الاستقلالية في الفلسفة الأخلاقية

اقرأ في هذا المقال


مفهوم الاستقلالية هو مركزي في بعض الأطر الأخلاقية، سواء كنموذج للشخص الأخلاقي أي سمة الشخص التي بموجبها تلتزم بها أخلاقيًا، وكجانب من الأشخاص الذي يؤسس التزامات الآخرين تجاهه.

فلسفة الاستقلالية والكانطية:

بالنسبة للفيلسوف إيمانويل كانط فإنّ الفرض الذاتي للقانون الأخلاقي العالمي هو أساس كل من الالتزام الأخلاقي بشكل عام، كما أنّ الاحترام الذي يدين به الآخرون لنا ونحن مدينون لأنفسنا، وباختصار إنّ العقل العملي أي قدرتنا على استخدام الأسباب لاختيار أفعالنا يفترض مسبقًا أننا نفهم أنفسنا على أننا أحرار.

فالحرية تعني الافتقار إلى الحواجز التي تعترض عملنا والتي هي بأي شكل من الأشكال خارج إرادتنا، على الرغم من أنّها تتطلب أيضًا أن نستخدم قانونًا لتوجيه قراراتنا، وهو قانون لا يمكن أن يأتي إلينا إلّا بفعل إرادتنا، وهذا الفرض الذاتي للقانون الأخلاقي هو استقلالية، وبما أنّ هذا القانون يجب ألّا يحتوي على محتوى يقدمه الشعور أو الرغبة أو أي جانب عرضي آخر لوضعنا فيجب أن يكون عالميًا، ومن ثم لدينا الحتمية الفئوية، وأنّه بحكم كوننا مستقلين يجب علينا أن نتصرف فقط وفقًا لتلك المبادئ التي يمكننا القيام بها باستمرار كقانون عالمي.

وكذلك لأنّ الادعاء هو أنّ هذه القدرة (لفرض القانون الأخلاقي على أنفسنا) هي المصدر النهائي لكل قيمة أخلاقية، لأنّ تقييم أي شيء بشكل فعال أو جوهري يعني القدرة على إصدار أحكام قيمية بشكل عام أهمها تحديد ما هو ذو قيمة أخلاقية، وبعض المنظرين الذين ليسوا (موصوفين بأنفسهم) كانطون قد جعلوا هذا الاستنتاج مركزيًا لآرائهم حول الحكم الذاتي.

بول بنسون على سبيل المثال جادل بأنّ الاستقلالية تعني ضمناً مقياسًا لقيمة الذات من حيث أننا يجب أن نكون في وضع يمكننا من الوثوق بقدراتنا على اتخاذ القرار لوضع أنفسنا في موقع المسؤولية، ولكن الموقف الكانطي هو أنّ مثل هذا الاحترام للذات ليس حقيقة نفسية طارئة عنا، ولكنه تأثير ضمني لا مفر منه لممارسة العقل العملي.

لذلك نحن مدينون لأنفسنا بالاحترام الأخلاقي بحكم استقلاليتنا، ولكن بقدر ما لا تعتمد هذه القدرة بأي حال من الأحوال على أي شيء خاص أو مرتبط بأنفسنا، فنحن ندين بنفس الاحترام لجميع الأشخاص الآخرين بحكم قدرتهم، ومن ثم نحن ملزمون بالتصرف من منطلق الاحترام الأساسي للأشخاص الآخرين بحكم استقلاليتهم، وبهذه الطريقة تعمل الاستقلالية كنموذج للعقل العملي في تحديد الالتزام الأخلاقي وكميزة لأشخاص آخرين يستحقون الاحترام الأخلاقي منا.

فلسفة الاستقلالية بين فكر الكانطية وفكر كورسجارد:

لقد قللت المناقشات الأخيرة حول الاستقلال الذاتي الكانطي من أهمية الطبيعة المتسامية للعقل العملي في هذا الحساب، على سبيل المثال تتبع الفيلسوفة الأمريكية كريستين كورسجارد كانط في رؤية قدرتنا على التأمل الذاتي كموضوع للاحترام ومقعد المعياري بشكل عام، فمن وجهة نظرها نحن جميعًا نسترشد بما تسميه (الهوية العملية)، وهي وجهة نظر توجه التفكير في القيم وتظهر جانبًا من جوانب مفهومنا الذاتي، ولكن على عكس كانط ، تجادل كورسجارد بأنّ لدينا هويّات عملية مختلفة هي مصدر التزاماتنا المعيارية وليست جميعها ذات قيمة أخلاقية أساسية.

لكن أكثر هذه الهويات عمومية أي تلك التي تجعلنا أعضاء في مملكة الغايات هي هويتنا الأخلاقية، والتي تنتج واجبات والتزامات عالمية مستقلة عن العوامل الطارئة، فالاستقلالية هي مصدر جميع الالتزامات سواء كانت أخلاقية أو غير أخلاقية، لأنّها تمثل القدرة على أن نفرض على أنفسنا بحكم هويّاتنا العملية التزامات للتصرف.

نقد الفلسفة الكانطية في مفهوم الاستقلالية:

الانتقادات التقليدية للآراء الأخلاقية القائمة على الاستقلالية تأتي مثلًا من الطريقة التي تؤسس بها النظرية الأخلاقية القائمة على الاستقلالية وهي الالتزام في قدراتنا المعرفية وليس في عواطفنا واتصالاتنا العاطفية، فالادعاء هو أنّ الأخلاق الكانطية لا تترك مجالًا كبيرًا لأنواع ردود الفعل العاطفية التي تشكل استجابة أخلاقية في العديد من المواقف، ولكن فهم الاستقلالية بطريقة معرفية بحتة يجعل مثل هذا الحساب عرضة لهذا النوع من الرسوم.

تكمن الصعوبة التي يشير إليها هذا النقد في غموض الوصف الذاتي الذي قد نستخدمه في تقييم إنسانيتنا، أي قدرتنا على إلزام أنفسنا، لأننا نستطيع أن نفكر في قدراتنا على اتخاذ القرار ونقدر ذلك بشكل إيجابي وأساسي ولكن نعتبر أنّ الذات تشرك القدرة بطرق مختلفة.

النموذج الكانطي لمثل هذه الذات هو مدرك خالص أي عامل عاكس منخرط في العقل العملي، ولكن أيضًا تشاركنا في صنع القرار عواطفنا والرغبات والالتزامات المحسوسة وحواس الجذب والنفور والعزلة والراحة، وهذه هي موضوعات حكمنا وجزئيًا منها لتبني خيار بشغف يختلف عن اختياره ليكون الأفضل، فالحكم متورط مع كل هذه المشاعر عند اتخاذ القرارات.

ولا يجب فهم (الحكم) بمعزل عنهم ولكن كقدرة على الانخراط في تلك الأفعال التي نحشد دعمها العاطفي والمنطقي، لذلك عندما يكون القرار الأمثل بالنسبة لي قرارًا شغوفًا فيجب أن أقدّر قدرتي على الانخراط في المشاعر الصحيحة، وليس فقط في القدرة على التفكير والاختيار بقلب بارد، فإنّ وضع المشاعر خارج نطاق التفكير المنطقي باعتبارها مجرد صفة ثانوية للفعل أي للنظر في كيفية القيام بشيء لا مجرد ما نفعله هو اتخاذ نوع واحد من القرار.

إنّ وضع العواطف داخل هذا النطاق أي القول بأنّ ما يجب فعله الآن هو التصرف بتأثير أو شغف معين هو شيء آخر، وعندما نعمم من قدرتنا على اتخاذ النوع الأخير من القرارات، فيجب ألّا نقدّر فقط القدرة على موازنة الخيارات وتعميمها ولكن أيضًا القدرة على إشراك التأثير الصحيح والعاطفة وما إلى ذلك، لذلك نحن نقدّر أنفسنا والآخرين كمفكرين شغوفين وليس مجرد منطقيين في حد ذاته.

