التطور التاريخي للقانون الدولي الجنائي

اقرأ في هذا المقال


يتضمن القانون الدولي الجنائي نوعين من القواعد، القواعد الموضوعية التي تجرم انتهاكات حقوق الإنسان، والقواعد الإجرائية التي تنظم محاكمة المتهمين بارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان في الجرائم الدولية، وتوقيع العقوبات عليهم. ويمكن القول أن هناك قانون جنائي دولي صارم، بالإضافة إلى القواعد الإجرائية التي تنظم المؤسسات القضائية الدولية، فإن وجود قواعد موضوعية يجرم الجرائم أيضًا، ولا يكفي وجود قواعد موضوعية بدون قواعد إجرائية.

ويجب أن تُعبّر القواعد الموضوعية والقواعد الإجرائية أيضًا عن الإرادة الدولية؛ أي أن معظم أعضاء المجتمع الدولي قد اعترفوا بها. والفترة الحقيقية التي أصبح فيها القانون الجنائي الدولي نظامًا شاملاً يتضمن قواعد موضوعية وقواعد إجرائية (مؤسسات قضائية).

مراحل تطور القانون الدولي الجنائي:

قام الكيان بمقاضاة ومعاقبة مرتكبي الجرائم الدولية على أساس مراحل تطور القانون الدولي الجنائي من خلال أربع مراحل وهذه المراحل هي: قبل الحرب العالمية الأولى والفترة بين حربين عالميتين ومرحلة محاكمة الحرب العالمية الثانية، وأخيراً لإنشاء الأمم المتحدة ودورها في تطوير القانون الجنائي الدولي.

مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى:

بسبب عدم وجود قواعد موضوعية لتجريم انتهاكات النظام العام الدولي وحقوق الإنسان، وغياب القواعد الإجرائية لتنظيم محكمة العدل الدولية لمحاكمة المتهمين على جرائم دولية، لا يمكن مناقشة القانون الجنائي الدولي في هذه المرحلة. خلال هذه الفترة لم تكن الحرب ممنوعة في البداية، لكنها كانت وسيلة لتحقيق أهداف وطنية، رغم أنه من المستحسن أخلاقياً تقييد استخدام الحرب وحكمة.

وخلال هذه الفترة حاول بعض الفقهاء إثبات عقلانية الحرب من خلال اختراع مفهوم الحرب العادلة، واستناداً إلى مفاهيم حرب فيكتوريا يعتقد أن الحرب العادلة تهدف إلى استعادة الحق في احتلالهم جميعًا. ويؤيد غروسيوس فكرة الحرب العادلة، ويرى أن الحرب هي فقط ضد دولة أخرى، إذا كان الغرض منها معاقبة الظلم أو الظالم، ولجوء الدولة إلى الحرب ليس لمعاقبتها على معاناة دولة، ولكن هذا أيضًا بسبب انتهاك الدولة للقانون الطبيعي.

ورغم أن هذه الفترة شهدت إبرام عدة اتفاقيات تهدف إلى احترام الإنسانية في الحرب، كان من أهمها اتفاقيات لاهاي لعامي 1899 و 1907، إلا أن دورها اقتصر على حظر استخدام الأسلحة الفتاكة في الحرب. ولكنهم لم يجرموا الحرب، ولم توصف الحرب بالجريمة الدولية، كما أوضح بالنسبة له استخدام الوسائل المحظورة هو ممارسة جرائم حرب، بعض الأفعال خلال الحرب لا معنى لها طالما أنها لا تتعلق بانتهاك الحظر أو عقوبات الإدانة.

مرحلة ما بين الحربين العالميتين:

اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914 وانتهت عام 1918 بانتصار الحلفاء، حيث ارتكبت خلالها جرائم خطيرة ضد الإنسانية. لذلك بدأ النقاش بمفهوم العقوبة الدولية والمسؤولية الجنائية وضرورة معاقبة القادة الألمان لشن حروب عدوانية وانتهاك قواعد وأعراف الحرب.

