الفلسفة اليونانية الشكية المبكرة

اقرأ في هذا المقال


طوَّر الفلاسفة اليونانيون الأوائل فروقًا بين الواقع والمظاهر والمعرفة والإيمان وغير الظاهر والظاهر، وتشكل هذه الفروق الإطار الذي يمكن من خلاله تصور الشك، حيث إنّ فكرة رؤية الحقيقة والمعرفة المكتسبة من منظور ما خارج الطرق العادية للحياة الفانية، وأنّ البشر يعتمدون على شيء أقل سواء كان ذلك سمعًا عن الشهرة أو العلامات أو المظاهر التي تمر عبر الكثير من الفكر اليوناني المبكر، ومع ذلك يبدو أنّ قلة من المفكرين اليونانيين الأوائل كانت لديهم ميول متشككة، وربما كان كزينوفانيس وديموقريطس أبرز الاستثناءات الظاهرة.

فلسفة الشك لدى كزينوفانيس:

قال البعض إنّ كزينوفانيس هو أب الشكوك، وقد تم اختياره وتعزيزه لاحقًا بواسطة هيراقليطس وبيرو، حيث يميل الدوغماتيون إلى طرح الحقيقة في العالم بينما يميل المشككون إلى وضع الحقيقة في الاعتبار، ويشار إلى هذا أيضًا باسم الشك النفسي: بمعنى الحقيقة تتشكل في العقل وليس فقط في العالم، وكما يقول نيتشه الذي يحب كزينوفانيس وهيراقليطس إنّه يجب علينا عدم الثقة في تزييف العالم من خلال القواعد والمنطق لتحقيق فهم أكبر لأنفسنا وعالمنا ودورنا في العالم.

اشتهر كزينوفانيس بإصراره على أنّ جميع مفاهيم الآلهة هي مجسمة ومترابطة ثقافيًا، ويصلّي الإثيوبيون للآلهة الذين يشبهون الإثيوبيين ويصلي التراقيون للآلهة الذين يشبهون التراقيين، وإذا كانت للخيول والأبقار أيدي فإنّ الخيول ترسم صورًا للآلهة تشبه الخيول وترسم الأبقار الآلهة كأبقار.

ويطرح كزينوفانيس عددًا من الأطروحات اللاهوتية الخاصة به، ولكنه يقول أنّه لن يعرف أحد الحقيقة الواضحة عن مثل هذه الأمور، كما إنّه يشير إلى نقطة ذات صلة دائمة في المناقشات حول التشكك، فحتى لو نجح شخص ما في قول شيء ما هو الحال بالفعل فإنّه هو نفسه لن يعرف ذلك، وهكذا كل شيء هو الإيمان.

فلسفة الشك لدى ديموقريطوس:

يقود المذهب الذري -وهو النظرية التي ازدهرت في العصور الهلنستية كنظرية فيزيائية للأبيقورية وبالتالي هي محاور الشك- إلى أسئلة معرفية صعبة، ويمكن للعلماء الذريين أن يجادلوا بأنّ الإدراك الحسي يمكن تفسيره على أنّه أحداث معقدة، وتبدأ من قبل كائنات تتكون كل منها من الكثير من الذرات التي تطفو في الفراغ، والتي تنطلق منها الذرات وتعبر الفضاء الفاصل وتؤثر على الحواس، حيث إنّها أشياء معينة تتكون من الذرات المنبثقة من الأشياء المعنية (الصور الغشائية) التي ندركها بالفعل، ونحن لا ندرك الواقع الحقيقي (الذرات والفراغ)، ولا حتى الأشياء العيانية وخصائصها (على سبيل المثال برج مربع).

يبدو أنّ ديموقريطوس قد جادل على هذا المنوال وبالتالي يمكن اعتبار رؤيته الذرية للإدراك بمثابة أسس لنوع من الشك البدائي، فيقول تلميذ ديموقريطوس ماترودوس من خيوس في بداية كتابه عن الطبيعة: “لا أحد منا يعرف أي شيء ولا حتى هذا سواء كنا نعرف أو لا نعرف، ولا نعرف ما هي عبارة (لا نعرف) أو (يجب أن نعرف)، ولا على العموم ما إذا كان أي شيء موجودًا أم لا”.

تعكس هذه الصيغة الوعي بحقيقة أنّ عبارة أبسط من تلك الواردة في شيشرون مثل: “لا توجد معرفة” يمكن أن تنقلب ضد نفسها، على وجه الخصوص يدرك ماترودوس الدور الذي يلعبه فهم المفاهيم في أي بيان من هذا القبيل، وهل يعرف مؤيدها شيئًا ما بمجرد فهم ما تشير إليه المصطلحات التي تستخدمها في فلسفتها؟ ويقدم سكستوس تصريح ماترودوس باعتباره مرتبطًا بفكرة غامضة ينسبها إلى فلاسفتين آخرين وهما الديموقراطي أناكسارهوس من أبديرا والوحده الساخره.

يقال إنّ كلاهما شبه الأشياء الموجودة بلوحة المسرح، وهذه المقارنة التي يلتقطها بيرنييت في العبارة الجذابة: “كل العالم عبارة عن لوحة مسرحية” وهي مفتوحة لمجموعة من التفسيرات، فبالنسبة إلى الوحده يجادل بيرنييت بأنّه من المحتمل أن يكون لها نتيجة أخلاقية على غرار “كل شيء هو الغرور”، ففي الفلسفة الديموقراطية وبقدر ما يتذكر الشك لاحقًا هذا القول فإنّه لا بد أن يكون اقتراحًا في نظرية المعرفة (أو ربما نظرية المعرفة والميتافيزيقيا).

فلسفة الشك لدى السفسطائية:

طور السفسطائيون في القرن الخامس أشكالًا من النقاش والتي هي أسلاف الجدل المتشكك، وإنّهم يفخرون بالمجادلة بطريقة مقنعة لكلا جانبي القضية، وبالمثل فإنّهم يطورون فنًا شجاعًا لدحض أي ادعاء يتم طرحه واستغلال مقدمات محاوريهم ودفعهم إلى التناقضات، وعلاوة على ذلك يهتم السفسطائيون بالتناقض بين الطبيعة والاتفاقية، وتمت مناقشة الأدوار التكوينية للعرف والقانون من قبل بعض المؤلفين اليونانيين الأوائل (وذلك عند وضع في الاعتبار أنّ: “قانون بندار ملك” وتفسيراته العديدة على سبيل المثال في هيرودوت).

يستكشف السفسطائيون فكرة أنّه إذا كانت الأشياء مختلفة بالنسبة للثقافات المختلفة فقد لا تكون هناك حقيقة حول كيفية وجود هذه الأشياء حقًا، وينخرط المشككون في كلتا ساقي التمييز بين الطبيعة والاتفاقية، وتوظف الشكوك البيرونية حجة مفادها أنّه إذا كان الشيء بطبيعته (F) فهو (F) للجميع (يؤثر على الجميع مثل (F))، وكما تربط البيرونية التقليد بالمظاهر بحيث يمكن للمتشكك من خلال التمسك بالمظاهر أن يعيش حياة عادية.

فلسفة الشك لدى سكستوس والشك البيروني:

إنّ التناقض بين الطبيعة والاتفاقية لا يظهر بشكل مهم في الشكوك القديمة، ولا توجد مدرسة متشككة من شأنها أن تحصر نفسها في الشك الأخلاقي أو الشك في القيم، فيؤكد الفيلسوف سكستوس إمبيريكوس الذي تقدم كتاباته أكثر الروايات تفصيلاً عن الشك البيروني على مدى قوة المشككين في الابتعاد عن جميع الفلاسفة الآخرين، وكما يعرضه فإنّ ما قبل سقراط الذين طرحوا بعض بعض الآراء هم ما يسميه دوغماتيون، ويقدمون ادعاءات حول الطبيعة والواقع والمعرفة وما إلى ذلك.

يقدم ديوجين لايرتيوس ثاني أكثر الروايات تفصيلاً عن الشكوك البيرونية في كتابه (حياة الفلاسفة البارزين)، ويحتوي على عدد كبير من الإشارات إلى الشعراء اليونانيين الأوائل وفلاسفة ما قبل سقراط مما يشير إلى أنّ هؤلاء المفكرين الأوائل يصوغون أفكارًا مشابهة للأفكار المتشككة، ومن المثير للجدل ما إذا كان المتشككون في ديوجين يدعون هذا الأصل، وبدلاً من ذلك قد يكون الفلاسفة الآخرون قد كلفوا المتشككين بمشاركة الأفكار مع المفكرين غير المتشككين وبالتالي الابتعاد عن نهجهم غير العقائدي.

في كلتا الحالتين هناك ملاحظتان تبدو ذات صلة، على عكس التقييم الكلاسيكي لتقرير ديوجين بواسطة جوناثان بارنز، فإنّ أقسام النص التي يتم فيها الربط بين الفكر اليوناني المبكر والشك قد تستحق الاستكشاف، وعلاوة على ذلك ربما لم يول العلماء اهتمامًا كبيرًا لأصول التشكيك في الشعر، ويبدو أنّ مؤسس الفلسفة الشكية البيرونية بيرو قد أشار إلى هوميروس كمؤيد للأفكار التي يوافق عليها والأفكار حول التغيير وحالة العقلانية واللغة البشرية وأكثر من ذلك.


شارك المقالة: