الخلاف بين أبو جعفر المنصور وأبو مسلم:
أصبح الخلاف واضحاً بين المنصور وأبو مسلم، وبعد الانتهاء من حركة عبد الله بن علي أصبح أبو مسلم الرجل القوي الوحيد في الدولة، ولكن لا يُريد أن تطاله يد المنصور، كما أن المنصور قد أصبح يخافه ولا يريد أن يعود إلى خراسان فإن سار إليها واعتصم فإنه يزعج الدولة، ويمكنه أن يقوم بعمل تتجزأ به الدولة، أو يعصف بها أو بخليفتها، ويريد لذلك أن يتخذ الروية والحكمة في تصرفه معه ليصيده قبل أن يفلت منه.
لذا كتب إليه، إني قمت بتوليتك مصر والشام، فهي أفضل لك من خراسان، فأرسل إلى مصر من أحببت واستقر بالشام فستكون بجانب أمير المؤمنين فإن أحب وجودك جاءك من قريب، فلما أتاه الكتاب غضب وقال: يوليني الشامومصر، وخراسان لي. فكتب الرسول إلى المنصور بذلك، وأقبل أبو مسلم من الجزيرة مجمعاً على الخلاف، وخرج عن وجهه يريد خراسان، فسار المنصور من الأنبار إلى المدائن وكتب إلى أبي مسلم في المسير إليه.
كأن المنصور قد ضحى وذهب شوطاً نحو أبي مسلم ليسير هو الآخر شوطاً، وقد يكون هذا السير تهديد بأنه إن لم يأت إليه فإنه عازم على الحيلولة دون توجهه إلى خراسان . فكتب إليه أبو مسلم: إنه لم يبق لأمير المؤمنين، أكرمه الله عدو إلا أمكنه الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء فنحن نافرون عن قربك.
حريصون على الوفاء لك ما وفيت، مُنصِتون بالسمعِ والطاعةِ غير أنها من بعيد حيث يُقارنها السلامة فإن قام برضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت إلا أن تعطى نفسك إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك ضناً بنفسي. وكذلك كتاب أبي مسلم فيه إظهار الطاعة وفي الوقت نفسه فيه التهديد على تنفيذ ما يريد وهو السير إلى خراسان إن صمم المنصور فرض رأيه، بل مستعد لنقض البيعة.
ولما وصل الكتاب إلى المنصور كتب إلى أبي مسلم قد تفهمت رسالتك، وليست تُشبة صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم، الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، فإنما راحتك في انتشار نظام الجماعة، فلم سويت نفسك بهم؟ فأنت في طاعتك، ومُناصحتك، واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سمعاً ولا طاعة، وحمّل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت، وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزعاته وبينك فإنه لم يجد باباً يفسد به نيتك أوكد عنده وأقرب من الباب الذي فتحه عليك؟.
نتيجة الخطابات بين أبو جعفر وأبو مسلم:
زادت قسوة الرسائل والكتب، وأصبحت تظهر ما تخفيه النفوس، فكتب أبو مسلم لأبي جعفر، أما بعد فإني أخذت قراراً برجُلاً إماماً ودليلاً على ما افترض الله على خلقه، وكان في محلة العلم نازلاً وفي قرابته من رسول الله كله قريباً فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن مواضعه طمعاً في قليل قد تعافاه الله إلى خلقه، وكان كالذي دلّى بغرور. وأمرني أن أجرد السيف، وأرفع الرحمة، ولا أقبل المعذرة، ولا أقيل العثرة ففعلت توطئة لسلطانكم حتى عرفكم الله من كان يحملكم، ثم استنقذني الله بالتوبة فإن يعفُ عني فقديماً عُرف به ونُسب إليه، وإن يعاقبني فبما قدمت يداي، وما ربك بظلام للعبيد.
ومع هذه القسوة في المراسلات إلا أن أبا جعفر قد اتخذ بجانبها الحنكة السياسية فيعد الأُمراء ويظهر للرسل تقديره لأبي مسلم حتى حسّنوا له القدوم على الخليفة، سوى نيزك، وهو أمير أشار على أبي مسلم أن يقتل أبا جعفر ويستخلف غيره.
وأرسل المنصور إلى أبو سلمه الرسول جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي، في جماعة من الأمراء، وأمره أن يتكلم مع أبا مسلم بالكلام اللين بالذي يستطيع قوله، وأن يكون فى جملة ما يكلمه به أنه يريد رفع قدرك، وعُلو منزلتك، والاطلاقات لك، فإن جاء بهذا فذاك، فإن أبى، فقل: هو بريء من العباس إن شققت العصا وذهبت على وجهك ليدركنك بنفسه وليُقاتلنك دون غيره، ولو خضت البحر الخضم لخاضه خلفك حتى يدركك فيقتلك أو يموت قبل ذلك، ولا تقل له هذا حتى تيأس من رجوعه بالتي هي أحسن.
فلما أتوا عليه حُكام المنصور بـ (حلوان)، فقد انتقدوه بما فعل فيما هم به لأمير المؤمنين، وما هو فيه من مخالفته، ورغبوه في الرجوع إلى الطاعة، فشاور ذوي الرأي من أُمرائه فكلهم نهاه عن الرجوع إليه، وأشاروا بأن يُقيم في الريّ فتكون خراسان تحت حُكمه، وجنوده طوعاً له فإن استقام له الخليفة، وإلا كان في عر ومنعة من الجند. فعند ذلك أرسل أبو مسلم إلى أمراء المنصور فقال لهم: ارجعوا إلى صاحبكم فلستُ ألقاه. فلما استيأسوا منه قالوا له ذلك الكلام الذي كان المنصور أمرهم به، فلما سمع ذلك كسره جداً وقال: قوموا عني الساعة.