حكام الأسرة المصرية السادسة

اقرأ في هذا المقال


الحاكم ببي نخت:

لم يستمر نشاط حر خوف في قيامه بتلك الحملات أكثر من سبعة أعوام قام خلالها بالحملات الأربع ثم تلاه في هذا العمل حاكم آخر امتاز بشدة اليأس وكان اسمه (ببي نخت)،‏ الذي يقص علينا في تاريخه الذي كتبه في قبره في أسوان شيئاً كثيراً عن نشاطه في الحروب.

كانت صلة مصر بقبائل النوبة في أيام (وني وحر خوف)، صلة صداقة وتعاون، ولسنا نعرف السبب الذي جعل بلاد إرثت (حول بلدة توماس في النوبة)، تتعرض لغضب الملك فيكلف (ببي نخت)،‏ بتأديبهم: (أرسلني جلالة مولاي لأؤدب بلاد إرثت فقمت بما جعل مولاي يثني علي وقتلت منهم عدداً كبيراً، من بينهم أبناء الزعماء ورؤساء المحاربين، وأحضرت منهم الجنود الأشداء).

‏ويذكر هذا الشخص في مواضيع أخرى من نصه بأنه ذهب مرة أخرى إلى تلك البلاد لتهدئة الحالة فيها، وأحضر معه عند عودته زعيمي الثوار ومعهما هدايا من الثيران والأبقار. من المحتمل أنَّ هذه الحملة الثانية لم تكن حملة حربية وإنما كانت لإصلاح مع عساه أن يكون قد أفسدته الحملة الأولى.

‏ويقص علينا أيضاً أنَّ الملك (ييي الثاني)، كان قد أمر أحد ضباطه ببناء سفينة كبيرة على ساحل البحر الأحمر للإبحار بها إلى بلاد يونت، ولكن بدو الصحراء الشرقية هاجموه وقتلوه هو ومن كان معه. فلمّا علم الملك بذلك أمر (ببي نخت)، بإعداد حملة وأنّ يذهب للثأر للضابط المقتول وإحضار جثته، وقد قام بذلك وقتل من أولئك البدو عدداً عظيماً. وترينا هذه القصة الأخيرة كيف أصبحت سلطة الملك محدودة وأنه كان يعتمد على ولاء حُكام الأقاليم الأقوياء لتنفيذ ما يريده.

الحاكم ميخو وسابني:

‏ولم تحل أعمال (ببي نخت)، في بلاد النوبة دون استمرار حملات الاستكشاف والتجارة من آن لآخر، ونعرف من مقابر أسوان أيضاً قصة اثنين من أولئك الرحالة وهما ميخو وابنه سابني تركا لنا نقوشاً في مقبرتهما بأسوان عرفنا منها أنَّ الأب دفع حياته ثمناً لتفانيه في خدمة سيده الملك إذ قتله رجال إحدى القبائل النوبية عند عودته من إحدى رحلاته.

وقد ذكر سابني أنَّ والده كان حاكماً لإلفنتين وكان يحمل لقب رئيس الحملة كما كان يحمل عدة ألقاب كهنوتية، وعينه الملك في كل تلك الوظائف كما أسند إليه أيضاً وظيفة حاكم الجنوب عندما نجح في إحضار جثة أبيه والانتقام ممن قتلوه. ويذكر لنا سابني أنَّ بعض الناجين ممن كانوا مع أبيه قصوا عليه ما حدث:‏ (وعندئذ اصطحبت جنوداً من رجالي ومائة حمار وأخذت معي عطوراً وعسلاً وزيتاً وملابس لأقدمها هدايا في تلك البلاد. واتجهتُ إلى النوبيين بعد أنّ بعثت بخطابات إلى الملك بأني سافرت لإحضار الجثة من بلاد واوات وأرثت ولأهدئ الأمور في تلك المناطق).

ويستمر في قصته فيقول إنه عثر على جنة أبيه في منطق نائية بعيدة فصنع لها تابوتاً حمله على ظهر حمار ثم سار مخترقاً البلاد حتى رجع إلى واوات (منطقة كورسكو)، وأرسل خطاباً إلى الملك ينيئه بما حدث، كما أرسل إليه ما أحضره معه من هدايا. وأراد الملك أنّ يظهر عطفه على كل من ميخو وابنه سابني فأمر بإرسال المُحنطين الملكيين من منف ومعهم كل ما يلزمهم لعملهم، ودفنه دفنة تليق بأحد حُكام الأقاليم الذين ضحوا بحياتهم في خدمة ملكهم، وأمر بأنّ يتولى سابني وظائف أبيه وكتب له قائلا: (لقد فعلت كل هذه الأشياء العظيمة مكافأة لك على عملك الكبير، لأنك أحضرت جثة أبيك).

تلك قصص القليلة للرحالة المصريين الذين ذهبوا لاكتشاف البلاد الواقعة إلى الجنوب وليفتحوا طرقاتها للتجارة. قام المصريون بتلك الرحلات في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد ليكتشفوا قلب القارة الإفريقية قبل أنّ يولد ستانلي ولفنجستون وغيرهما من الرحالة الحديثين بأكثر من أربعة آلاف ومائتي عام.

كانوا يسيرون إلى الجنوب تنفيذاً لسياسة أسسها ملوك الأسرة الخامسة وشجعها واهتم بها اهتماماً خاصاً ملوك الأسرة السادسة، وقد كانت رحلات أولئك الرحالة وما أنشأوه من صلات مع زعماء القبائل ما حصلوا عليه من معلومات عن البلاد، تمهيداً لصلات سياسية أقوى.

الثورة الاجتماعية في عهد الحكام:

وصلت حالة مصر إلى الحضيض في أواخر أيام الأسرة السادسة وعمت ‏الفوضى، فلمّا طفح الكيل لم يجد الشعب أمامه طريقاً غير الثورة على تلك الأوضاع، والانتقام لنفسه ممن كانوا عليه سوط عذاب. ومصادرنا عن تلك الثورة ووصف ما حدث في البلاد، تنحصر فيما جاء في برديتين إحداهما تُسمى بردية ‎(إييو ور)،‏ والثانية تُسمى بردية (نفرتي)، وقد كتبت أولاهما وهي الأهم على لسان شخص حكيم استطاع أنّ يصل إلى مقر الملك الذي لم يذكر اسمه، ويطلب منه العمل على إنقاذ البلاد مما تردت فيه، ويضف له حالتها السيئة في لغة بليغة.

أما الثانية فقد خطت بعد تلك الثورة، كتبها كاتبها كدعاية سياسية للملك أمنمحات الأول يسميه باسمه المختصر (أميني) في النص، وينسب أصل حوادثها إلى عهد الملك سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة الذي طلب من رئيس الكهنة المرتلين في معبد الالهة (باست)،‏ ويُسمى (نفرتي)،‏ أنّ يُحدثه عن شيء سيحدث في المستقبل فقص عليه ما سيحدث في البلاد من فوضى ويطيل في وصفها ثم يقول أخيراً أنَّ الذي سيُنقذ مصر من تلك المحنة ملك اسمه أميني يأتي من الجنوب وأمه نوبية ويولد في الصعيد.

لقد انقلب الحال في البلاد إلى عصابات، ولم يعد الناس يهتمون حقولهم،‏ ورفض الناس عن دفع الضرائب، وتوقفت التجارة الخارجية وهجم الناس على مخازن الحكومة فنهبوها وعلى مكاتب الدولة فبعثروا محتوياتها. بل أنَّ الملوك المدفونين قد اعتدى عليهم أيضاً وبعثروا أشلاءهم وأصبحت أهرامهم خالية مما كان فيها. وصب الشعب انتقامه على الأغنياء فنهبوا القصور وحرقوها وصار أصحابها محزونين يبكون، بينما كان عامة الشعب يفرحون ويحتفلون.

وأضحى الذين كانوا يملكون الرقيق يذهبون في أسمال بالية. وأولئك الذين لم يملكوا شيئاً في حياتهم يرفون في ملابس من خير أنواع الكتان. ويسخر الكاتب مما كان يراه فيقول إنَّ الأصلع الذي لم يكن يستخدم الزيت أصبح يمتلك الأواني الملأى بخير أنواع العطور،‏ وأنَّ الذي لم يمتلك صندوقاً صغيراً في حياته أصبح مالكاً لصندوق كبير، والفتاة التي كانت تذهب إلى الماء لترى وجهها أصبحت مالكة لمرآة. وياليت الأمر وقف عند ذلك الحد فقد صب الناس نقمتهم على أطفال الأغنياء فصاروا يقذفون بهم الجدران،‏ وترك الناس أطفالهم الذين طالما تمنوا ولادتهم، ألقوا في الطريق عساهم أنّ يجدوا من يمد إليهم يده.

حتى رجال الأمن الذين كان الناس يعتقدون منهم أنّ يوقفوا تلك الأحداث أصبحوا في مقدمة الناهبين،‏ وانهارت الحكومة المركزية وأصبح الأغنياء في حزن وغم بينما كان الفقراء فرحين. وكانت كل مدينة تقول (فلنطرد بعضنا منها)، ومما زاد الحالة سوءاً أنَّ عصابات من البدو الذين كانوا يسكنون على حدود مصر في الشرق وربما أيضاً في الغرب انتهزوا هذه الفرصة فأخذوا يتدفقون على قُرى الدلتا وينهبون ما يجدونه مع الناس، ولم يعد أخ يثق في أخيه أو صديق في صاحبه.

لقد حاول الشعب الانتقام، وهجم الفلاح الصابر المطيع عندما وجد الظلم قد ازداد، وأنَّ الأغنياء قد سلبوه كل شيء، ثار ثورته الجامحة فلم يبقَ على شيء ولم يفرق وهو في ثورته بين معبد لإله أو ديوان للحكومة، أو قصر لغني، أو مخزن للدولة، أو قبر‏ دفنوا فيه حُلياً مع صاحبه، ولكن مثل هذه الحالة لا يمكن أنّ تستمر إلى الأبد فلا بد للناس من أنّ يعودوا إلى الهدوء بعد الثورة وأنّ يُحاولوا خلق مجتمع ونظام جديدين.‏

‏وإذا كانت المزارع قد تركت دون زراعة وتلوثت مياه النيل بلون الدم ومُلئت بجثث الموتى كان لا بد للناس أنّ يهدأوا وأنّ ينتجوا ليعيشوا. ولم يعد الشعب يجد من يصب عليه مزيداً من غضبه أو شيئاً يمكنه أنّ يغتصبه ممن كان يملكه، فخلد إلى الهدوء وتطلع إلى الذين احتلوا منه مكان الزعامة والمشورة ليخرجوه مما هو فيه ليبدأ حياة جديدة، لأنَّ الهدم سهل وميسور ولكن البناء شيء آخر يحتاج إلى خيرة ومران. ومضت فترة طويلة قبل أنّ تعود مصر إلى ما كانت عليه.‏


شارك المقالة: