اقرأ في هذا المقال
العلاقات العباسية البيزنطية في عهد أبي العباس:
ورث العباسيون النزاع مع البيزنطيين وهو النزاع كان السمة الغالبة على العلاقات بين العرب المسلمين والروم، نظراً لوجود مصالح عديدة متعارضة لعل منها إضافة إلى فريضة الجهاد والتي تعني توسيع دار الإسلام والحفاظ عليه، المصالح الاقتصادية التي نتجت من الإشراف على طرق التجارة بين الشرق والغرب، مثل طريق الحرير الشهير الذي يربط أوروبا بالصين مروراً بالبلاد العربية.
وعندما تم النصر للعباسيين عام (132 هجري)، اتخذوا أول الأمر عدة مراكز لدولتهم في العراق مثل الكوفة والهاشمية والأنبار وغيرهها، فأصبح مركز القوة العربية الإسلامية بعيداً نوعاً ما عن القسطنطينية، وصارت وجهة العباسيين تتجه صوب الشرق لتثبيت أركان الدولة، والسيطرة على أقاليم فارس المضطربة بدلاً من الشمال والغرب على عكس ما كان عليه الأمر عندما كانت دمشق عاصمة الخلافة الأموية.
وأصبحت الحروب التي تقوم بين العباسيين والبيزنطيين لا تعتمد على الفتح المنظم بل أخذت في كثير من الأحيان طابع الهجوم، واجتياح المدن الحدودية والحصون القائمة بين الدولتين، ثم العودة والانسحاب داخل الحدود، وهذا يعني أن الحرب العباسية البيزنطية استمرت بين المد والجزر، على أنها بصفة عامة كانت غزوات لتخريب الدفعات والحصون وإرهاب العدو وإضعافه.
لقد انتهز الروم فرصة انشغال الخليفة أبي العباس بالاضطرابات والمشاكل الداخلية التي واكبت قيام الدولة العباسية، فقاموا بمهاجمة المناطق الشمالية للدولة الإسلامية وهي منطقة الثغور والعواصم، ويرى البلاذري أنَّ الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الخامس شنَّ حملة عسكرية على ملطية، إذ هاجم أول الأمر كمنخ، وحاصرها، فاستغاث أهل كمنخ بأهل ملطية فأنجدوهم بثمانمائة مُقاتل، إلا أن البيزنطيين هزموهم فاستسلم أهل كمنخ.
ثم توجه قسطنطين الخامس نحو ملطية فحاصرها، فتصدى له أهلها وقاوموه ولكنهم لم يستطيعوا الاستمرار بالمقاومة لشدة هجمات الروم كما أنهم لم يجدوا مساعدة من والي الجزيرة موسى بن كعب، لذلك استسلم أهل ملطية وقبلوا الأمان الذي عرضه عليهم الإمبراطور قسطنطين الخامس إذ قال لهم: (يا أهل ملطية إني لم آتكم إلا على علم بأمركم وتشاغل سلطانكم انزلوا على الأمان وأخلوا المدينة). ثم أخرجهم البيزنطيون من المدينة فتفرقوا في الجزيرة.
ويلاحظ أن الخليفة أبا العباس لم يتخذ أي إجراء اتجاه تلك الغزوة بسبب اهتمامه الذي كان منصباً على الجبهة الداخلية، لتثبيت الاستقرار في الدولة الفتية، والقضاء على الحركات المناوئة، تاركاً سياسة الجهاد لفرصة مناسبة. ويبدو أن الخليفة أبا العباس أدرك في أواخر أيامه أن الثغور العربية الإسلامية قد تتعرض لكارثة بسبب استمرار هجمات البيزنطيين واستفحال أمرهم، فوجه حملة عسكرية لغزو بلاد الروم بقيادة عمه عبد الله بن علي الذي كان والياً على بلاد الشام آنذاك، حيث سار بقواته لتنفيذ تلك المهمة، ولكن وفاة الخليفة أبي العباس أجلت تنفيذها، إذ أنَّ عبد الله بن علي قطع زحفه وعاد إلى الشام مُسرعاً، وقد بايع لنفسه بالخلافة.
ويظهر من ذلك أن دور العباسيين في مدة حكم الخليفة الأولى أبي العباس كان يتميز بالدفاع فقط عن الثغور الإسلامية، للحفاظ على سلامة حدود الدولة الإسلامية، وتأمين حدود دار الإسلام، ولم يكن الهجوم والتوسع من مظاهر سياستهم الخارجية في خلال عهد أبي العباس على أقل تقرير، على أنَّ ذلك لا يعني أن الخليفة العباسي الأول أهمل أمر الجهاد ذلك لأن المصادر التاريخية تشير إلى حملات الصوائف وأسماء بعض أمرائها، وبعض من شاركوا فيها سنوياً مما يدل على استمرار الفعاليات العسكرية ضد البيزنطيين ولكن على نطاق محدود.
وفي عام (138 هجري)، أعاد إمبراطور الروم الكرة وهاجم ملطية مرة أخرى، لذلك بدأ الخليفة المنصور بالاهتمام بتحصين الثغور وشحنها بالمقاتلة ضمن خطة عسكرية متكاملة، مع شروعه في إرسال حملات منظمة لمهاجمة حدود الروم، فضلاً عن زيادة العطاء لكل مُقاتل ولتخصيص معونة مالية مع تحمل الدولة بناء دور خاصة لهم لإقامة عوائلهم، وجرت في العام نفسه مفاوضات حول تبادل الأسرى تكللت بالنجاح، وعاد أهالي فالقيلا وغيرهم إلى مدنهم، ووضع الخليفة في فالقيلا حامية من سكان الجزيرة. استمرت العمليات الحربية على الحدود في الأعوام التالية بالرغم من توقفها في بعض السنوات لانشغال الطرفين في أمروهم الداخلية، لكنها على العموم لم تكن جديرة، ولم تحقق أي انتصارات حاسمة.
العلاقات العباسية البيزنطية في عهد الخليفة المهدي:
قد تصاعدت العمليات الحربية في عهد الخليفة المهدي، فلم تمر سنة إلا وتكون فيها حملة صيفية أو شتوية، فكانت أول حملة في صيف عام (159 هجري)، بقيادة العباس بن محمد، وكان سبب الحملة هو الرد على هجوم الإمبراطور البيزنطي ليو الرابع على سمسياط وأخذه بعض الأسرى، وبالرغم من وصول القوات العباسية إلى أنقرة إلا أنها لم تحاصرها أو تحاول فتحها، وفي السنة نفسها أسكن الخليفة المهدي ألفي مقاتل في المصيصة، مع أنها كانت مشحونة بالجند والمتطوعين، فضلاً عن ابتدائه في بناء كفريبا.
وقد هاجم إمبراطور الروم الحدود عن طريق درب الحدث فقتل وسبى وحرقها بالنار، وعند عودته واجهته قوة عباسية لكنه استطاع إلحاق الهزيمة بها، لذلك ففي عام (162 هجري)، شنَّ العباسيون حملتين ضد البيزنطيين، الأولى بقيادة الحسن بن قحطبة الطائي، انتقم فيها مما فعله الإمبراطور، وأوغل ابنه بالدخول إلى عمورية، وترافق وصوله مع وصول قوات والده فكانت مناوشات بسيطة انسحب على إثرها الجيش العباسي والثانية كانت من طريق فالقيلا بقيادة يزيد السلمي، واستطاع فتح ثلاثة حصون.
لقد انتبه الحسن الطائي بعد قيادته لتلك الحملة إلى وضع الجبهة بحيث أقنع الخليفة المهدي بضرورة تحصين طرسوس فوافق الخليفة على ذلك وأمره ببناء مدينة الحدث وأسكن فيها مقاتلة من أهل الشام والجزيرة وأعطى لكل فرد ((300 درهم إعانة لهم ثم بنى مدينة طرسوس.
وفي عام (163 هجري)، جهز الخليفة المهدي جيشأً كبيراً وعلى رأسه ابنه الأمير الشاب هارون ومعه كبار القواد، وقضى المهدي شهرين يجهز لهذه الحملة، ورحل الخليفة مع الجيش حتى الموصل، لأهمية هذه الحملة لدوافع مختلفة، وقد دخل الجيش العباسي أرض الروم وسيطر على حصن (سمالوا)، بعد استسلام أهله على شروط، وعاد الجيش المنتصر إلى بغداد. وفي عام (164 هجري)، كانت حملة عسكرية بقيادة عبد الكبير بن عبد الحميد من طريق درب الحدث، لكن القوات العباسية انسحبت بعد المواجهة مع القوات البيزنطية لكثرة عددها.
وفي العام التالي كلف المهدي ابنه الأمير هارون بحملة جديدة صرف عليها مبالغ طائلة، وقد توغل الأمير في بلاد الروم مسافة بعيداً جداً، واستولى في طريقه على حصن (ماجدة)، ثم التحم الجيش العباسي مع خيالة للجيش البيزنطي، فانهزم الخيالة وبذلك زحف الجيش العباسي على (نغمودية) فانفتح الطريق إلى الشمال نحو القسطنطينية، لكن ظروف إمبراطورية الروم (أيربني أوغسطة)، كانت سيئة وتواجه مصاعب داخلية، ولتوغل الجيش العباسي إلى مناطق بعيدة جدأً لذا تم التفاوض حول الصلح.
فوافق الأمير هارون عليه وكانت الشروط أن تكون هدنة لمدة ثلاث سنوات، وأن تدفع الإمبراطورة مبالغ نقدية سنوية، وأنّ ترسل رسولاً إلى بغداد ومعه الهدايا، فضلاً عن تقديم الأدلاء والغذاء إلى الجيش العباسي في طريق عودته مع تسليم الأسرى لديهم، وعند عودة الجيش إلى بغداد لقب الأمير هارون بـ (الرشيد)، وعينه والده ولياً للعهد بعد أخيه موسى.
وفي عام (168 هجري)، وقبل انقضاء مدة الصلح نقض الروم الهدنة بين الطرفين على أن خليفة بن خياط أشار إلى حصول تبادل للثرى في عام (167 هجري)، لكن لا توجد تفصيلات وافية من مصادر تاريخية أخرى، وفي عام (169 هجري)، قاد معيوف بن يحيى حملة عن طريق درب الراهب، فهاجم مدينة (أشنه)، واستطاع أن يأسر عدداً من الروم ويستولي على الأموال في الوقت الذي أقبل الروم إلى مدينة الحدث، فهرب واليها مع جنده. وعلى ذلك يمكن القول أن الاشتباكات الفصلية على الحدود استمرت بين الدولتين في هذه الفترة على أن أهدافها لم تكن ضم أراضي جديدة إلى الدولة العربية الإسلامية كما كان يحدث سابقاً.