يتفق سائر المؤرخين على أن هذه العصور، تمتد من القرن الرابع إلى القرن الرابع عشر الميلادي. وقد تم تسميتها بالعصور الوسطى كونها ارتبطت بتدهور الحضارة الأوربية وارتداد الفكر إلى حقبة مظلمة من ناحية، ولأنّها من ناحية أخرى وقعت بين عهدين هما: نهاية ازدهار الفلسفات الأوربية القديمة (اليونانية والرومانية) وبداية عصر النهضة الأوربية (عصر التنوير).
الأنثروبولوجيا في العصور الوسطى في أوربا:
يرى المؤرخون أنّه في هذه العصور الوسطى (المظلمة) تدهور التفكير العقلاني، وأدينت أيّ أفكار تخالف التعاليم المسيحية، أو ما تقدمه الكنيسة مـن تفسيرات للكون والحياة الإنسانية، سواء في منشأها أو في مصيرها. ولكن إلى جانب ذلك، كانت مراكز أخرى وجهت منطلقات المعرفة، وحـددت معالم الحضارة الغربية في تلك العصور، كبلاط الملوك على سبيل المثال، الذي كان يضم فئات من المثقفين كرجال الإدارة والسياسة والشعراء.
يضاف إلى ذلك التوسع في دراسة القانون (جامعة بولونيا) ودراسة الفلسفة واللاهوت (جامعة باريس) مما كان له من دور واضح في الحياة الأوربية العامة (السياسية منها والاجتماعية والثقافية والدينية) وتدرجَ بالتالي للنهضة التي شهدتها أوروبا بعد هذه العصور.
ولقد ظهرت في هذه المرحلة مجموعة محاولات للكتابة عن مختلف الشعوب، بالرغم أنها اتّسمت معظمها بالوصف التخيلي، بعيدة عن المشاهدة على أرض الواقع. كالذي قام به العالم إسيدور حيث أعد موسوعة عن المعرفة في القرن السابع الميلادي، وصفَ فيها بعض تقاليد الشعوب المجاورة وعاداتهم، ولكن بصورة عفوية، تتّسم بالسطحية والتحيز.
ومن معتقداته التي ذكرها، أن الشعوب القريبة من أوربا هي التي تحدد تقدمها، أما الشعوب البعيدة عنها، كان الانحطاط والتهور الحضاري والثقافي مؤكّدا لتلك الشعوب. ووصفَ الناس الذين يعيشون في أماكن نائية، بأنّهم من سلالات غريبة الخَلق، حيث تبدو وجوههم بلا أنوف.
وقد بقيت تلك المعلومات منتشرة وشائعة حتى القرن الثالث عشر، حيـث ظهرت موسوعة ثانية كتبها الفرنسي باتولو ماكوس، والتي لاقت شعبية كبيرة، بالرغم أنّها لم تختلف كثيراً عن سابقتها في الاعتماد على الخيال.
الأنثروبولوجيا في العصور الوسطى عند العرب:
كانت هذه الفترة من منتصف القرن السابع الميلادي وحتى نهاية القرن الرابع عشر. حيث بدأ الإسلام في الظهور والتوسع، وانتشرت معه أشكال الحضارة العربية والإسلامية آنذاك بالنمو والازدهار. وقد احتوت هذه الحضارة الآداب والأخلاق والفلسفة والمنطق، كما كانت ذات تأثيرات خاصة في الحياة السياسية الدولية والعلاقات الاجتماعية.
ولهذا اقتضت الأوضاع الحديثة التي نتجة عن الفتوحات العربية والإسلامية، التركيز على دراسة أوضاع الناس في البلاد المفتوحة وطرق إدارتها، حيث أصبح ذلك من ضرورات التنظيم والحكم.
ولهذا، برع العرب في وضع المعاجم الجغرافية والشؤون العمرانية، التي تميـزت مادتها باعتمادها على النظر والخبرة، وهذا ما جعلها مادة غنية من جهة المنهج الأنثروبولوجي في دراسة الثقافات الإنسانية.
فمنهم من تخصص في وصف إقليممعين مثل البيروني الذي أصدرَ كتاباً عن الهند بعنوان “تحرير ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة”. وصَفَ فيه المجتمع الهندي بما فيه من نظم دينية واجتماعية وأنماط ثقافية. واهتم أيضاً بمقارنة تلك النظم والسلوكيات الثقافية، بمثيلاتها عند اليونان والعرب والفرس. وأبـرز البيروني في هذا الكتاب، حقيقة أن الدين يؤدي الدور الرئيسي في تكبيل الحياة الهندية، وتوجيه سلوك الأفراد والجماعات، وصياغة القيم والمعتقدات.
ولا نستثني رحلات ابن بطوطة وكتاباته ذات الطابع الأنثروبولوجي، وخصائصها التي تمحورت في اهتمامه بالناس ووصف أشكال حياتهم اليومية، وطابع شخصياتهم وأصناف سلوكاتهم وقيمهم وتقاليدهم. أما عن ابن خلدون فقد اهتمَ بالحياة الاجتماعية لشعوب شمال أفريقيا، ولا سيما العادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية، إلى جانب بعض المحاولات النظرية لتفسير كلّ ما رآه من أنظمة اجتماعية مختلفة. وقد شكّلت موضوعات هذه المقدمة فيما بعد اهتماماً رئيسياً في الدراسات الأنثروبولوجية.
وبناءً على ما تقدم نستطيع القول: إن الفلاسفة والمفكّرين العرب كانت لهم إسهامات فعالة خلال العصور الوسطى في معالجة كثير من الظاهرات الاجتماعية ذات الصلة بالأنثروبولوجيا، ولا سيما التنوع الثقافي والحضاري بين الشعوب، سواء بدراسة خصائص ثقافة أو حضارة بـذاتها، أو بمقارنتها مع ثقافة أخرى مختلفة. ولكن على الرغم من اعتبارها مصادر للمادة الأثنوجرافية التي درست أسلوب الحياة في مجتمع معين وخلال فترة زمنية محددة، ولا سيما العادات والقيم وأنماط الحياة، فإن الأنثروبولوجيا التي تبلورت في أواخر القرن التاسع عشر كعلم جديد معترف به، لم تكن ذات صلة تذكر بهذه الدراسات، ولا بغيرها من الدراسات (اليونانية والرومانية) القديمة.