ويواجه الحلفاء بعض الصعوبات في فرض العقوبة على المتهمين، فمن ناحية، لا تعتبر الحرب العدوانية جريمة، ومن ناحية أخرى، لا تنص اتفاقية لاهاي على أي عقوبة أو أي مؤسسة قضائية دولية لمحاكمة المتهمين بانتهاك قوانين وأعراف الحرب. ولذلك بدأ الفقهاء في هذه الدول بالسعي إلى الأساس القانوني للمحاكم الوطنية للقيام بهذه المهمة، حيث ينقسم الفقه إلى اتجاهين: الاتجاه الأول يعارض معاملة المحاكم الوطنية لمواطني الدول المعادية المتهمين بارتكاب جرائم حرب، الاتجاه الثاني يدعم اختصاص الدول في محاكمها على المواطنين المتهمين بارتكاب جرائم حرب

ومن أجل حل هذا الخلاف، أنشأ المؤتمر التحضيري للسلام الذي عقد في باريس عام 1919 لجنة تسمى “لجنة المسؤولية” لمناقشة جميع الجوانب القانونية للمسؤوليات الناجمة عن الحرب، حيث كان تقرير (لجنة المسؤولية) يميز المسؤولية الجنائية الدولية بين شخصين: الفئة الأولى متهمة بانتهاك قوانين وأعراف الحرب ضد دولة أو مواطنيها. ويخضع هؤلاء المتهمون للمحاكمة في محاكم الدولة المتضررة، أما الفئة الثانية المتهمون بارتكاب أفعال تضر بعدة دول، مثل إصدار أوامر بارتكاب جرائم في أراضي عدة دول أو عدم اتخاذ تدابير لمنع ارتكاب هذه الجرائم. وقد عوقب في محكمة العدل الدولية المؤلفة من 22 قاضياً من البلدان المتضررة. وبشأن المسؤولية عن حروب العدوان خلصت الهيئة إلى عدم وجود عقوبة على التحريض على العدوان، لعدم وجود قانون دولي سابق يحظر اللجوء إلى الحرب وينص على عقوبات جنائية على الانتهاكات.

مرحلة محاكمات الحرب العالمية الثانية:

كان لتطور القانون الدولي الجنائي في هذه المرحلة أثر كبير، حيث تميّزت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بتطورات مهمة، بما في ذلك محاولات الدول المنتصرة لوضع قواعد قانونية دولية لتجريم الأفعال التي ارتكبتها دول المحور خلال الحرب، حيث أنها كانت تشكل جرائم دولية.

مرحلة قيام  الأمم المتحدة ودورها في نشأة القانون الدولي الجنائي

ويمكن القول دون تحفظ إن هذه المرحلة تعتبر بالفعل نشوء القانون الجنائي الدولي. وفي هذه المرحلة تشارك إرادة مختلف الدول في بناء هذا القانون من خلال منظمة الأمم المتحدة، وفي المرحلة السابقة صاغت الدولة المنتصرة القانون الجنائي بشكل مستقل. وعاقب أولئك الذين فشلوا في الحرب العالمية الثانية؛ لأن الأمم المتحدة اتخذت احترام حقوق الإنسان وتعزيزها كهدف رئيسي لها، وحاولت تحقيق هذا الهدف من خلال الإعلان العالمي والعهد الدولي لحقوق الإنسان. ومن ناحية أخرى، يجب تطوير طريقة قوية أخرى لحماية هذه الحقوق من الانتهاكات المحتملة. ولذلك، ظهور القانون الجنائي الدولي وأهميته المتزايدة.

وبدأت الأمم المتحدة في تدوين قواعد القانون الجنائي الدولي والإشراف على إبرام الاتفاقيات الدولية المعيارية التي تحدد القواعد الجنائية الدولية التي ستكون مصدر القانون. ومع ذلك، لا بُدّ من القول إن ظهور القانون الجنائي الدولي كنظام شامل قد مر بمرحلتين. فالقواعد الموضوعية التي تعرف الأفعال على أنها جرائم جنائية، والقواعد الإجرائية للمؤسسات القضائية الدولية التي لها الحق في ممارسة القواعد الموضوعية قد مرت بفترتين، فالفترة الأولى من تأسيس الأمم المتحدة إلى العقد الأخير من القرن العشرين (فترة الحرب الباردة والفترة الثانية)، والفترة الثانية العقد الأخير من القرن العشرين حتى الوقت الحاضر، وفيما يلي توضيح مبسط لكل منهما:

أولاً: الفترة من قيام الأمم المتحدة حتى العقد الأخير من القرن العشرين- فترة الحرب الباردة:

خلال هذه الفترة، اقتصرت الجهود الدولية تحت إشراف الأمم المتحدة على صياغة القواعد الموضوعية للقانون الجنائي الدولي، ولم تشكل القواعد الإجرائية للمحكمة الجنائية الدولية، لأن القواعد القانونية التي تشارك فيها الدول من خلال الاتفاقيات الدولية أو القواعد القانونية التي صاغتها الجمعية العامة تفتقر إلى تنفيذ أي قانون جنائي دولي. وبما أن العدالة الجنائية الدولية أصبحت ضحية للحرب الباردة، فقد شهد مرتكبو انتهاكات حقوق الإنسان العديد من النزاعات المسلحة الدولية خلال هذه الفترة، ولم يتم إنشاء هذه النزاعات كآليات دولية للتحقيق أو المحاكمة.

ثانياً: الفترة من العقد الأخير من القرن العشرين إلى الوقت الحاضر:

شهدت هذه الفترة تطوراً هائلاً في القانون الجنائي الدولي؛ لأنه أصبح نظاماً قانونياً شاملاً، وأنشأ المحكمة الجنائية الدولية لوقف انتهاكات حقوق الإنسان وتطبيق القواعد الموضوعية للقانون الجنائي الدولي. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيات، كان انهيار التوازن الدولي حافزًا للحركة لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، لكن عيب هذا الإنجاز هو أن هذه المحاكم تم تطبيقها بشكل انتقائي على الجرائم الدولية.

وكانت الخطوة الأولى في إنشاء المحكمة الجنائية الدولية بعد انتهاك حقوق الإنسان في يوغوسلافيا في عام 1993، ثم في رواندا في عام 1994. وأنشأ مجلس الأمن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا بموجب القرار رقم 827 في عام 1993 وقراره رقم 955 في عام 1993 حيث تم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية لرواندا. وتتمتع هذه المحاكم بالخصوصية والطابع المؤقت والاختصاص القضائي، وتواصل العمل الجاد لإنشاء محكمة جنائية دولية دائمة تغطي ولايتها جميع القضايا المستقبلية وتعاقب على جميع انتهاكات حقوق الإنسان.

كما اتخذت هذه الفترة خطوة مهمة للغاية في نطاق القانون الجنائي الدولي، حيث أنهت لجنة القانون الدولي صياغة القانون الجنائي لعام 1996 الذي يهدد سلام البشرية وأمنها، وقد تم تقديم مشروع القانون إلى الجمعية العامة لمناقشته والتوقيع عليه. حيث يحتوي مشروع المدونة على عشرين مقالة يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء:

  • مقتطف من المادة 1-10، بما في ذلك نطاق ونطاق تطبيق هذا القانون.
  • المواد من 11 إلى 15 والتي تحدد الضمانات القضائية المعترف بها للمتهمين بارتكاب أي جريمة بموجب القانون.
  • تتضمن المواد من 16 إلى 20 الخطوط العريضة للجرائم التي تمس سلام البشرية وأمنها. ومع إنشاء المحكمة الجنائية الدولية في عام 1998 ودخول نظامها الأساسي حيّز النفاذ في عام 2002، تم تحسين هيكل القانون الجنائي الدولي. ويتضمن قواعد موضوعية لتجريم السلوكيات وقواعد إجرائية لتنظيم المحكمة الجنائية الدولية لمعاقبة الجناة الذين ينتهكون حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي. وبسبب إنشاء المحكمة وفقًا للاتفاق الذي تم التوصل إليه بين الأمم المتحدة وحكومات سيراليون، فإن مكانة القانون في المجتمع الدولي تتحسن باستمرار.

شارك المقالة: