آخر ملوك الأسرة الخامسة الملك أوناس:
خاتم ملوك في الأسرة الخامسة هو الملك أوناس (أو ونيس)، الذي كان بعض المؤرخين الآن إلى يعتبروه أول ملوك الأسرة السادسة، لأنَّ سلطته قد ترابطات ببعض التعديلات الجوهرية، يُضاف إلى ذلك ما نعرفه عن وفاء الملك (تتي)، أول ملوك الأسرة السادسة له وإتمام ما لم يتمه من آثاره.
ولكن ذلك لا يكتفي لتعديل التقسيم القديم الذي أورده مانيتون، وإذا كان (تتي الأول)، قد أتم معبد أوناس فإن اسم أوناس نفسه قد عُثِرَ عليه في معبد زوجة إسيسي كما نعرف أيضاً أنَّ سنفرو وهو مؤسس الأسرة الرابعة قد أتم تشييد هرم آخر ملوك الأسرة الثالثة. وترجع شهرة أوناس إلى ذلك التجديد الذي أحدثه إذ أنَّ مجموعة النصوص الدينية الشهيرة باسم (نصوص الأهرام)، لم تكتب على جدران الحجرات الداخلية للأهرام قبل عصر أوناس وأصبحت منذ عهده تُكتب داخل أهرام الملوك بل وبعض الملكات، وقد أمدتنا بالكثير من المعلومات الهامة عن عقائد المصريين القدماء.
ويرتبط اسم أوناس وهرمه بشيء آخر. فقد أشرنا أكثر من مرة إلى تلك الطرق أو الممرات التي كانت توصل بين معبدي الهرم أو بين الوادي والمعبد الجنازي المشيد في الناحية الشرقية من الهرم ، وقلنا إنَّ تلك الطرق كانت مفتوحة للسماء في أول عهدها وربما أصبحت مسقوفة مُنذ عهد خوفو ونقشوا جدرانها الداخلية.
وقد تم العثور على بعض المناظر التي كانت في يوم من الأيام على جدران طرق خوفو وغيره من الملوك مستخدمة في تشييد هرم أمنمحات الأول في اللشت كما عثر أيضاً على بعض مناظر تلك الطرق في منطقة أبو صير، ولكن لم يحدث من قبل أنّ وجد جزء كبير من ذلك الطريق محفوظاً ومرسوماً كما ظهر في طريق أوناس عام (1938). كان هذا الطريق مسقوفاً بالأحجار وسقفه ملون كأنه سماء زرقاء زينتها النجوم، ويدخل إليه الضوء من كوات في السقف.
وتجمع رسومات جدرانه بين أوضاع مختلفة. فنرى بينها مناظر تُمثل أوناس يؤدي بعض الطقوس الدينية، بينما نرى مناظر أخرى تمثله وهو يقضي على أعدائه. ومن بين تلك المناظر ما يمثل الزراعة والحصاد في الفصول المختلفة، ومن بينهما مناظر الصيد في الصحراء أو في الماء أو في الحقول، كما نرى فيها أيضاً مناظر تُمثل بعض أعمدة المعبد وأعتابه المصنوعة من الجرانيت، وهي تُنقل فوق سفن على صفحة النيل.
ولم تقتصر تلك المناظر على ذلك بل أنَّ من بينها ما يُمثل بعض الأجانب الذين جاءوا إلى مصر، وبعض الذين أضرت بهم المجاعة وكادوا يُهلكون جوعاً. وفي تفاصيل المناظر كثير من المعلومات التي أضافت الكثير على ما نعرفه عن مصر في ذلك العهد، ونرجو أنّ يتم حفره وأنّ ينشر نشراً علمياً كاملاً في وقت قريب. وبالرغم من أننا نعرف الشيء الكثير عن أيام حكم (إسيسي)، وعن حكم (أوناس)، الذي بلغ ثلاثين عاماً ونعرف أيضاً الكثير عن حكم الملك (تتي الأول)، فإنا لا نجد في تاريخ تلك الحقبة ما يمكن أنّ نقول عنه إنه كان سبباً لتغيير الأسرة، وربما كان المستقبل كفيلاً بإظهار ذلك.
وهناك رأي نادى به بعض المشتغلين بالآثار وهو أنَّ (أوناس)، لم يكن آخر ملوك الأسرة الخامسة ولكنه مؤسس الأسرة السادسة وأول ملوكها. وما من شك في أنَّ مُدة حكم أوناس تميزت بكثير من التغييرات في أكثر من ناحية ولكن ذلك كله لا يكفي لإثبات أنه كان مؤسس الأسرة السادسة، بل من الأفضل اعتباره من الأسرة الخامسة. تولت الأسرة الخامسة عرش البلاد بعد فترة اضطراب وصراع بين أفراد البيت المالك في الأسرة الرابعة من ناحية، وبين ملوك هذه الأسرة في النصف الثاني من حكمها وبين كهنة رع من ناحية أخرى، أولئك الكهنة الذين أخذ نفوذهم يزداد وأصبحوا خطراً على سلطة الملك.
واكتفى ذلك النزاع بتأسيس أسرة مالكة جديدة وثيقة الصلة بكهنة الشمس فشيدت المعابد المختلفة لرع والآلهة المتصلين به، وأغدقوا العطايا والهبات والأوقاف والامتيازات على المعابد وكهنتها فماذا كانت النتيجة؟. لقد ازداد الكهنة نفوذاً وقوة ولم يعد للملك ما كان له من سلطان ونفوذ وأخذ كبار الموظفين يزدادون ثراء فهل تأصلت عبادة الشمس في نفوس الناس وأصبحت وحدها في البلاد؟. والجواب على ذلك واضح وصريح فقد ضعف نفوذ الملك، وإنّ ظلت عبادة الشمس كما هي أي الديانة الرسمية للبيت المالك، إلا أننا نُلاحظ أنه أخذت تظهر عليها عقيدة أخرى، وهي عقيدة أوزيريس التي كانت قريبة من مدارك الناس.
كان المستقبل الجميل في الحياة الأخرى، حسب عقيدة الشمس، يكتفي على الثراء والنفوذ. فكان الملك المتوفى يُدفن في قبر فخم ويبني المعابد، وكان يركب سفينته ليسير وراء سفينة الشمس في الليل والنهار وينعم بالنور والضياء. وكان عليه أن يحفظ الكثير من التعاويذ التي كان في حاجة إليها إذا أراد السلامة والاهتداء في العالم الآخر. وكان المحيطون بالملك يرجون أنّ يكونوا معه يخدمونه في الآخرة كما خدموه في الدنيا، وكانوا يبنون المقابر الفخمة ويحبسون عليها الأرض للإنفاق عليه وتقديم القرابين، ولكن ما هو مصير العامة والفقراء من الناس (وهم الغالبية العُظمى للشعب)، الذين لم تكن تربطهم بالملك ورجال بلاطه والأثرياء من الحكام رابطة مباشرة؟.
كان الأغنياء لديهم الثقة الكافية من نهايتهم السعيدة، لأنهم كانوا أثرياء وفي صحبة الملك ويستطيعون أيضاً الاتفاق مع الكهنة للصلاة على أرواحهم وتقديم القرابين لهم في أوقات معينة، ولكن ماذا يفعل الفقراء؟. كان الناس في حاجة إلى دين يقول بمكافأة المحسن الطيب القلب الذي لا يفعل السوء دون نظر إلى فقره أو غناه، وقد وجدوا ذلك في تلك العقيدة القديمة التي عرفها المصريون منذ أيام الأسرة الأولى بل وقبل ذلك ولكن لم يكن لها النصر والانتشار إلا في أيام الأسرة الخامسة.
الحاكم العادل أوزير:
كان أوزير (أو أوزيريس) يمثل الحاكم العادل الذي صرعته عوامل الشر والحسد ممثلة في أخيه (ست)، ولكن وفاء زوجته إيزيس التي خرجت تبحث عن جثته تارة وتجمع أشلاءه تارة أخرى، وبكاءها عليه واستدرار عطف الآلهة جعل منه ملكاً للأموات. وقامت إيزيس مرة أخرى تطالب بحق ابنها (حورس)، الذي حملت به من روح أوزيريس بعد موته، فلقيت ما لقيت من (ست)، واتهامه لها، ثم برأتها الالهة التي كانت تعرف الحقيقة، ومع ذلك فقد قامت الحرب بين ست وحورس حتى انتصر ابن أوزيريس وجلس على عرش أبيه وبذلك انتصر الحق على الباطل.
ولم يكن أوزيريس العادل الرحيم وهو حاكم في دنيا الأموات يهتم إلا بالحق والعدل ولا يرتاح بجنته إلا من تطهر قلبه وحَسُنت سريرته ونواياه وابتعد عن أذى الناس. لا يُفرق بين غني وفقير. كان كل إنسان يُلاقي ما فعله حاضراً. وكانت الجنة لمن أحسن واتقى ولم يظلم الناس أو يأتي بخائنة، والعذاب والجحيم لمن سولت له نفسه عمل السوء لا تشفع له أمواله أو صلوات كاهن، أو قرابين يُقدمها أهله وذووه.
لقد اكتشف الناس في تلك العقيدة صدى لِمَا في النفس البشرية فأقبلوا عليها، بل أنَّ الملوك أنفسهم منذ أيام الأسرة الخامسة كانوا يلقبون أنفسهم باسم أوزيريس ثم أصبح استخدام اسم أوزيريس عاماً لكل فرد قبل أن يمضي وقت طويل، ولكن هذا النصر لأوزيريس لم ينل كثيراً من عقيدة الشمس في مظهر الدولة إذ ظل لقب (ابن الشمس)، الذي استخدمه بعض ملوك الأسرة الرابعة وأصبح عاماً منذ الأسرة الخامسة لقباً أساسياً حتى آخر أيام التاريخ المصري.
كما ظلوا يعتقدون إلى الجالس على عرش مصر إلهاً تجسد فيه حورس. وكان الكهنة المصريون كعادتهم حصيفين، فإذا رأوه إلهاً من الآلهة يعلو نجمه لسبب من الأسباب، أسرعوا في وضع القصص والأساطير التي يربطون فيها بين ذلك الإله وبين الآلهة المختلفة، وبخاصة الآلهة الرئيسية، ولهذا لا يُدهشنا إذا رأيناهم يضعون قصصاً يربطون فيها بين رع وبين حورس وبين أوزيريس وغيرهم من الآلهة، ولم تجد طبيعة التسامح المتأصلة في طبيعة النفس المصرية ما ينفر المصريين من قبول ذلك.
كانت أيام الأسرة الخامسة من الأيام المهمة في التاريخ المصري، شهدت تطوراً كبيراً في العقيدة كما شهدت تطوراً في مركز الملكية وبدأ يعظم فيها نفوذ أعيان البلاد ويزداد، حتى أصبحوا لا يخشون الجالس على العرش. ورأينا فيها ازدياد شأن عقيدة أوزيريس التي كان يتساوى فيها الناس ولا تفرق بينهم ثروة أو فوارق اجتماعية.
وعلى جدران قبور تلك الأسرة وأوائل الأسرة السادسة نستطيع أنّ نشاهد الكثير من المناظر التي تُمثل حياة الشعب، نرى فيها صاحب القبر يشرف أحياناً على حقوله التي يعمل فيها رجاله ومرة نراه يجلس بين أسرته وأصدقائه يستمع إلى عزف الموسيقى وغناء المغنين ويمتع طرفه برقص الراقصات. ونرى الصُنّاع وهم يعملون في الحرف المختلفة فهنا النجارون وهناك الصياغ وعلى مقربة منهم صانعو الأواني، وعلى مسافة قريبة نرى بنّائي السفن وغيرهم.
ونشاهد الأتباع وهم يحضرون الأزهار والهدايا المختلفة، ونرى الكهنة وهم يقومون ببعض الطقوس الدينية، ننظر إليها كلها فنحس كأننا نعيش بين القدماء ننظر إلى ملابسهم وحليهم ونتأمل في محصولات حقولهم وحدائقهم، ننظر إلى الطيور والحيوانات التي كانوا يربونها، ونقف طويلاً أمام الأسماك السابحة في المياه وإلى حيوانات الصحراء التي خرجوا لصيدها، نراها كلها وقد أبدع الفنان المصري في رسمها فإن أصحابها أرادوا تصويرها على مقابرهم لتأنس أرواحهم بما كانوا يرونه في دنياهم وما أرادوا أيضاً أنّ يكون لهم في آخرتهم.
وقد تميزوا بالصناعة، فلولاها لما عرفنا الحياة في مصر القديمة كما نعرفها الآن. ولم يترك المصريون تلك المناظر دون شرح قليل فنراهم قد كتبوا إلى جانبها ما يفسرها لنا، وكثيراً ما نقرأ النكات التي كان يتبادلها الصناع أو العاملون في الحقل وكلها تنبىء عن ميل أصيل للمرح، وحب الفكاهة.