اقرأ في هذا المقال
الصلة بين مصر وغيرها من البلاد في الدولة الوسطى:
إذا تم الرجوع إلى الوثائق المعاصرة من أيام هذه الدولة، وبخاصة في الأسرة الثانية عشرة، نجد أنَّ مصر زادت كثيراً من صلتها بما حولها من بلاد. فقد اهتم ملوكها بتأمين حدودها الغربية والشرقية، وأقاموا التحصينات، وبدأوا أيضاً سياسة جديدة نحو واحات الصحراء الغربية منذ أيام أمنمحات الأول فاهتموا بها وكانوا يرسلون الدوريات البوليسية للتفتيش على الطرق لتأمينها. كما نعرف أيضاً أنَّ الواحات، وبخاصة الواحات الخارجة والداخلة، وكانت شديدة الصلة بطيبة وأبيدوس، قد أخذت تزدهر في ذلك العهد.
ولكن الأمر لم يقف عند حدود مصر. فقد زادت الصلة التجارية والثقافية بين مصر والشاطىء الفينيقي، وكان ملوك مدينة جبيل وثيقي الصلة بملوك وادي النيل الذين كانوا يرسلون إليهم الهدايا الثمينة ويتلقون منهم بعض الأشياء الثمينة من حاصلات ومصنوعات تلك البلاد. كانت التجارة بين مصر وشرقي البحر الأبيض تأخذ سيرها في واحد من طريقين أحدهما طريق البر والثاني طريق البحر.
ولم تكن تلك الرابطة قاصرة على الشاطىء الفينيقي بل كانت تشمل جزر البحر الأبيض المتوسط وبخاصة جزيرة قبرص القريبة من الشاطىء السوري وجزيرة كريت ذات الحضارة المزدهرة في ذلك العهد، والتي كان لفنها بعض الأثر في زخرفة الحلي المصنوعة فى مصر.
كانت هناك رابطة قوية بين مصر وفلسطين والشاطىء الفينيقي وأجزاء كبير من سورية، فهل كانت لمصر سياسة استعمارية في ذلك الوقت في تلك البلاد؟ وهل يدل وجود أثار مصرية في بعض بلادها سواء على مقربة من الشاطىء أو في منطقة البقاع على نفوذ سياسي لمصر؟.
الجواب على ذلك هو أنَّ مصر لم تكن معنية إلا بالتجارة وإن كان هناك ذِكر عارض لحملة حربية أو لحملتين على تلك البلاد، فإنها كانت دون شك لتأديب بعض القبائل التي استهانت بمصر وكرامتها وهاجمت قوافل تجارتها التي كانت آنذاك احتكاراً للملوك.
كان رسل مصر يسيرون جيئةً وذهاباً على الطريق التجاري الرئيسي بين مصر والشاطىء السوري، وبين الشاطىء وداخل سورية كما ذكرنا عند الحديث عن سنوهي. وكانت تقيم في أكثر من مدن سورية جاليات مصرية لأجل التجارة.
وكان لبعض الآلهة المصرية معابد هناك ولكن لم تكن لمصر حاميات في أي مكان، وإذا كان ملوك جبيل قد ارتبطوا برباط صداقة وولاء مع مصر، أو كانوا متأثرين كثيراً بالثقافة المصرية فإنَّ أولئك الملوك لم يكونوا من موالي مصر أو كانوا يحكمون باسمها، أو يقدمون لها جزية مفروضة عليهم.
ازدهار الأسرة الثانية عشرة في عصر الدولة الوسطى:
كان ازدهار الأسرة الثانية عشرة بين أوائل القرن العشرين وأوائل القرن الثامن عشر قبل الميلاد (1778 – 1992 ق.م.)، وكانت مصر آنذاك أعظم الأمم ثقافة وقوة في بلاد الشرق القديم، لأنَّ بلاد الرافدين في ذلك الوقت كانت تجتاز فترة ضعف في تاريخها. لم يخرجها منها إلا الملك حمورابي عام (1728 ق.م.).
ولهذا لا يكون غريباً إذا وجدنا نفوذ مصر الثقافي يتغلغل في بلاد فلسطين وسورية، ولا يدهشنا أن نرى المصريين يستفيدون من هذه الظروف ويقوون صلاتهم التجارية بتلك البلاد. وليس من المستغرب أيضاً أن يبدأ بعض سكان تلك البلاد في التفكير في المجيء إلى مصر يحملون خيرات بلادهم للإتجار بها.
ولكن الرابطة مصر بالجنوب كانت ذات طابع آخر، إذ كان اعتماد مصر في حياتها على النيل، وكانت منذ فجر تاريخها تهتم بالجنوب وتعني بمعرفة طرقه وتهتم بالحصول على خيراته. وأخذ ملوك الدولة القديمة منذ أيام الأسرة الخامسة يرسلون الحملات للاتصال بأهله. وقد رأينا عند حديثنا عن تاريخ الأسرة السادسة أنَّ أهل النوبة لم يكونوا يُرحبون دائماً بتلك الحملات وكانوا يهاجمونها في بعض الأحيان.
ولكن ما جاءت أيام الأسرة الثانية عشرة حتى كانت الأمور قد تغيرت في تلك البلاد وذلك بسبب تقدم الجنس الزنجي نحو الشمال واختلاطه بثقافة حامية الأصل، وسيطرته على السكان المحليين فأصبح مع مرور الأيام خطراً على مصر نفسها.
ولهذا نلاحظ أنَّ ملوك الأسرة الحادية عشرة يهتمون بالجنوب، ونجد الملك أمنمحات الأول منذ توليه العرش يهتم بهذا الأمر، ويتم ملوك الأسرة إخضاع المنطقة بين الشلال الأول والشلال الثاني إخضاعاً تاماً للنفوذ المصري ويبنون هناك الحصون وقد بلغ عددها سبعة عشر حصناً، ويضعون فيها الحاميات ويحرمون على أحد من السكان الزنوج أن يتعدى الشلال الثاني في طريقه نحو الشمال سواء بطريق النيل أو بطريق البر إلا بقصد التجارة وفي جماعات قليلة.
ولم تقف هذه الأسرة عند ذلك بل دفعت بحدود مصر إلى جنوبي الشلال الثالث وهناك، عند مكان يُقال له (كرمة)، أقاموا حصناً ومخزناً كبيراً لإيداع ما يحمله التجار من بضائع. وكان يُقيم هناك حاكم مصري، وكانت هناك أيضاً مدينة مصرية صغيرة وفيها صناع مصريون. ولسنا نعرف على وجه اليقين كم من الحكام تولوا تلك الوظيفة.
ولكن واحداً منهم واسمه (زفاي حعبي)، مات هناك فدفنوه حسب تقاليد البلاد، لا حسب التقاليد المصرية، وضحوا بأكثر من مئتي شخص وربما كانوا نحو (270) شخص من خدمة وأتباعه، ودفنوهم في الممر المؤدي إلى قبره، ثم أقاموا كوماً كبيراً فوق القبر ووضعوا فوقه تمثالاً له داخل هيكل مُشيد من الطوب.
لم تكن عادة دفن الأتباع قاصرة على الزعماء أو الملوك في السودان في ذاك الوقت بل كانت عادة عامة في كثير من حضارات العالم القديم، وقد وجد (ريزتر)، الذي حفر منطقة كرمة قبل الحرب العالمية الأولى كثيراً من القبور التي دُفِنَ فيها الخدم مع سادتهم ومن بينهم قبر لطفلة صغيرة احتضنتها مربيتها داخل القبر وقد رقدت خادمة أخرى على مقربة منهما.
وقد دفنت كل من المربية والخادمة وهن أحياء وكانت العادة المتبعة هي أن يعطوا أولئك الخدم أو الأتباع شراباً مخدراً ويضربوهم ضربة قاتلة على رؤوسهم إذا رفضوا تناوله. والفكرة في دفنهم مع سادتهم هي أن يقوموا على خدمتهم في الحياة الأخرى كما كانوا يخدمونهم في هذه الدنيا.
لم يقتصر الاهتمام بالجنوب على الملك دون آخر، فنراهم جميعاً وقد أظهروا الكثير من العناية بالنوبة وبمياه النيل ولكن واحداً من بينهم وهوه سنوسرت الثالث، اهتم اهتماماً خاصاً بالحد الجنوبي لمصر ونزل بنفسه إلى الجنوب على رأس الجيش عدة مرات واعتنى عناية كبير بتجديد الحصون وتقوية الحاميات، وأقام عدة لوحات للحدود جنوبي الشلال الثاني، وحرم على جميع الزنوج الجنوبيين اجتياز ذلك الحد وكتب في تلك اللوحات أنه بريء من ابن يأتي بعده ولا يُحافظ على تلك الحدود، ويحارب من أجلها.
وبعد موت هذا الملك بخمسمئة عام تقريباً نشاهد ملكاً عظيماً آخر يقدر أعماله وجهوده في المحافظة على حدود مصر الجنوبية، نرى الملك العظيم (تحوتمس الثالث)، يرفع (سنوسرت الثالث)، إلى مصاف الآلهة ويجعل منه إلهاً حامياً للنوبة، ويُقيم المعابد لعبادته ويقف أمامه يقدم له القرابين كإله من الآلهة.