إنّ المعنى الضمني لهذه الملاحظة هو أنّه عند تعميم أحكامنا بالطريقة التي تقولها كورسجارد (بعد كانط)، فيجب علينا ألّا نلزم أنفسنا بتقدير القدرات المعرفية للبشرية فحسب بل أيضًا عناصرها الذاتية نسبيًا.

السؤال الثاني هو بما أنّ الانعكاس الذي ينطوي عليه الاستقلالية (والذي وفقًا لوجهة النظر هذه هو مصدر المعيارية) يحتاج فقط إلى انعكاس افتراضي على رغبات الفرد وقدراته العقلية، وعندها يطرح السؤال وهو تحت أي ظروف يكون هذا الانعكاس الافتراضي من المفترض أن يحدث؟

فإذا كانت القدرة على التفكير هي موضع الالتزام فيجب علينا أن نسأل ما إذا كانت الظروف التي يحدث فيها هذا الانعكاس الافتراضي مثالية بأي شكل من الأشكال أي إذا افترض أنّها معقولة على سبيل المثال، وهل نحن نفكر فقط في الانعكاسات التي قد يقوم بها الشخص الفعلي لو وجهت انتباهه إلى السؤال بغض النظر عن مدى عدم معقولية هذه الانعكاسات؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا نعتقد أنّ هذا أساس الالتزامات؟

إذا افترضنا أنّها معقولة فعندئذٍ في ظل بعض الظروف لا تفرض الذات الفعلية الالتزامات الأخلاقية، بل تفرضها الذات المثالية الأكثر عقلانية، وهذا يعني أنّ الأخلاق ليست مفروضة ذاتيًا حرفيًا إذا كانت الذات تعني المجموعة الفعلية من الأحكام الصادرة عن الفاعل المعني.

في الواقع يمكن للأفلاطوني أو الواقعي حول القيمة الأخلاقية أن يدّعي أنّ القيم الموضوعية التي وفقًا للنظرية تنطبق على جميع الفاعلين المستقلين عن الاختيار هي في الواقع مفروضة ذاتيًا بهذا المعنى المثالي، أي سيتم فرضها لو كان الشخص التفكير في الأمر والعمل كوكيل معقول تمامًا، وهذا يوضح الآثار المعقدة والتي يحتمل أن تكون إشكالية لهذا الغموض.

يشير هذا إلى مسألة ما إذا كان الاستقلال الذاتي يمكن أن يكون مقر الالتزام الأخلاقي والاحترام إذا تم تصور الاستقلالية بطريقة إجرائية بحتة، وإذا لم يتم تضمين أي التزامات جوهرية أو توجهات قيمة في المواصفات المفاهيمية للاستقلالية، فمن غير الواضح كيف تؤسس هذه القدرة لأي التزامات قيمة جوهرية معينة.

من ناحية أخرى إذا تضمنت الاستقلالية تحديدًا لقيم معينة في شروطها، أي أنّ الشخص المستقل يجب أن يقدّر حريته مثلًا، فعندئذٍ يتضح أنّ الالتزام الأخلاقي والاحترام لا يتعلق إلّا بتلك الملتزمة بالفعل بهذه الطريقة، وليس بشكل عام لجميع الوكلاء العقلانيين على هذا النحو، وهذا يردد بالطبع نقد هيجل لكانط.

تشير هذه الصعوبات إلى الغموض في الآراء الأخلاقية القائمة على الاستقلالية، والتي قد يتم توضيحها في مزيد من التطورات لتلك النظريات، كما أنّهم يلتقطون المشكلات التقليدية المتعلقة بالأخلاق الكانطية، وقبل ترك الفلسفة الأخلاقية يجب أن نأخذ في الاعتبار الآراء الأخلاقية التي تركز على الاستقلالية ولكنها لا تعتمد بشكل مباشر على إطار عمل كانط.


شارك المقالة: