فلسفة جون لوك لمبدأ العقاب في الفلسفة السياسية

اقرأ في هذا المقال


تشكل معاقبة المجرمين موضوعًا حظي لسنوات عديدة باهتمام شامل سواء في الدوائر الأكاديمية الضيقة أو في النقاش العام الأوسع وهذا ليس غريباً، حيث إنّ إلحاق الموت أو المعاناة أو الحرمان من الحرية الذي تفرضه الدولة على المواطنين يجب أن يقابل بالتردد منذ البداية ويشكل ممارسة تتطلب بوضوح اعتبارات أكثر عمقًا، على الرغم من أنّ المناقشة النظرية للعقاب قد تعاملت مع العديد من القضايا المفاهيمية والأخلاقية.


مفهوم الفلسفة السياسية:

الفلسفة السياسية هي دراسة الأسئلة الأساسية حول الدولة والحكومة والسياسة والحرية والعدالة والملكية والحقوق والقانون، وإنفاذ القانون من قبل السلطة أي ما هي ولماذا (أو حتى إذا) هناك حاجة إليها وماذا يجعل الحكومة شرعية وما هي الحقوق والحريات التي يجب أن تحميها ولماذا، وما الشكل الذي يجب أن تتخذه ولماذا وما هو القانون وما هي واجبات المواطنين التي يدين بها المواطنون للحكومة الشرعية إن وجدت ومتى يمكن الإطاحة بها بشكل شرعي، بالمعنى العامي يشير مصطلح “الفلسفة السياسية” غالبًا إلى وجهة نظر عامة أو أخلاق أو اعتقاد أو موقف محدد حول السياسة التي لا تنتمي بالضرورة إلى الانضباط التقني للفلسفة.

كانت ثلاثة اهتمامات مركزية للفلسفة السياسية هي الاقتصاد السياسي الذي يتم من خلاله تحديد حقوق الملكية وتنظيم الوصول إلى رأس المال ومطالب العدالة في التوزيع والعقاب وقواعد الحقيقة والأدلة التي تحدد الأحكام في القانون.

مفهوم العقاب في الفلسفة السياسية:

تنطوي العقوبة على تعمد إيقاع المعاناة على الجاني المفترض أو الفعلي لارتكاب جريمة مثل التعدي الأخلاقي أو القانوني، وبما أنّ العقوبة تنطوي على إلحاق ألم أو حرمان مماثل لما يلحقه مرتكب الجريمة بضحيته فقد تم الاتفاق بشكل عام على أنّ العقوبة تتطلب تبريرًا أخلاقيًا وقانونيًا وسياسيًا.

بينما يتفق جميع الفلاسفة تقريبًا على أنّ العقوبة يمكن تبريرها في بعض الأحيان على الأقل، فإنّهم يقدمون روايات مختلفة لكيفية تبريرها وكذلك ما تم تصميمه لحمايته، كما الحقوق والاستقلالية الشخصية والملكية الخاصة والدستور السياسي أو العملية الديمقراطية.

فعلى سبيل المثال يحاول النفعيون تبرير العقوبة من حيث توازن الخير على الشر الناتج وبالتالي تركيز انتباهنا على الاعتبارات الخارجية أو التبعية، ويحاول القائمون بالعقاب تبريرًا يربط العقوبة بالمخالفات الأخلاقية ويبررون عمومًا هذه الممارسة على أساس أنّها تمنح المخالفين ما يستحقونه، وبالتالي فإنّ تركيزهم ينصب على الخطأ الجوهري للجريمة الذي يستحق بالتالي العقاب.

بينما يحاول منظرو التسوية الجمع بين هذين النوعين من النظريات بطريقة تحافظ على قوتهم المتصورة مع التغلب على نقاط ضعفهم المتصورة، فتمت مناقشة هذه المحاولات المختلفة للتبرير في العديد من الدراسات والتي تم فيها فحص المناهج النفعية والعقابية لتحديد مقدار العقوبة، كما تم مناقشة قضية عقوبة الإعدام المثيرة للجدل بإيجاز.


مفهوم العقاب لدى جون لوك:

عرّف جون لوك السلطة السياسية بأنّها “الحق في سن قوانين بعقوبات الإعدام وبالتالي جميع العقوبات أقل”، وبالتالي فإنّ نظرية لوك للعقاب هي مركزية في رؤيته للسياسة وجزء مما اعتبره مبتكرًا في فلسفته السياسية لكنه أشار أيضًا إلى روايته للعقاب على أنّها عقيدة غريبة جدًا وربما لأنّها تتعارض مع الافتراض القائل بأنّ الملوك السياسيين فقط هم من يمكنهم المعاقبة.

يعتقد لوك أنّ العقوبة تتطلب وجود قانون وبما أنّ حالة الطبيعة لديها قانون الطبيعة الذي يحكمها فمن الجائز وصف فرد بأنّه “يعاقب” آخر في تلك الحالة، ومنطق لوك هو أنّه نظرًا لأنّ القانون الأساسي للطبيعة هو الحفاظ على الجنس البشري وبما أنّ هذا القانون سيكون عبثًا مع عدم وجود قوة بشرية لفرضه، لذلك يجب أن يكون شرعيًا للأفراد لمعاقبة أخرى حتى قبل وجود الحكومة، وفي مناقشة هذا كان لوك يختلف مع صموئيل بوفيندورف (1934)، وجادل صمويل بوفيندورف بقوة في أنّ مفهوم العقوبة لا معنى له بصرف النظر عن الهيكل القانوني الإيجابي الراسخ.

أدرك لوك أنّ الاعتراض الحاسم على السماح للناس بالعمل كقضاة يتمتعون بسلطة العقاب في حالة الطبيعة هو أنّ هؤلاء الأشخاص سينتهي بهم الأمر ليكونوا قضاة في قضاياهم الخاصة، اعترف لوك بسهولة أنّ هذا كان إزعاجًا خطيرًا وسببًا رئيسيًا لترك حالة الطبيعة.

أصر لوك على هذه النقطة لأنّها ساعدت في تفسير الانتقال إلى المجتمع المدني، واعتقد لوك أنّه في حالة الطبيعة يتمتع الرجال بحرية الانخراط في المسرات البريئة (أفعال لا تعد انتهاكًا لأي قوانين معمول بها) والسعي إلى الحفاظ على أنفسهم ضمن حدود القانون الطبيعي ومعاقبة انتهاكات طبيعة القانون، وإنّ سلطة طلب الحفاظ على المرء محدودة في المجتمع المدني بموجب القانون ويتم نقل سلطة العقاب إلى الحكومة وبالتالي فإنّ سلطة المعاقبة في حالة الطبيعة هي الأساس لحق الحكومات في استخدام القوة القسرية.

ومع ذلك يصبح الوضع أكثر تعقيدًا إذا نظرنا إلى المبادئ التي من شأنها توجيه العقوبة، وغالبًا ما تنقسم أسباب العقوبة إلى تلك التي تتطلع إلى الأمام وتتطلع إلى الخلف، وتتضمن المبررات التطلعية ردع الجريمة وحماية المجتمع من الأشخاص الخطرين وإعادة تأهيل المجرمين، وعادة ما تركز المبررات المتخلفة على القصاص وإلحاق الضرر الجنائي الذي يمكن مقارنته بالجريمة وقد يبدو أنّ لوك يخلط بين هذين المنطقيين في مقاطع مثل ما يلي:

“وهكذا في حالة الطبيعة يأتي رجل بسلطة على آخر ولكن لا توجد قوة مطلقة أو تعسفية ليستخدم مجرمًا عندما يكون بين يديه وفقًا للحرارة العاطفية أو الإسراف اللامحدود من جانبه، ولكن فقط للانتقام منه بقدر ما يمليه العقل والضمير الهادئ وما يتناسب مع تجاوزه والذي يمكن أن يصلح للجبر وضبط النفس، وهذان السببان الوحيدان لماذا قد يؤذي رجل آخر بشكل قانوني وهو ما نسميه العقاب.”


يتحدث لوك عن كل من القصاص والعقاب فقط من أجل الجبر وضبط النفس، ويجادل سيمونز بأنّ هذا دليل على أنّ لوك يجمع بين كلا منطقتي العقوبة في نظريته، ومع ذلك فإنّ دراسة استقصائية لمبررات الحقوق الطبيعية الأخرى للعقاب في القرن السابع عشر، وتشير إلى أنّه كان من الشائع استخدام كلمات مثل “الجزاء” في النظريات التي ترفض ما نسميه اليوم العقوبة الجزائية.

في المقطع المقتبس أعلاه يقول لوك إنّ المبلغ المناسب للعقاب هو المبلغ الذي سيوفر تعويضات للأطراف المتضررة وحماية الجمهور وردع الجريمة في المستقبل، ويتبع موقف لوك تجاه العقوبة في كتاباته الأخرى حول التسامح والتعليم والدين وهذا المسار باستمرار نحو تبرير العقوبة على أسس أخرى غير القصاص.

رأي المفكر توكنيس بفلسفة جون لوك حول العقاب:

يدعي توكنيس أنّ تأكيد لوك على الاسترداد مثير للاهتمام لأنّ الاسترداد يتطلع إلى الوراء بمعنى ما (فهو يسعى إلى استعادة الوضع السابق) ولكنه يتطلع أيضًا إلى الأمام من حيث أنّه يوفر فوائد ملموسة لأولئك الذين يتلقون التعويض، وهناك رابط هنا بين فهم لوك للعقاب الطبيعي وفهمه لعقوبة الدولة المشروعة، وحتى في حالة الطبيعة فإنّ التبرير الأساسي للعقاب هو أنّه يساعد على تعزيز الهدف الإيجابي المتمثل في الحفاظ على حياة الإنسان وممتلكاته، وإنّ التركيز على الردع والسلامة العامة ورد الحقوق في العقوبات التي تديرها الحكومة يعكس هذا التأكيد.

اللغز الثاني فيما يتعلق بالعقاب هو جواز العقاب دوليًا، حيث يصف لوك العلاقات الدولية على أنّها حالة طبيعية ومن وثم فمن حيث المبدأ يجب أن تتمتع الدول بنفس القوة لمعاقبة انتهاكات القانون الطبيعي في المجتمع الدولي التي يتمتع بها الأفراد في حالة الطبيعة، وهذا من شأنه أن يضفي الشرعية، فعلى سبيل المثال على معاقبة الأفراد على جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية حتى في الحالات التي لا تسمح فيها قوانين دولة معينة ولا القانون الدولي بالعقوبة.

وهكذا في الحرب العالمية الثانية حتى لو لم تكن “جرائم العدوان” معترف بها في ذلك الوقت كجريمة مبررة للعقاب الفردي وإذا كانت الأفعال تنتهك مبدأ القانون الطبيعي الذي يقضي بعدم حرمان شخص آخر من الحياة أو الحرية أو الممتلكات يمكن أن يظل المذنبون عرضة لعقوبة جنائية، وهكذا كان التفسير الأكثر شيوعًا هو أنّ القدرة على المعاقبة دوليًا متناسقة مع القدرة على المعاقبة في حالة الطبيعة.

ومع ذلك جادل (Tuckness) توكنيس (2008) بأنّ هناك عدم تناسق بين الحالتين لأنّ لوك يتحدث أيضًا عن محدودية الدول في الأهداف التي يمكنها السعي لتحقيقها، ويقول لوك في كثير من الأحيان أنّ سلطة الحكومة يجب استخدامها لحماية حقوق مواطنيها وليس من أجل حقوق جميع الناس في كل مكان.

ويقول لوك إنّه في حالة الطبيعة يجب على الشخص استخدام القوة للعقاب للحفاظ على مجتمعه وهو الجنس البشري ككل وبعد تشكيل الدول، ومع ذلك فإنّ سلطة العقاب يجب أن تستخدم لصالح مجتمعه الخاص، ففي حالة الطبيعة لا يُطلب من الشخص أن يخاطر بحياته من أجل آخر، وهذا من المفترض أن يعني أيضًا أن الشخص غير مطالب بالعقاب في حالة الطبيعة عندما تكون محاولة العقاب مخاطرة بحياة المعاقب.

لذلك قد يعترض لوك على فكرة أنّ الجنود يمكن إجبارهم على المخاطرة بحياتهم لأسباب الإيثار، ففي حالة الطبيعة يمكن لأي شخص أن يرفض محاولة معاقبة الآخرين إذا كان القيام بذلك سيخاطر بحياته وبالتالي فإنّ لوك يفسر أنّ الأفراد ربما لم يوافقوا على السماح للدولة بالمخاطرة بحياتهم من أجل عقاب الإيثار على الجرائم الدولية.


شارك المقالة: