الفيلسوف ثيودور أدورنو

اقرأ في هذا المقال


كان ثيودور أدورنو أحد أبرز فلاسفة القرن العشرين، وعلى الرغم من أنّه كتب عن مجموعة واسعة من الموضوعات إلّا أنّ اهتمامه الأساسي كان المعاناة الإنسانية، وخاصة آثار المجتمعات الحديثة على الحالة الإنسانية، والذي تأثر بشكل خاص بهيجل وماركس ونيتشه.

السيرة الشخصية لأدورنو:

وُلد ثيودور فيزنغروند أدورنو (Theodor Wiesengrund Adorno) في عام 1903، وعاش أدورنو في فرانكفورت أم ماين في ألمانيا على مدى العقود الثلاثة الأولى من حياته والعقدين الأخيرين، وهو ابن لأبوين أثرياء نسبيًا في وسط ألمانيا، حيث كانت والدته مغنية موهوبة من أصل إيطالي وكان والده تاجر نبيذ يهودي موسيقي بارع من أصل كاثوليكي كورسيكي، وقد كان للوضع اليهودي الجزئي لأدورنو تأثير لا يُحصى على حياته وأعماله الفلسفية.

كما كان طفلاً موهوبًا أكاديميًا وموسيقيًا، ففي البداية بدا أنّ أدورنو كان متجهًا لمهنة موسيقية، وخلال الفترة من أوائل إلى منتصف العشرينيات من القرن الماضي درس أدورنو التأليف الموسيقي على يد ألبان بيرج (Alban Berg) في فيينا وتم التعرف على موهبته من قبل أمثال بيرج (Berg) وشوينبيرج (Schoenberg).

دراسة أدورنو للفلسفة:

درس أدورنو الفلسفة مع نيو كانتيان هانز كورنيليوس (neo-Kantian Hans Cornelius)، وأكمل مؤهلاته الشرفية في جماليات كيركيغارد (Kierkegaard) في عام 1931، تحت إشراف الاشتراكي المسيحي بول تيليش (Paul Tillich)، وبعد عامين فقط من عمله كمدرس جامعي (كمحاضر خاص) تم طرده من قبل النازيين إلى جانب أساتذة آخرين من أصول يهودية أو من اليسار السياسي، وبعد سنوات قليلة حول اسم عائلة والده إلى اسم متوسط ​​في البداية وتبنى أدورنو لقب الأم الذي اشتهر به.

ومع ذلك في أواخر العشرينيات من القرن الماضي انضم أدورنو إلى هيئة التدريس في جامعة فرانكفورت وكرس الجزء الأكبر من موهبته الكبيرة وطاقته لدراسة الفلسفة وتدريسها، وقد أجبره التراث اليهودي لأدورنو على البحث عن منفاه في نهاية المطاف من ألمانيا النازية، حيث سجل في البداية كطالب دكتوراه في كلية ميرتون في أكسفورد، ثم كعضو في معهد جامعة فرانكفورت للأبحاث الاجتماعية، وفي نيويورك أنهى نفيه في جنوب كاليفورنيا.

قد غادر أدورنو ألمانيا في ربيع عام 1934، وأقام خلال الحقبة النازية في أكسفورد ونيويورك وجنوب كاليفورنيا، ولم يكمل أدورنو درجة الدكتوراه في أكسفورد وبدا أنّه غير سعيد باستمرار في حالته المنفية، وإلى جانب أعضاء آخرين في معهد البحوث الاجتماعية عاد أدورنو إلى جامعة فرانكفورت فور انتهاء الحرب، حيث شغل كرسيًا أستاذًا في الفلسفة وعلم الاجتماع.

وظل أدورنو أستاذًا في جامعة فرانكفورت حتى وفاته عام 1969، الذي توفي بنوبة قلبية في 6 آب 1969 قبل شهر واحد من عيد ميلاده السادس والستين، حيث كان متزوجًا من جريتيل (Gretel) وليس لهما أطفال.

أعمال أدورنو الفلسفية:

هناك كتب العديد من الكتب التي اشتهر بها فيما بعد بما في ذلك:

1- جدلية التنوير (Dialectic of Enlightenment) مع ماكس هوركهايمر.

2- فلسفة الموسيقى الجديدة (Philosophy of New Music).

3- الشخصية الاستبدادية (The Authoritarian Personality) (مشروع تعاوني).

4- تأملات من الحياة المدمرة (Minima Moralia).

ومن هذه السنوات جاءت انتقاداته الاستفزازية للثقافة الجماهيرية وصناعة الثقافة، وبالعودة إلى فرانكفورت في عام 1949 لتولي منصبًا في قسم الفلسفة، سرعان ما أثبت أدورنو نفسه كمفكر ألماني رائد وشخصية مركزية في معهد البحوث الاجتماعية، حيث تأسس المعهد كمركز قائم بذاته للمنح الدراسية الماركسية في عام 1923 وكان يرأسه الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ماكس هوركهايمر (Max Horkheimer) الذي اشتهر بالنظرية النقدية منذ عام 1930، حيث لقد وفرت المحور لما أصبح يعرف باسم مدرسة فرانكفورت، أصبح أدورنو مديرًا للمعهد عام 1958.

ومن الخمسينيات من القرن الماضي هناك عدة أعمال مهمة ومنها:

1- كتاب بعنوان بحثًا عن فاغنر (In Search of Wagner): وهو نقد أدورنو الإيديولوجي للملحن المفضل لدى النازية.

2- كتاب بعنوان منشورات (Prisms): وهو مجموعة من الدراسات الاجتماعية والثقافية.

3- كتاب بعنوان ضد نظرية المعرفة (Against epistemology): وهو نقد مناهض للتأسيسية لظواهر الفيلسوف الألماني إدموند هوسرليان (Edmund Husserl).

4- المجلد الأول من ملاحظات إلى الأدب (Notes to Literature): وهي مجموعة مقالات في النقد الأدبي.

كان الصراع والتوحيد بمثابة العقد الأخير من حياة أدورنو، فقد كان أدورنو شخصية بارزة في (نزاع الوضعية) في علم الاجتماع الألماني، وكان لاعباً رئيسياً في المناقشات حول إعادة هيكلة الجامعات الألمانية وكان بمثابة نقطة انطلاق لكل من الطلاب الناشطين ونقادهم اليمينيين، ولم تمنعه ​​هذه الخلافات من نشر مجلدات عديدة من النقد الموسيقي، ومجلدين آخرين من ملاحظات إلى الأدب، وكتب عن هيجل والفلسفة الوجودية ومقالات مجمعة في علم الاجتماع وعلم الجمال.

ويعد كتاب ظهور الديالكتيك السلبي (Negative Dialectics) أعظم تأليف أدورنو في نظرية المعرفة والميتافيزيقيا وذلك في عام 1966، كما أنّ ظهو النظرية الجمالية (Aesthetic Theory) وهي القطعة الأخرى التي عمل عليها طوال الستينيات بعد وفاته في عام 1970.

النقد العام لفلسفة أدورنو:

يُعرف أدورنو على نطاق واسع بأنّه أحد الفلاسفة القاريين الرائدين ولكنه أيضًا أحد أكثر الفلاسفة القاريين إثارة للجدل في القرن العشرين، وعلى الرغم من عدم تقديره إلى حد كبير في إطار التقليد التحليلي للفلسفة إلّا أنّ كتابات أدورنو الفلسفية كان لها تأثير كبير ودائم على تطور الأجيال اللاحقة من المنظرين النقديين والفلاسفة الآخرين المعنيين بالقضية العامة للعدمية والهيمنة.

تستمر المنشورات على أدورنو ومن قبله في الانتشار، ولم يُنسى أدورنو، ولا يزال تشخيصه الخاص الذي لا هوادة فيه للمجتمعات الحديثة وانخراط العقل والسيطرة، يتردد صداها بل ويلهم العديد من العاملين في إطار التقاليد القارية، ومع ذلك فقد اجتذب بعض الانتقادات الكبيرة، ومنها بعض التعليقات على أسلوب كتابة أدورنو.

قد يكون من الصعب جدًا قراءة أدورنو حيث يكتب بطريقة لا تصلح للفهم الجاهز، ولا بد أنّ هذا متعمد، فهو يرى أنّ اللغة نفسها أصبحت موضوعًا ووسيلة لاستمرار الهيمنة، وإنّه يدرك تمامًا مدى تعقيد هذا الادعاء لعمله، وفي محاولة لتشجيع الوعي النقدي بالمعاناة والسيطرة يضطر أدورنو إلى استخدام نفس الوسائل التي يتم من خلالها استمرار هذه الظروف إلى حد ما.

إنّ إجابته لهذه المشكلة على الرغم من عدم نيته أن تكون مرضية في نهاية المطاف، هي الكتابة بطريقة تتطلب جهودًا شاقة ومركزة من جانب القارئ للكتابة بطريقة تتحدى صراحة العرف والمألوف، ويهدف أدورنو إلى تشجيع قرائه على محاولة رؤية العالم والمفاهيم التي تمثل العالم بطريقة تتحدى تفكير الهوية، ويهدف من خلال كتاباته إلى التعبير بدقة عن الجوانب غير المعترف بها وغير المتطابقة لأي ظاهرة معينة، كما إنّه يهدف إلى إظهار بطريقة تشبه إلى حد بعيد علماء التفكيكية المعاصرين، وإلى أي مدى تمثل أعرافنا اللغوية الواقع وتشوهه في الوقت نفسه.

على النقيض من العديد من علماء التفكيك فإنّ أدورنو يفعل ذلك باسم هدف أخلاقي واضح وليس كمجرد طريقة أدبية، وبالنسبة لأدورنو يرتكز الواقع على المعاناة وسيطرة الطبيعة، وهذا تمييز مهم للغاية، وشكوى أدورنو من التفكير بالهوية أخلاقية وليست منهجية، ومع ذلك يجب الاعتراف بأنّ فهم وتقييم نقاط القوة والضعف في رؤية أدورنو الفلسفية مهمة صعبة، وإنّه لا يرغب في أن يُفهم بسهولة في عالم يعتمد فيه الفهم السهل على حد زعمه وعلى تزوير تفكير الهوية للعالم.

يتبع أسلوب أدورنو في الكتابة في جزء كبير منه روايته للعقل، حيث تعرض فهم أدورنو للعقل لانتقادات مستمرة، ويرتبط أحد أهم أشكال النقد بيورجن هابرماس (Jurgen Habermas) والذي يمكن القول أنّه الداعية المعاصر الرائد للنظرية النقدية، وفي الجوهر يجادل هابرماس بأنّ أدورنو يبالغ في تقدير المدى الذي تم فيه استخدام العقل كأداة داخل المجتمعات الحديثة المعقدة، فبالنسبة إلى هابرماس يعد التفكير الأداتي واحدًا فقط من عدد من أشكال الاستدلال التي يمكن تحديدها داخل مثل هذه المجتمعات.

وبالتالي فإنّ الاستدلال الآلي ليس قريبًا من أن يكون شاملاً كما قدمه أدورنو وهوركهايمر على أنّه في ديالكتيك التنوير، وبالنسبة إلى هابرماس فإنّ الأهمية غير الضرورية المنسوبة إلى التفكير الأداتي لها عواقب أخلاقية وفلسفية عميقة على رؤية أدورنو العامة، ويصر هابرماس على أنّ فهم أدورنو للعقل يرقى إلى مستوى التخلي عن الأهداف الأخلاقية لعصر التنوير، والتي يبدو أنّ النظرية النقدية نفسها تأخذ اتجاهاتها، فليس هناك شك في أنّ نشر التكنولوجيا كان له أكثر الآثار المروعة والكارثية على البشرية.

ومع ذلك يجادل هابرماس بأنّ هذه التأثيرات ليست نتيجة امتداد العقل المتجذر في هيمنة الطبيعة، كما يجادل أدورنو بل هي بالأحرى نتيجة انحراف لعقل التنوير، ويُتهم أدورنو بالدفاع عن تفسير المنطق الأداتي الشامل، بحيث يستبعد إمكانية التغلب عقلانيًا على هذه الظروف وبالتالي تحقيق أهداف النظرية النقدية، ويُتهم أدورنو بقيادة النظرية النقدية إلى طريق مسدود أخلاقي، ويشرع هابرماس في انتقاد تفسير أدورنو للعقل على أسس فلسفية أيضًا.

وهو يجادل في الواقع بأنّ تفسير أدورنو لاستغلال العقل كأداة شاملة بحيث يستبعد إمكانية قيام شخص مثل أدورنو بتقديم تحليل عقلاني ونقدي لهذه الظروف، ويبدو أنّ حساب أدورنو النقدي للعقل يستبعد منطقيًا إمكانية وجوده.

يتهم هابرماس أدورنو بالوقوع في شكل من أشكال التناقض الأدائي، كما أنّه بالنسبة إلى هابرماس فإنّ حقيقة أنّ نظامًا سياسيًا أو اجتماعيًا ما هو موضوع النقد يكشف مدى عدم تحقق شكل الهيمنة الذي يفترضه أدورنو بالكامل، حقيقة أنّ أدورنو وهوركهايمر يمكنهما إعلان أنّ (التنوير شمولي) يرقى إلى دحض الذات في نفس الوقت، وأداء الدعوى يتعارض مع جوهرها، ويتعارض هابرماس مع أدورنو.

أخيرًا على أساس أنّ تفسير أدورنو للعقل ودفاعه عن (التفكير اللاهوي) يبدو أنّه يحظر على النظرية النقدية الانخراط الإيجابي أو البناء في الظلم الاجتماعي والسياسي، وأدورنو متهم بتبني موقف (nay-sayer) الراسخ، والناي سيير هو الشخص الذي يتميز بالمعارضة، ويمكن أن يظهر النقد كغاية في حد ذاته حيث يبدو أنّ الراديكالية ذاتها لتشخيص أدورنو للعقل والحداثة تستبعد إمكانية التغلب على الهيمنة والتغاير، وتم توجيه انتقادات مماثلة إلى حساب أدورنو للأخلاق وادعاءاته فيما يتعلق بمدى العدمية.

يُتهم أدورنو باستمرار بالفشل في تقدير المكاسب الأخلاقية التي تحققت كنتيجة مباشرة لإضفاء الطابع الرسمي على العقل والزوال اللاحق لسلطة التقليد، ووفقًا لوجهة النظر هذه فإنّ محاولة تصنيف ماركيز دو ساد وكانط ونيتشه على أنّهم جميعًا يعبرون، ويشهدون بالمثل على الزوال النهائي للأخلاق كما يفعل أدورنو وهوركهايمر، هو ببساطة خطأ ومثال على الميل الواضح للتعميم المفرط في تطبيق مفاهيم معينة.


شارك المقالة: