حرب الدولة العباسية مع الدولة البيزنطية:
اهتم الخليفة الرشيد بتنظيم الحدود مع البيزنطيين، وتحصينها، ففي عام (170 هجري)، قسّم الثغور إلى خطين للدفاع، الخط الجنوبي من الثغور في جبهة الشام (الثغور الشامية)، وسمّاها (العواصم)، وجعلها منطقة عسكرية مستقلة على شكل حصون عسكرية ما بين حلب وأنطاكية، وقاعدتها منبج، واهتم كذلك في تحصينها، واهتم الرشيد أيضاً بتحصين مدن (العواصم)، فأمر بتحصين مدينة طرسوس، وأسكن فيها ثلاثة آلاف مقاتل كدفعة أولى، ثم ألفين من أهل المصيصة وأنطاكية، وأعطى زيادة في رواتبهم بلغت عشرة دنانير.
ثم وزّع عليهم الأراضي لغرض السكن والإقامة فيها بصورة مستمرة، وفي عام (180 هجري)، قام الرشيد ببناء مدينة (عين زرية)، وتحصينها، وبعد ثلاث سنوات بنى (الهارونية)، والكنيسة السوداء وحصنها، ووزع على المقاتلة الأراضي للسكن فيها بصورة دائمة. وخط الدفاع الشمالي من الثغور هو الثغور الجزرية، واهتم الرشيد به أيضأ، فأعاد بناء مدينة الحدث، وزاد تحصين زيطرة، وشحنها بالمقاتلة، ووزع الأراضي عليهم. اهتم الخليفة الرشيد بالحملات على البيزنطيين، فكانت المناوشات تحدث في كل عام تقريباً، يتخللها أحياناً اتفاقيات لتبادل الأسرى، وكانت أهم تلك الحملات هي الحملتان اللتان قادهما الخليفة الرشيد بنفسه.
ففي عام (181 هجري)، قاد الرشيد حملة عسكرية عن طريق المصيصة، كانت نتائجها الاستيلاء على حصن الصفصاف، واستولى عبد الملك ابن صالح (والي الجزيرة)، على (مطمورة)، ووصلت قواته إلى أنقرة، ولن يكن هُناك رد فعل من قبل البيزنطيين، وذلك لحصول اضطرابات داخلية كانت من نتائجها خلع الإمبراطور قسطنطين بعد أن سملت عيناه واعتلت أمه (إيريني)، العرش باسم (أغسطة).
إلا أن القائد نقفور استطاع من تنحية إيريني واعتلى العرش البيزنطي وذلك في أوائل عام (187 هجري)، وقد استغل القاسم بن الرشيد فرصة حدوث تلك الاضطرابات وبصفته والياً على العواصم، حيث عيّن حديثاً، فهاجم حصني قرة وسنان وحاصرهما، لكن ظروف هذه الحملة لم تكن جيدة، فاضطر الأمير القاسم إلى قبول عرض البيزنطيين بتسليم (320) أسيراً، فرحل عن الحصنين.
وفي عام (190 هجري)، هاجم البيزنطيون عين زربة والكنيسة السوداء. فعاثوا فيهما فساداً، وبذلك نقضوا معاهدة الصلح مع العرب، مما دعا الخليفة الرشيد إلى قيادة حملة كبيرة ووصل طوانة فعسكر بها، ووجه عبد الله بن خزيمة إلى حصن الصفصفاف، فهدمه، وحاصر عبد الله بن مالك حصن (ذي الكلاع)، ثم توجه الرشيد إلى هرقلة، وسيطر عليها، وأخذ ألفين وسبعمائة أسيراً.
وافتتح بعض القواد حصن الصقالبة وبعض المطامير، وقد اضطر (نقفور)، إمبراطور الروم إلى قبول الصلح على أن يدفع أموالاً ضخمة للخليفة على سبيل الجزية عن رأسه ورأس ابنه، لكن قبل أن تنقضي السنة نقض نقفور الصلح، فأمر الرشيد بترميم الحصون استعداداً لمفاجئات الإمبراطور البيزنطي، وفي العالم التالي كانت مناوشات على الجبهة دون نتيجة تذكر، وفي عام (193 هجري)، كان تبادل الأسرى بين الطرفين.
استمر الهدوء على الحدود منذ الحرب الأهلية وحتى عام (215 هجري)، ويعود السبب إلى الاضطرابات الداخلية في كل من الدولتين، ونظراً لتحالف بابك الخرمي مع إمبراطور الروم البيزنطيين، وعدم استطاعة الخليفة المأمون من دحر الحركة البابكية بعد هزيمة القوات العباسية عام (214 هجري)، نظم المأمون حملة بقيادته عام (215 هجري)، لمهاجمة الحدود البيزنطية فاستولى على حصن (قرة)، وتهديمه، وحصني سندس وسنان، وفي العام التالي رد إمبراطور البيزنطيين على الهجوم، فهاجم طرسوس والمصيصة وقتل مجموعة من سكانها.
فكان رد الخليفة المأمون عنيفاً، فاستسلمت هرقلة من غير قتال، واستولى الأمير أبو إسحاق (المعتصم)، على ثلاثين حصناً أما العباس ابن الخليفة فإنه استطاع إلحاق الهزيمة بقوات الإمبراطور، مما اضطر الإمبراطور إلى طلب عقد هدنة، وإعادة الحصون المستولى عليها وإطلاق سراح الأسرى وأن يدفع تعويضات، إلا أنَّ الخليفة رفض هذا العرض.
وفي عام (217 هجري)، هاجم الخليفة الحدود مجدداً، وحاصر حصن لؤلؤة لمائة يوم، ولم يستطع احتلاله، فبنى حوله حصنين مما أدى إلى استسلامهم، وكانت خطة الخليفة المأمون احتلال عمورية ومن ثم غزو القسطنطينية، فأمر ابنه العباس بتحصين (طوانة)، وطلب تجنيد مقاتلين من الأقاليم العربية القريبة، إلا أنَّ وفاته حالت دون تنفيذ الخطة، لأن الخليفة الجديد أبي إسحاق (المعتصم)، فضل مواجهة الحركة البابكية لتأمين الجبهة الداخلية ومن ثم مواجهة الروم البيزنطيين.
فضلاً عن رغبة الإمبراطور البيزنطية في هدوء الجبهة أيضاً، بسبب معاناته من تردي الأوضاع العسكرية في صقلية، ومع ذلك فإن الإمبراطور استقبل الهاربين من خرمية الجبال بعد معركة عام (218 هجري)، وجندهم وزوجهم، يقول الطبري: (وكان ملك الروم قد فرض لهم وزوجهم وصيرهم مقاتلة يستعين بهم في أهم أموره إليه.
إن اهتمام الخلافة العباسية بالحركة البابكية، وتضييق القوات العباسية الخناق على البابكيين، وحصار قلعتهم حمل بابك على الاتصال بالإمبراطور البيزنطي برسالة يقول فيها: (إنَّ ملك العرب قد وجه عساكره ومقاتليه إليه (يعني بابك)، فإنّ أردت الخروج إليه فاعلم أنه ليس في وجهك أحد يمنعك). وكان يرمي إلى تخفيف ضغط القوات العباسية عليه، فهاجم الإمبراطور (زبطرة)، الواقعة على الجبهة الشمالية وذلك عام (222 هجري)، قبل سقوط قلعة (البذ) بيد القوات العباسية، وربما كان هدفه التالي فتح ثغرة كبيرة باتجاه أرمينية ومن ثم الوصول إلى أذربيجان، فهاجم قاليقلا وأرسل ممثلين عنه إلى أقاليم أرمينية وطالبوا سكانها بأداء الضرائب.
وقد مثل الإمبراطور بمن صار بيده من الأسرى فسمل أعينهم وقطع أنوفهن وآذانهم، ثم هاجم الإمبراطور شمشاط واستولى عليها وأحرقها، وكان تعداد الجيش الإمبراطوري مائة ألف مُقاتل من ضمنهم الخرمية والبلغار والصقالبة، وعاد الإمبراطور إلى مقره مُحتفلاً بهذا النصر، وكان رد الفعل لدى أهالي الثغور كبيراً فخرجوا إلى المعتصم صارخين، واستغاثوا في المساجد والديار، أما موقف الخليفة المعتصم فكان التريث في الرد على ما فعله البيزنطيون في زبطرة وشمشاط لحين إنهاء الحركة البابكية، خصوصاً وأنَّ القوات العباسية بدأت في إحراز انتصارات رائعة سريعة ضد الحركة، ومع ذلك أرسل الخليفة القائد عجيف بن عنيسة مع بعض القادة لترميم حصن زبطرة وشجعوا سكانها الهاربين إلى العودة إليها والاطمئنان فيها، كما بنوا أربعة حصون أخرى قريبة من زبطرة.
فتح عمورية:
اشتدت الرغبة لدى الخليفة المعتصم في القيام بهجوم مضاد على الحدود البيزنطية، انتقاماً لِمَا حدث من قتل وأسر وحرق وتمثيل، وتذكر رواية أنَّ عم الخليفة إيراهيم ابن المهدي أنشده قصيدة طويلة يحثه فيها على الجهاد منها قوله: (يا غارة الله قد عاينت فانتهكي هتك النساء وما منهن يرتكب هب الرجال على إجرامها قتلت ما بال أطفالها بالذبح تنتهب)، وفي أول عام (223 هجري)، قام الإمبراطور بهجوم جديد على (ملطية)، واستولى عليها بدون قتال، وأطلق سراح جميع الأسرى الروم الذين كانوا فيها.
وبعد أن ألقي القبض على بباك الخرمي وإعدامه، أصبحت الظلروف مواتية للقيام بالحملة على الجبهة البيزنطية، أعلن الخليفة النفير في داره، ونصب الأعلام على الجسر ونودي في الأمصار بالنفير والسير مع أمير المؤمنين، فسارت إليه العساكر المطوعة، ويؤكد الطبري خروج أهل الثغور كلهم إلا من لم يكن عنده سلاح ووضع العطاء لهذا الغرض. لقد كانت استعدادات الخليفة لهذه الحملة كبيرة، يقول الطبري: (وتجهز جهازاً لم يجهز مثله قبله خليفة قط). وكانت خطة الخليفة هي الهجوم على أنقرة وعمورية، ومن ثم التحرك نحو القسطنطينية لفتحها.
تحرك الخليفة من سامراء في جمادى الأولى من عام (223 هجري)، أول نيسان مع قواده، وعسكر في الموصل ثم تحرك إلى (سروج)، حيث اتخذها قاعدة، بعد ذلك تحرك نحو الجبهة فقسم الجيش إلى قسمين الأول بقيادة الأفشين، واتخذ طريق (درب الحدث)، والثاني بقيادة الخليفة واتخذ طريق (درب السلامة)، وكانت الخطة الوصول إلى أنقرة والخطة كانت من الدقة بحيث حدد الخليفة يوم معيناً للجيش الأول للالتقاء به في أنقرة.
علم الإمبراطور البيزنطي بتحرك الجيش العباسي، فتحرك من القسطنطينية، وأمر بتحصين عمورية، وعهد بحمايتها إلى قائده (إينيوس)، وتحرك بجيشه نحو الجيش الأول الذي قيادة الأفشين، فنشبت معركة كان انتصار الجيش العباسي كبيراً، وهرب الإمبراطور نحو (نيفية)، وكان عدد قتلى الروم أربعة آلاف قتيل.
التقى الجيش العباسي الأول بالجيش العباسي الثاني في أنقرة حيث أمر الخليفة يتهديمها، وبقي الخليفة أياماً في أنقرة استعداداً للهجوم على عمورية، وأعاد ترتيب قواته وتحرك نحوها وحاصرها في رمضان من عام (223 هجري)، كانت عمورية حصنا قوياً منيعاً يُحيط بها سور يزيد من مناعتها ما يقع عليه من أبراج، ويحيط بها أيضاً خندق واسع.
بدأ الهجوم برمي الأحجار الضخمة باستعمال المنجنيق على الجيش العباسي، لذلك اتخذ الخليفة عدة إجراءات عسكرية فيها الكثير من الابتكار منها بناء المنجنيقات الكبار، يديرها أربعة رجال، وجعلها على منصات محمولة على عجلات، وضع دبابات كباراً تسع كل دبابة عشرة رجال، ثم اتخذ العدة لطم الخندق، بطرح جلود محشوة ترابا، حتى تستوي الأرض وقد نبه الخليفة إلى ناحية من السور ضعيفة التحصين، فركز الخليفة على هذه الناحية، فجمع المنجنيقات اتجاهها، وأمرهم برميها رمياً مركزاً حتى لشدة اهتمامه بهذه الثغرة أنّ جعل مقره أمامها، وقد انصدع السور نتيجة رمي الأحجار عليه بالرغم من المحاولات الكثيرة من الروم لترميمه بالخشب والجير.
وبعد عدة هجمات على السور نجح الجيش العباسي من اختراق السور واحتلال المدينة وأسر القائد البيزنطي إينيوس مع عدد كبير من الأسرى، ثم أمر الخليفة بإحراق المدينة انتقاماً لِمَا فعله الإمبراطور من إحراق زبطرة. عاد الجيش العباسي إلى سامراء بعد هذا الانتصار الكبير، وصرف الخليفة النظر عن مشروعه في مهاجمة القسطنطينية، بسبب اكتشاف مؤامرة داخل الجيش استهدفت حياته.
يُعد انتصار عمورية، نقطة تحول في السياسة الخارجية للدولة العباسية حيث اكتفى الطرفان بعدها بعقد هدنة غير رسمية، وتوقفت الأعمال الحربية لسنوات عديدة، وربما عادت المناوشات المحدودة على الحدود ولم تتجاوزههما وتم تبادل الأسرى عام (231 هجري)، على عهد الخليفة الواثق بن المعتصم.