الفلسفة المعرفية لبوذا والمسألة التجريبية

اقرأ في هذا المقال


بالنسبة للمفكرين البوذيين يجب أن تساعد الفلسفة المرء في القضاء على المعاناة والحصول على السعادة، ويؤكدون أنّه لتحقيق هذه الغايات يجب على المرء أن يقضي على الجهل (avidyā)، وهو عيب عقلي أساسي هو السبب الأساسي للمعاناة، وعلى الرغم من أنّ الجهل المفسر بأشكال مختلفة ينطوي حتمًا على الاعتقاد الخاطئ بأنّ جوهرًا شخصيًا ثابتًا وغير متغير يكمن في جوهر هوية كل شخص.

تفسيرات نصيحة بوذا لأهل الكالاما:

فسر البعض نصيحة بوذا لشعب الكالاما على أنّها رفض للأيقونات الأيقونية للتقاليد والإيمان، ومع ذلك فإنّ هذا لا ينصف بالي نيكاياس حيث يُقال إنّ بوذا جزء من تقليد طويل ومحترم لبوذا الماضي وحيث يُثني البراهمة الأوائل أحيانًا على قداستهم، ويُظهر بوذا الاحترام للعديد من المعتقدات والممارسات التقليدية في عصره، ويرفض فقط تلك المعتقدات والممارسات غير المبررة أو غير المجدية أو التي تؤدي إلى معاناة الذات والآخرين.

يحظى الإيمان بوذا وتعاليمه وتلاميذه بتقدير كبير في بالي نيكاياس حيث إنّه أول عوامل الكفاح الخمسة، وشرط ضروري لممارسة المسار الروحي، ومع ذلك فإنّ الإيمان البوذي ليس غير مشروط أو غاية في حد ذاته، ولكنه وسيلة نحو المعرفة المباشرة التي يجب أن تستند إلى الفحص النقدي مدعومًا بالأسباب، وفي النهاية يتم التحقق منها أو تأصيلها في الرؤية.

تفسير آخر شائع للنصيحة إلى الكالاما هو أنّ التجربة الشخصية فقط لبوذا من بالي نيكاياس توفر معرفة موثوقة، ومع ذلك يعد هذا مضللًا لأنّ الاستدلال القياسي والاستنتاجي يستخدم على نطاق واسع من قبل بوذا وتلاميذه لتعليم الآخرين وكذلك في المناقشات مع غير البوذيين، وبالمثل فإنّ التأمل التحليلي أو الفلسفي هو ممارسة شائعة لتحقيق التحرير من خلال الحكمة، ويجب فحص التجربة الشخصية مثل أي وسيلة أخرى من وسائل المعرفة بشكل نقدي، وباستثناء حالة تماثيل بوذا والكائنات المتحررة فإنّ التجربة الشخصية دائمًا ما تكون ملوثة بالأفكار المسبقة العاطفية والمعرفية.

قد يعطي بالي نيكاياس الانطباع الأول بتأييد شكل من أشكال الواقعية الساذجة أو المباشرة، أي يبدو أنّ بوذا وتلاميذه يعتقدون أنّ العالم تمامًا كما نتصور، في حين أنّه من الصحيح أنّ بالي نيكاياس لا تشكك في علاقة الحس السليم بين كائنات المعرفة والعالم الخارجي، إلّا أنّ هناك بعض النصوص التي قد تدعم القراءة الظاهراتية، على سبيل المثال يعرّف بوذا العالم على أنّه الحواس الست (خمس حواس عادية بالإضافة إلى العقل) والأشياء الخاصة بكل منها أو الحواس الست والأشياء الستة وأنواع الوعي الستة التي تنشأ في الاعتماد عليهم.

هنا تعتبر نظرية المعرفة لبوذا شكلًا خاصًا من الواقعية يسمح لكل من الإدراك المباشر للواقع وبناء من هم أقل إدراكًا، وفقط بوذا والكائنات المحررة هم الذين يدركون العالم مباشرة، أي أنّهم يرون الدارما التي يظل انتظامها واستقرارها مستقلين عن وجود بوذا، ومن ناحية أخرى ترى الكائنات غير المستنيرة العالم بشكل غير مباشر من خلال حجاب من المشاعر السلبية والآراء الخاطئة، وتذهب بعض النصوص إلى أبعد من ذلك لتلمح إلى أنّ العالم لا يُنظر إليه بشكل غير مباشر فحسب بل إنّه مبني حرفيًا عن طريق تصرفاتنا العاطفية.

على سبيل المثال في ماججيما نيكايا يذكر بوذا صراحة أنّ: “ما يشعر به المرء يدركه”، أي أنّ معرفتنا تتشكل من مشاعرنا، ويمكن أيضًا الاستدلال على تأثير المشاعر في طرق معرفتنا من السلسلة المكونة من اثني عشر رابطًا للنشوء التابع والذي يفسر نشوء المعاناة وتوقفها، والرابط الثاني أو الصهارة يشترط نشوء الحلقة الثالثة الوعي، وتعني كلمة صحراء حرفياً (مجتمعة)، مما يشير إلى الدور البناء للعوامل العقلية التي تندرج في هذه الفئة وكثير منها ذات طبيعة عاطفية.

وبالمثل يقول بوذا في بالي نيكاياس أنّه: “بما أنشأه المرء عقليًا باعتباره السبب الجذري، فإنّ التصورات والمفاهيم والمزيد من التركيبات العقلية تحاصر الرجل فيما يتعلق بالماضي والمستقبل، والأشكال الحالية والأصوات والروائح والنكهات والملموسات والأشياء الذهنية التي يمكن التعرف عليها بالعين والأذن والأنف واللسان والجسد والعقل”.

وهذا يعني أنّ معرفة الكائنات غير المستنيرة لها بابانكا (papañca) أو التركيبات العقلية كسبب جذري لها، وكلمة بابانكا هي مصطلح تقني يعني حرفيًا التنويع أو الانتشار حيث يشير إلى ميل العقول غير المستنيرة إلى بناء أو اختلاق مفاهيم تؤدي إلى المعاناة، وخاصة المفاهيم الجوهرية والمتعلقة بالأنا مثل مفاهيم (أنا) و(ملكي) والتي تؤدي إلى مجموعة متنوعة من الحالات العقلية السلبية مثل الرغبة والغرور ووجهات نظر عقائدية عن الذات.

ولأنّ تجاربنا على وجه التحديد مشروطة بشكل فعال ومعرفي فإنّ بوذا في بالي نيكاياس يدعو إلى اتباع نهج نقدي تجاه جميع مصادر المعرفة بما في ذلك الخبرة الشخصية، وحتى التجارب السامية المستمدة من التأمل يجب تحليلها بعناية لأنّها قد تؤدي إلى آراء خاطئة حول طبيعة الذات والعالم والحياة الآخرة، والمثالية المعرفية هي معرفة الأشياء التي تتجاوز التركيبات العقلية مباشرة والتي تفترض مسبقًا تهدئة جميع التكوينات العقلية.

المعرفة العليا ومسألة التجريبية:

التجارب التأملية من نوعين رئيسيين وهما:

1- الاستيعاب التأملي أو التجريد (jhāna).

2- المعرفة العليا أو المباشرة (abhiñā).

فئات المعرفة العليا:

وهناك ست فئات من المعرفة العليا أو المباشرة:

1- الأول يشير إلى مجموعة متنوعة من القوى الخارقة بما في ذلك التحليق والمشي على الماء، وفي هذا المعنى يُفهم بشكل أفضل على أنّه نوع من المعرفة الفنية.

2- المعرفة العليا الثانية تسمى حرفيًا عنصر الأذن الإلهي أو (clairaudience)، والتي عادةً ما تُترجم المعرفة العليا الثالثة على أنّها التخاطر، على الرغم من أنّها تعني ببساطة القدرة على معرفة الحالة العقلية الأساسية للآخرين وليس قراءة عقولهم وأفكارهم.

3- الأنواع الثلاثة التالية من المعرفة العليا مهمة بشكل خاص لأنّها اختبرتها بوذا في ليلة تنويره، ولأنّها النظراء البوذيون للمعرفة الثلاثية للفيدا.

4- المعرفة العليا الرابعة هي المعرفة السابقة أو معرفة الحياة الماضية والتي تستلزم خبرة مباشرة في عملية إعادة الميلاد.

5- الخامس هو العين الإلهية أو الاستبصار، أي التجربة المباشرة لعملية الكارما أو كما عبرت عنها النصوص رحيل الكائنات وإعادة ظهورها وفقًا لأفعالهم السابقة.

6- السادس هو معرفة تدمير الأوساخ وهو ما يعني المعرفة التجريبية للحقائق الأربع النبيلة وعملية التحرير.

فسر بعض العلماء تأكيد بوذا على التجربة المباشرة والطبيعة التي يمكن إثباتها للإيمان البوذي كشكل من أشكال التجريبية الراديكالية والتجريبية المنطقية، ووفقًا للتفسير التجريبي فإنّ الإيمان البوذي دائمًا ما يكون لاحقًا للتحقق النقدي من الأدلة التجريبية المتاحة، ويمكن التحقق من جميع المذاهب التي يدرسها بوذا تجريبياً إذا استغرق المرء الوقت والجهد للوصول إلى معرفة أعلى أو مباشرة تُفسَّر على أنّها تجربة حسية غير عادية.

على سبيل المثال تتضمن المعرفة الثلاثية للتنوير خبرة مباشرة في عمليات الكارما والولادة والحقائق الأربع النبيلة، وتشير انتقادات التفسير التجريبي إلى أنّه على الأقل في بداية المسار لا يعتمد الإيمان البوذي دائمًا على الأدلة التجريبية، وأنّ الغرض من المعرفة غير العادية ليس التحقق من مذاهب الكارما والولادة الجديدة والنبلاء الأربعة حقائق.

يعتمد ما إذا كان يمكن اعتبار نظرية المعرفة لبوذا تجريبية أم لا على ما نعنيه بالتجريبية والخبرة، وإنّ التعارض بين العقلانية والتجريبية والتمييز الحاد بين الحواس والعقل غريب عن البوذية، ولا يقول بوذا في أي مكان في بالي نيكاياس أنّ كل المعرفة تبدأ أو تُكتسب من التجربة الحسية، وبهذا المعنى فإنّ بوذا ليس تجريبيًا.


شارك المقالة: