كان لعداء الفيلسوف ألبير كامو للشيوعية أسبابه الشخصية والسياسية والفلسفية، والتي وصلت هذه بالتأكيد إلى طرده من الحزب الشيوعي في منتصف الثلاثينيات، وذلك لرفضه الالتزام باستراتيجية الجبهة الشعبية للتقليل من الاستعمار الفرنسي في الجزائر من أجل كسب دعم الطبقة العاملة البيضاء، وبعد ذلك دون ذكر الماركسية فإنّ أسطورة سيزيف صامتة ببلاغة عن ادعاءاتها بتقديم فهم متماسك للتاريخ البشري ومسار ذي مغزى إلى المستقبل.
نظرة البحر الأبيض المتوسط:
تحولت علاقات كامو المحترمة المتبادلة مع الشيوعيين خلال فترة المقاومة، وفترة ما بعد الحرب مباشرة إلى مريرة بعد تعرضه للهجوم في الصحافة الشيوعية ورد الهجوم في سلسلة من المقالات الصحفية في عام 1946 بعنوان لا ضحايا ولا جلادون.
في كتاب المتمرد لكامو أصرّ على أنّ جاذبية الشيوعية وخصائصها السلبية تنبع من نفس الدافع البشري الذي لا يمكن كبته، ففي مواجهة العبث والظلم يرفض البشر قبول وجودهم ويسعون بدلاً من ذلك إلى إعادة تشكيل العالم، وإقرارًا بالثورة كنقطة انطلاق ضرورية ينتقد كامو السياسة الهادفة إلى بناء مستقبل طوباوي مؤكدًا مرة أخرى أنّ الحياة يجب أن تعيش في الحاضر وفي العالم الحسي، ويستكشف تاريخ الحركات الفكرية والأدبية ما بعد الدينية والعدمية، ويهاجم العنف السياسي بآرائه حول الحدود والتضامن.
ينتهي كامو بتوضيح الدور الميتافيزيقي للفن بالإضافة إلى السياسة الراديكالية ذاتية التحديد، وبدلاً من السعي لتغيير العالم يتحدث عن القياس أي بمعنى التناسب أو التوازن والعيش في توتر الحالة الإنسانية، ويسمي هذه النظرة (البحر الأبيض المتوسط) في محاولة لترسيخ آرائه في المكان الذي نشأ فيه واستحضار قراءة إحساسه بالانسجام وتقدير الحياة المادية، فلا توجد حجة جوهرية للتسمية ولا توجد حجة ممكنة بالنظر إلى طريقته في اختيار من وماذا يعتبر ممثلاً لوجهة نظر البحر الأبيض المتوسط مع استبعاد الآخرين.
على سبيل المثال بعض الكتاب اليونانيين وليس العديد من الرومان، وبدلاً من الجدل يرسم رؤية ختامية للوئام المتوسطي يأمل أن تكون مؤثرة وغنائية وتربط القارئ بأفكاره.
فلسفة كامو والماركسية:
كمسار سياسي يؤكد كتاب المتمرد أنّ الشيوعية تؤدي بلا هوادة إلى القتل، ثم تشرح كيف تنشأ الثورات من أفكار وحالات روحية معينة، ولكنه لا يقوم بتحليل دقيق للحركات أو الأحداث ولا يعطي أي دور للاحتياجات المادية أو الاضطهاد، ويعتبر البحث عن العدالة الاجتماعية محاولة مستوحاة من الميتافيزيقي لاستبدال عهد النعمة بحكم العدالة.
علاوة على ذلك يصر كامو على أنّ هذه المواقف مبنية في الماركسية، ففي (لا ضحايا ولا جلادون) أعلن نفسه اشتراكيًا لكنه ليس ماركسيًا، ولقد رفض القبول الماركسي للثورة العنيفة والمبدأ التبعي القائل بأنّ الغاية تبرر الوسيلة، فقد كتب بشكل كاسح: “من وجهة النظر الماركسية مائة ألف حالة وفاة هي ثمن زهيد من أجل سعادة مئات الملايين”، فقد أكد كامو أنّ الماركسيين يعتقدون هذا لأنّهم يعتقدون أنّ التاريخ له منطق ضروري يؤدي إلى السعادة البشرية وبالتالي يقبلون العنف لتحقيق ذلك.
في كتاب المتمرد لكامو يأخذ هذا التأكيد خطوة أخرى، من حيث أنّ الماركسية لا تتعلق في المقام الأول بالتغيير الاجتماعي ولكنها بالأحرى ثورة تحاول ضم كل الخليقة، وتنبثق الثورة عندما تسعى الثورة إلى تجاهل القيود الموجودة في حياة الإنسان، ومن خلال منطق العدمية الحتمي تصل الشيوعية إلى ذروتها الاتجاه الحديث لتأليه الإنسان وتحويل العالم وتوحيده، وثورات اليوم تؤدي إلى الدافع الأعمى الموصوف أصلاً في أسطورة سيزيف: “للمطالبة بالنظام في خضم الفوضى، والوحدة في قلب قلب الزوال”، وكذلك الثائر الذي يصبح ثوريًا الذي يقتل ثم يبرر القتل على أنّه مشروع.
فلسفة كامو والثورة:
وفقًا لكامو كان إعدام الملك لويس السادس عشر أثناء الثورة الفرنسية خطوة حاسمة تظهر السعي لتحقيق العدالة دون اعتبار للحدود، ولقد تناقضت مع الهدف الأصلي لتأكيد الحياة وتأكيد الذات والتوحيد للثورة، حيث تنتمي هذه المناقشة إلى تاريخ الفخر الأوروبي لكامو، والذي استهلته أفكار معينة من الإغريق وجوانب معينة من المسيحية المبكرة، ولكنها بدأت بجدية مع ظهور الحداثة.
يركز كامو على مجموعة متنوعة من الشخصيات والحركات والأعمال الأدبية الرئيسية من مثل: ماركيز دو ساد والرومانسية والغندقة والإخوة كارامازوف وهيجل وماركس ونيتشه والسريالية والنازيون وفوق كل ذلك البلاشفة، ويصف كامو الثورة بأنّها تزداد قوتها بمرور الوقت وتتحول إلى عدمية يائسة أكثر من أي وقت مضى، مما يؤدي إلى الإطاحة بالله ووضع الإنسان في مكانه ويمارس السلطة بوحشية متزايدة.
وتؤدي الثورة التاريخية المتجذرة في ثورة ميتافيزيقية إلى ثورات تسعى إلى القضاء على العبثية باستخدام القتل كأداة مركزية للسيطرة الكاملة على العالم، والشيوعية هي التعبير المعاصر عن هذا المرض الغربي.
يزعم كامو أنّه في القرن العشرين أصبح القتل معقولًا ويمكن الدفاع عنه نظريًا ومبرره بالعقيدة، ولقد اعتاد الناس على الجرائم المنطقية، أي الموت الجماعي سواء كان مخططًا أو متوقعًا ومبررًا بشكل عقلاني، وهكذا يسمي كامو الجريمة المنطقية القضية المركزية في ذلك الوقت، ويسعى إلى الفحص الدقيق للحجج التي يتم تبريرها من خلالها، ويشرع في استكشاف كيف أصبح القرن العشرين قرنًا من المذابح.
قد نتوقع عن حق تحليلاً للحجج التي يتحدث عنها، ولكن فلسفة كتاب المتمرد يغير التركيز، فيتم الخلط بين العقل البشري من قبل معسكرات العبيد تحت راية الحرية، والمذابح التي تبررها الأعمال الخيرية أو ذوق الإنسان الخارق، ويشير الاثنان الأولان إلى الشيوعية والثالث إلى النازية، كما تنقطع النازية عمليًا (كما يقول حيث كان نظامًا من الإرهاب غير العقلاني وليس هذا ما أثار اهتمام كامو على الإطلاق)، مما أدى إلى تضييق نطاق البحث بشكل حاد.
يكشف تحوله في سؤاله عن كيف يرتكب القتل مع سبق الإصرار ويكون له ما يبرره بالفلسفة؟ كما اتضح أنّ القتل العقلاني الذي كان يدور حوله كامو لم يرتكب من قبل الرأسماليين أو الديمقراطيين أو المستعمرين أو الإمبرياليين أو النازيين، بل ارتكبها الشيوعيون فقط.
إنّه لا يتحدث عن الهولوكوست -وهي محرقة يهود أوروبا- وعلى الرغم من أنّه كان صوتًا احتجاجًا على هيروشيما في عام 1945، إلا أنّه لا يسأل الآن كيف حدث ذلك، كصحفي كان من القلائل الذين اتهموا الاستعمار الفرنسي ولكنه لم يذكر ذلك إلّا في حاشية، وكيف كان من الممكن لكامو أن يركز فقط على عنف الشيوعية، وبالنظر إلى التاريخ الذي عاشه في خضم الحرب الاستعمارية الفرنسية في فيتنام، وعندما كان يعلم أنّ هناك صراعًا مريرًا على الجزائر؟ ويبدو أنّه أعمته الأيديولوجيا ففصل الشيوعية عن شرور القرن الأخرى ووجه عداواته هناك.
تطور فكر كامو في مفهوم الثورة:
بالطبع تطورت أفكار كامو ونضجت على مر السنين منذ أن بدأ الكتابة عن الثورة، ولكن حدث شيء آخر فلقد تغيرت أجندته، وتم تسخير العبثية والتمرد وموضوعاته الأصلية كبديل للشيوعية التي أصبحت العدو اللدود، وأصبحت فلسفة الثورة أيديولوجية الحرب الباردة.
لأنّ كامو في كتاب المتمرد ادعى أنّه يصف الموقف الذي يكمن وراء السمات الشريرة للسياسة الثورية المعاصرة فقد أصبح حدثًا سياسيًا رئيسيًا، ولا يكاد القراء يفوتون وصفه لكيفية تحول الدافع إلى التحرر إلى جريمة قتل منظمة وعقلانية عندما حاول المتمردون الثوريون أن يأمروا بعالم سخيف، وفي تقديم هذه الرسالة سعى كامو ليس إلى نقد الستالينية بقدر ما سعى المدافعون عنها، وكانت أهدافه المحددة هي المثقفين المنجذبين إلى الشيوعية كما كان هو نفسه في الثلاثينيات.
كان الفيلسوف جان بول سارتر أحد هذه الأهداف وفي نهاية كتاب المتمرد استهدف الآن سياسات صديقه المتطورة، ويركز كامو على عبادة التاريخ التي وجه الكتاب بأكمله ضدها واعتقاده بأنّ الوجوديين بقيادة سارتر قد وقعوا ضحية فكرة أنّ الثورة يجب أن تؤدي إلى ثورة، وفي إطار كامو يواجه سارتر تحديًا باعتباره يحاول، مثل أسلافه الذين انتُقدوا في أسطورة سيزيف الهروب من العبثية التي بدأ بها تفكيره بالتحول إلى الماركسية.
يعد هذا امتدادًا إلى حد ما لأنّ سارتر كان لا يزال على بعد عدة سنوات من إعلان نفسه ماركسيًا، وهذا يظهر ميل كامو نحو التعميم الشامل بدلاً من التحليل الدقيق، ولكنه يعكس أيضًا قدرته على تفسير خلاف معين بأوسع نطاق ممكن على أنّه صراع أساسي بين الفلسفات.