نقاط تحول مهمة في الفلسفة التحليلية

اقرأ في هذا المقال


الثورة ضد المثالية:

خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر هيمنت على الفلسفة الإنجليزية المثالية المطلقة المستمدة من الفيلسوف الألماني جي.هيجل وبالنسبة للفلسفة الإنجليزية كان هذا يمثل قطيعة في تقليد شبه مستمر من التجريبية، وقد زرعت بذور الفلسفة التحليلية الحديثة عندما انفصل اثنان من أهم الشخصيات في تاريخها وهما راسل ومور عن المثالية في مطلع القرن العشرين.

كانت المثالية المطلقة ميتافيزيقية بشكل واضح بمعنى أنّ أتباعها اعتقدوا أنّهم يصفون بطريقة غير مفتوحة للعلماء، وكذلك بعض الحقائق الأساسية للغاية عن العالم، وفي الواقع من وجهة نظرهم ما يعتبر حقيقة في العلوم ليس حقيقة على الإطلاق لأنه يجب على العالم بحكم الضرورة أن يتعامل مع العالم على أنّه مكون من كائنات مميزة ويمكن أن يصف ويصرح فقط العلاقات التي يفترض وجودها فيما بينها، لكن المثاليين رأوا أنّ الحديث عن الواقع كما لو كان تعدد الأشياء هو تزييفه في النهاية والكل فقط والمطلق وله الواقع.

المثاليون والحدس المنطقي:

في استنتاجاتهم والأهم من ذلك في منهجهم لم يكن المثاليون بالتأكيد إلى جانب الحدس المنطقي، فجادل فيلسوف كامبريدج ماك تاغارت على سبيل المثال بأنّ مفهوم الوقت غير متسق وبالتالي فإنّ الوقت غير واقعي، أما التجريبية البريطانية من ناحية أخرى فقد بدأت عمومًا بمعتقدات منطقية وقبلتها أو سعت على الأقل إلى شرحها بإستخدام العلم كنموذج للطريقة الصحيحة للبحث في العالم، حتى عندما كانت استنتاجاتهم تتعارض مع الفطرة السليمة (كما كان الشك الراديكاليلديفيد هيوم) كان التجريبيون عمومًا مهتمين بالتوفيق بين الاثنين.

ومع ذلك لا يمكن للمرء أن يدعي أنّ الفلاسفة التحليليين قد قبلوا عالميًا المعتقدات المنطقية، ناهيك عن غياب الاستنتاجات الميتافيزيقية (فيما يتعلق بالطبيعة النهائية للواقع) من كتاباتهم، ولكن يوجد في تاريخ الحركة التحليلية سلالة قوية مضادة للميتافيزيقية، وافترض دعاة هذه الحركة عمومًا أنّ أساليب العلم والحياة اليومية هي أفضل الطرق لإكتشاف الحقيقة.

وجهة نظر راسل ومور:

حدث الانفصال الأول عن وجهة النظر المثالية القائلة بأنّ العالم المادي ليس سوى عالم من المظاهر عندما دافع مور في ورقة بعنوان “طبيعة الحكم” (1899)، عن نظرية الحقيقة التي تشير إلى أنّ العالم المادي يمتلك الوجود المستقل الذي يفترض به بسذاجة، وعلى الرغم من التخلي عن النظرية قريبًا، إلّا أنّها مثلت عودة الفلسفة البريطانية إلى الفطرة السليمة.

سرعان ما تباعدت التأثيرات على راسل ومور – وبالتالي أساليبهما في التعامل مع المشكلات – وأصبحت مقاربتهما المختلفة جذور تقاليد مختلفة على نطاق واسع في الفلسفة التحليلية، والتي يشار إليها باسم الشكلية وغير الرسمية (اللارسمية).

كان راسل الذي سيتبنى منهج الفلاسفة في التقليد الشكلاني تأثيرًا كبيرًا على أولئك الذين اعتقدوا أنّ المشاكل الفلسفية يمكن توضيحها إن لم يتم حلها باستخدام المعدات التقنية للمنطق الصوري والذين رأوا العلوم الفيزيائية على أنّها الوسيلة الوحيدة لاكتساب المعرفة بالعالم، حيث اعتبروا الفلسفة إذا كانت علمًا على الإطلاق وذلك كمشروع استنتاجي وبدائي على قدم المساواة مع الرياضيات، فكانت مساهمات راسل في هذا الجانب من التقليد التحليلي مهمة ودائمة إلى حد كبير.

وعلى عكس راسل لم يجد مور الذي كان من شأنه أن يلهم الفلاسفة في التقليد غير الرسمي حاجة ماسة لاستخدام الأدوات التقنية أو لتحويل الفلسفة إلى علم، فكانت موضوعاته المهيمنة هي الدفاع عن وجهات النظر المنطقية حول طبيعة العالم ضد وجهات النظر الباطنية أو المتشككة أو الميتافيزيقية الكبرى والاعتقاد بأنّ الطريقة الصحيحة للتعامل مع اللغز الفلسفي هي فحص السؤال الذي تم من خلاله عن كثب، وكان يعتقد أنّ المشكلات الفلسفية غالبًا ما تكون مستعصية على الحل لمجرد أنّ الفلاسفة لم يتوقفوا عن صياغة ما هو محل الخلاف بالضبط.

زوال الفلسفة اللغوية:

بحلول منتصف الستينيات من القرن الماضي كان عصر الفلسفة اللغوية يقترب من نهايته، وتعد أسباب زوالها متنوعة، ولسبب واحد كان من الواضح في هذا الوقت أنّ هناك انقسامات عميقة داخل الحركة التحليلية، خاصة بين اللغة العادية ومعسكر اللغة المثالية حول طبيعة اللغة والمعنى من ناحية وحول كيفية القيام بالفلسفة من جهة أخرى.

حتى هذه النقطة كان جوهر الفلسفة التحليلية هو الرأي القائل بأنّ المشكلات الفلسفية هي أوهام لغوية ناتجة عن انتهاك حدود المعنى، وأنّه يجب حلها عن طريق تحديد تلك الحدود بوضوح ثم البقاء ضمنها، ومع ذلك أصبح من الواضح الآن أنّ هذه لم تكن مهمة سهلة بعيدًا عن كونه ظاهرة شفافة اعتبرها المحللون الأوائل، فقد تحول المعنى اللغوي إلى ظاهرة محيرة للغاية وهو نفسه بحاجة إلى معالجة فلسفية عميقة.

في الواقع أصبح من الواضح أنّ الكثيرين ممن تمسكوا بوجهة النظر التحليلية الأساسية حول طبيعة الفلسفة قد اعتمدوا على نظريات مختلفة عن المعنى ضمنيًا في بعض الأحيان ولم يكن واضحًا بشكل كافٍ وغالبًا ما يكون غير معقول، وقد ساهم الفشل الداخلي للوضعية المنطقية جنبًا إلى جنب مع الانتقادات الخارجية لفيتجنشتاين وكواين في زوال نهج اللغة المثالية.

من ناحية أخرى رأى الكثيرون بمن فيهم برتراند راسل أنّ نهج اللغة العادية يقصر كثيرًا عن العمل الفلسفي الجاد، ولهذا السبب ولأسباب أخرى أثار نهج اللغة العادية أيضًا النار من خارج الحركة التحليلية في شكل كلمات وأشياء لإرنست جيلنر (1959) ونقد موندل للفلسفة اللغوية (1970)، حيث كان للأول على وجه الخصوص تأثير دولي كبير مما ساهم في ما أسماه (T. P. Uschanov-الموت الغريب لفلسفة اللغة العادية).

كما أنّ تضاؤل ​​الفلسفة اللغوية يشير أيضًا إلى تضاؤل ​​محاولات تحديد الطريقة الفلسفية المناسبة أو حتى مجرد الطريقة المميزة للفلسفة التحليلية، وأخذ كواين في الموضوع – أنّ الفلسفة مستمرة مع العلم في أهدافها وطرقها، وتختلف فقط في عمومية أسئلتها – التي أثبتت أنّها مؤثرة وحققت مستوى معينًا من الهيمنة لبعض الوقت، ولكن ليس إلى الحد الذي كان فيه المفهوم اللغوي كانت الفلسفة خلال سنواتها الستين.

وسرعان ما ظهرت بدائل أقل ارتباطًا بالعلوم التجريبية، مما أدى إلى أنّ الممارسة الفلسفية في الفلسفة التحليلية المعاصرة أصبحت الآن انتقائية تمامًا في بعض الدوائر، ولا يزال يُنظر إلى تطبيق التقنيات الرسمية على أنّه أمر أساسي للممارسة الفلسفية، على الرغم من أنّه من المرجح الآن أن يُنظر إليه على أنّه وسيلة لتحقيق الوضوح حول مفاهيمنا أكثر من كونه وسيلة لتحليل اللغة في دوائر أخرى، كما يُنظر إلى التعبير الدقيق في اللغة العادية على أنّه يوفر مستوى كافٍ من الوضوح.

جزئيًا بسبب رؤية كوين للفلسفة بإعتبارها مستمرة مع العلم (والتي بالطبع مقسمة إلى تخصصات)، وجزئيًا لأنّ الفلسفة التحليلية كانت دائمًا تعطى للتعامل مع أسئلة محددة بدقة في فلسفة الإنعزال عن الآخرين، فإنّ التحليل اللاحق اللغوي قسمت نفسها إلى عدد متزايد من المجالات الفرعية المتخصصة وما كان فلسفة لغوية تحول إلى ما نعرفه الآن بفلسفة اللغة.

ومن ثم ظهرت نظرية المعرفة وفلسفة العقل وفلسفة العلم وفلسفة الأخلاق والأخلاق الفوقية وحتى فلسفة الميتافيزيقيا أو عادت إلى الظهور كمجالات بحث ليست غير مبالية بالإهتمامات اللغوية ولكنها ليست لغوية في جوهرها، ومع مرور الوقت توسعت القائمة لتشمل الجماليات والفلسفة الاجتماعية والسياسية والفلسفة النسوية وفلسفة الدين وفلسفة القانون والعلوم المعرفية وتاريخ الفلسفة.


شارك المقالة: