأزرق المعتم فوق مساحات شاسعة، حتى إنه يمكن تحديدها من الفضاء بواسطة الأقمار الصناعية. ثم تختفي تلك المناطق المزهرة بنفس سرعة ظهورها، والمتحكم في هذه الدورات من الازدهار ثم الاختفاء هي الفيروسات المتواجدة في المجتمع البحري والتي تتخصص في إصابة إي هوكسليي بالعدوى.

ولما كان في مقدورها إنتاج الآلاف من نسلها من كل خلية مصابة، فإنّ أعداد الفيروسات تتضاعف في غضون ساعات وبهذا تؤدي وظيفة فريق الإنقاذ السريع، فتقتل معظم الميكروبات المزهرة في مدة لا تتجاوز بضعة أيام.

ثانياً: ممارسة الجنس الفيروسية:

الغالبية العظمى من الفيروسات البحرية من النوع الملتهم الذي يصيب تجمعات البكتيريا البحرية بالعدوى ويقوم بتحجيمها. لكن هذا ليس الشيء الوحيد الذي تفعله. فالملتهمات تشتهر بأنها تدمج بداخلها عن طريق الخطأ شذرات من جزيئات (DNA) من أحد العوائل وتنقلها للتالي، ومن ثم تنشر المادة الوراثية سريعا بين أفراد البكتيريا التي تعولها.

وهذا السلوك داخل البيئة البحرية، والذي يطلق عليه اسم (ممارسة الجنس الفيروسية) فيما يبدو ظاهرة واسعة الانتشار، إذ تقتنص الفيروسات جينات العوائل وتنقلها في جميع أنحاء المجتمع الذي تعيش فيه.

خلال هذه العملية العشوائية، نادراً ما تكون الجينات المقتنصة مفيدة للعائل الجديد، لكنها عندما تكون كذلك، يمكنها أن تنتشر على نحو مذهل، فهي على سبيل المثال قد تساعد عوائلها على التكيف سريعاً مع التغيرات التي تحدث في مستويات المغذيات أو مع الظروف القاسية مثل درجات الحرارة المرتفعة أو الضغوط العالية أو التركيزات الكيميائية الموجودة عند الفوهات البحرية العميقة، ومن ثم تسمح لها بتكوين مستعمرات في موضع جديد.

ثالثاً: الملتهمات الزرقاء:

تحمل بعض الملتهمات جينات تمنح فرائسها دفعة أيضية. مثال على ذلك أن العديد من (الملتهمات الزرقاء) التي تغزو الزراقم وهي الأفراد البكتيرية الوحيدة الموجودة في العوالق النباتية، تحمل جينات التمثيل الضوئي الخاصة بها.

وهذه الجينات تبطل تأثير الجينات الفيروسية الأخرى المصممة من أجل إبطال عمل جينات العائل حتى تنتج بروتينات الفيروس بدلاً من بروتينات العائل. ولكن إحباط عملية التمثيل الضوئي مبكراً عن موعدها من شأنه قطع دورة حياة الخلية ومنع اكتمال دورة حياة الفيروس، وهكذا تزود الملتهمات الزرقاء تلك العملية بالمكونات الرئيسية اللازمة لها.

ولقد عملت تلك الفيروسات على نشر جينات التمثيل الضوئي الخاصة بها على نطاق بلغ من الاتساع حداً صار عنده ما يقدر ب (10%) من عمليات التمثيل الضوئي التي تتم في العالم تقوم به جينات مصدرها الملتهمات الزرقاء.

رابعاً: الدورة الفيروسية الجانبية:

العالق النباتي يحتاج إلى ضوء الشمس حتى يولد طاقة، فإن تلك الميكروبات تسكن الطبقات العُليا من سطح المحيط، غير أن الفيروسات لا تُقيدها تلك القيود. فهناك ما يقرب من (610) نوعاً مختلفاً من الفيروسات في كل كيلوجرام من الرواسب البحرية تصيب البكتيريا المعايشة لها بالعدوى وتقتلها.
وإجمالاً تقتل الفيروسات البحرية ما يقدر ب (20-40)% من البكتيريا البحرية يومياً، وباعتبارها القاتل الرئيسي للميكروبات البحرية، فإنها تؤثر تأثيراً بالغاً على دورة الكربون عن طريق ما يعرف ب (الدورة الفيروسية الجانبية).

إنّ الفيروسات عندما تقتل الميكروبات الأخرى، فإنها تحول بذلك كتلتها الحيوية إلى كربون عضوي في شكل جسيمي أو مذاب حيث يعاد استخدامه من جديد على يد المجتمعات الميكروبية. وهذا يزيد من حيويتها ومن إنتاج ثاني أكسيد الكربون على حساب تلك الكائنات الواقعة عند مستوى أعلى من شبكة الطعام.

وبدون تلك الدورة الفيروسية الجانبية، فإن كثيراً من الكربون العضوي الجسيمي كان سيغرق نحو قاع البحر ليكون طبقة عازلة. والمحصلة النهائية لذلك النشاط الفيروسي تتمثل في إطلاق حوالي (650) مليون طن من الكربون على مستوى العالم سنوياً.
يقال إن حرق الوقود الحفري يطلق حوالي (21.3) مليار طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً، وبهذا فإنها تسهم بصورة مؤثرة في التزايد التدريجي لثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.

ومع أنه قد صار من الواضح الآن أن المحيطات هي العائل لما لا يعد ولا يحصى من الفيروسات، فإننا لم نبدأ في استكشاف هذا المخزون الهائل إلا منذ عهد قريب.
ومع اكتشاف وفرة الفيروسات البحرية وتنوعها، فإن من المحتمل أن تكون هناك مستودعات مماثلة داخل مساكن ميكروبية أخرى، مثل أمعاء الإنسان، حيث تعيش البكتيريا بأعداد هائلة، حتى أن عددها داخل جسم الإنسان يفوق عدد خلايا الجسم البشري نفسه بنسبة (1:12) وبالرغم من حجمها الدقيق، فإن الفيروسات برهنت على أنها ذات أهمية قصوى في المحافظة على استقرار الأنظمة البيئية في أنحاء المعمورة.


شارك المقالة: