اقرأ في هذا المقال
على الرغم من أن البعض داخل الانضباط الأنثروبولوجي يجادل بأن علماء الأنثروبولوجيا يجب أن يقدموا تقارير موضوعية عن الثقافات والظواهر الاجتماعية التي يدرسونها، وبالنظر إلى بنية الخطاب المحيط بالعولمة من الصعب بشكل متزايد تجنب التصنيف على إنه مؤيد أو مناهض للعولمة، وفي الحقيقة وبالرغم من ذلك كان للعولمة في الحياة اليومية آثار إيجابية وسلبية.
مزايا تكثيف العولمة من وجهة نظر الأنثروبولوجيا:
جادل عالم الأنثروبولوجيا السياسي مانفريد ستيجر بأن الأشكال الإنسانية للعولمة لديها القدرة على المساعدة في التعامل مع بعض أكثر القضايا إلحاحًا في هذا العصر، مثل تصحيح التفاوتات المذهلة بين الأغنياء والفقراء أو تعزيز الحفظ، فقد جعل موقع (media scape) الناس في شمال الكرة الأرضية بشكل متزايد على دراية بالظلم الاجتماعي الذي يحدث في أجزاء أخرى من العالم، كما يسلط كيلسي تيمرمان الضوء في كتابه عن الثوب العالمي على الجهود التي يبذلها النشطاء بدءًا من المظاهرات العامة التي تندد بصناعة الفراء لمقاطعة المنتجات التي يتم إنتاجها بطرق غير مستدامة اجتماعيًا.
في حين أن العديد من هذه الجهود لا ترقى إلى مستوى النتائج المرجوة وتتغاضى عادةً عن تعقيدات أوضاع العمل حيث تعتمد العائلات غالبًا على العمالة من أطفالهم لتغطية نفقاتهم، ومثل هذه الأمثلة تؤكد مع ذلك الصلات بين الناس إذ يشعر موقع واحد الآن بصلات مع الآخرين الذين لن يلتقوا بهم أبدًا من خلال سلاسل السلع التي تربطهم، كما سهلت العولمة صعود حركات التضامن التي لم يكن من المحتمل حدوثها في حقبة سابقة، وبغض النظر عن أوجه القصور فإنها لا تزال قائمة على مدى السرعة التي يمكن أن تكسبها حركات التضامن من الزخم بفضل الابتكارات التكنولوجية مثل وسائل التواصل الاجتماعي.
وتعد برامج القروض الصغيرة وجمع الأموال من مصادر جماعية أكثر الطرق التي ينتمي إليها الأفراد وأصبحت الظروف المتباينة مرتبطة في العصر العالمي، و(Kiva) على سبيل المثال هو تمويل صغير منظم تمكن أي شخص لديه اتصال بالإنترنت من تقديم تبرع صغير (25 دولارًا) إلى مشروع فردي أو تعاوني في أجزاء مختلفة من العالم النامي، والمشاريع التي من أجلها الأفراد والمجموعات تسعى للحصول على تمويل موصوفة على موقع (Kiva) ويختار المانحون واحدًا محددًا أو أكثر من هذه المشاريع لتدعمها.
ويجب على المستلم بعد ذلك سداد القرض إلى كيفا مع الفائدة، ويتبع جمع الأموال من مصادر جماعية مبدأً مشابهًا، وإن كان بدون اشتراط هذه الأموال إلى الجهات المانحة، ويتضمن أحد الأمثلة الصغيرة الحجم الأموال التي تم جمعها بهذه الطريقة لأعضاء هيئة التدريس لفئة البحث المرئي التطبيقي في دانغريجا في عام 2014.
كما سهلت العولمة التقدم في تقنيات النقل، إلى جانب زيادة الوعي الإنساني بالأزمات في الخارج وهو وعي يتم تسهيله إلى حد كبير من خلال التقدم في تقنيات الاتصال، وأيضًا إنشاء مناظير عرقية جديدة، فبرامج مثل (Peace Corps) لها تاريخ طويل نسبيًا في إرسال الغربيين إلى دول أجنبية للمساعدة في الجهود الإنسانية على أساس منتظم، كالمتطوعون الذين تمت تعبئتهم في أوقات الأزمات، فقد يتطوع المهنيون الطبيون بخدماتهم أثناء وباء المرض، ويتدفقون على المناطق التي يحاول الآخرون الفرار منها.
وقد يتطوع المهندسون بوقتهم للمساعدة بإعادة بناء المدن في أعقاب الكوارث الطبيعية، وحتى الأشخاص العاديون الذين ليس لديهم مجموعة مهارات متخصصة قد يفعلون ذلك ويبذلون طاقتهم لمساعدة الآخرين في أعقاب وقوع كارثة، أو عن طريق جمع أو التبرع بالسلع لاستخدامها في جهود الإغاثة المختلفة، ففي عام 2010، ضرب زلزال مدمر بقوة 7.0 درجات هايتي، مما أثر على ما يقدر بثلاثة ملايين شخص، وبفضل التغطية الواسعة للأزمة الدولية كانت الاستجابة فورية ومكثفة مع أكثر من عشرين دولة ساهمت بالموارد والأفراد للمساعدة في جهود الإنعاش، لذلك من الواضح إذن أن هناك أيضًا فوائد تيسرها تكثيف العولمة.
مساوئ تكثيف العولمة من وجهة نظر الأنثروبولوجيا:
في القسم السابق تم الإشارة إلى الكيفية التي يمكن أن يؤدي بها تكثيف العولمة أن تعود بالفائدة على الناس في أوقات الأزمات من وجهة نظر الأنثروبولوجيا، ومع ذلك يجدر التذكير والتأكيد على أن مثل هذه الأزمات في بعض الأحيان هي نفسها التي أحدثتها العولمة، فهلاك القبائل الأصلية في الأمريكتين الذين لم يكن لديهم مقاومة تذكر للأمراض التي حملها المستكشفون والمستوطنون الأوروبيون، ليسوا سوى واحد من الأمثلة المبكرة على ذلك، فقد تكون مثل هذه التغييرات في الأعراق البشرية في العالم مصحوبة أيضًا بالتغييرات للصحة المحلية.
حيث أن وباء بعد وباء ألحق الخراب بالسكان الأصليين في الأمريكتين، إذ وصلت معدلات الوفيات في بعض القبائل إلى 95٪، ولمعالجة الحالة الحالية تم البحث عن برنامج تغير المناخ والزراعة والأمن الغذائي التي لفتت الانتباه إلى دور تغير المناخ من صنع الإنسان في خلق أزمة اللاجئين الحالية. وبالمثل هناك مثال حالي على كيف يمكن للعولمة أن تسبب كارثة من وجهة نظر الصحة العامة وهو بشأن ركاب الطائرات المصابين الذين جلبوا فيروس الإيبولا من إفريقيا إلى الولايات المتحدة في مارس 2014، حيث شهدت دولة غينيا تفشي فيروس الإيبولا.
ومن هناك انتشر في العديد من البلدان في الجزء الغربي من أفريقيا، فالمهنيين الطبيين من الولايات المتحدة سافروا إلى غرب إفريقيا للمساعدة في رعاية المرضى، وفي أكتوبر 2014 مراكز السيطرة على الأمراض أكدت أن رجلاً سافر من ليبيريا إلى الولايات المتحدة بدون أعراض ثم أصبح مريضًا بعد عدة أيام من وصوله إلى الولايات المتحدة واستسلم في النهاية للمرض، والعديد من عمال الصحة أصيب في الولايات المتحدة أيضًا بالفيروس لكنهم عولجوا بنجاح.
واستجابةً لهذا التفشي زاد مركز السيطرة على الأمراض من جهود الفحص في الموانئ الرئيسية لدخول الولايات المتحدة، ومع ذلك فإن هذه الاحتياطات لم تهدئ مخاوف العديد من الأمريكيين الذين ناقشوا بشدة إمكانية إنشاء حظر السفر من وإلى البلدان التي لديها حالات مؤكدة للإيبولا، وكانت المناقشات حول حظر السفر من وإلى غرب إفريقيا بمثابة تذكير بالمواقف المعادية للأجانب التي يحتفظ بها العديد من الأمريكيين حتى في عصر العولمة هذا، وهناك اسباب كثيرة لهذا، حيث لا يزال التحيز العنصري حقيقة واقعة في عالم اليوم.
كما هو الحال مع التحيز ضد الأديان الأخرى، والهوية الجنسية غير المعيارية، وذوي القدرات المختلفة، وغيرهم، وببعض الطرق قد زادت العولمة من حدة هذه المخاوف بدلاً من تضاؤلها، خاصة بعد ركود العالمية عام 2008، إذ أصبحت بعض الدول القومية خائفة على أمنها الاقتصادي ووجدت من السهل استخدام الفئات المهمشة ككبش فداء، بينما التطورات في تكنولوجيا الاتصالات مكنت حركات التضامن التي تركز على العدالة الاجتماعية، وللأسف نفس الشيء تم استخدام وسائل الإعلام كمنصة لترويج الكراهية من قبل الآخرين.
حيث تمكن وسائل التواصل الاجتماعي أولئك المتنمرين لبث انتقاداتهم أكثر من أي وقت مضى، كما تمكن وسائل التواصل الاجتماعي الإرهابيون من نشر مقاطع فيديو عن العنف لأفراد ربما تكون مواقفهم بغيضة لهم، كما يمكن الآن العثور على مجتمعات المتعصبين المتشابهين في التفكير في غرف الدردشة عبر الإنترنت، وكان هذا واضحًا في الحملات الناجحة للتصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2016.
يشير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لرد فعل عنيف ضد بعض أوجه عدم المساواة الناتجة من العولمة، فعلى الصعيد العالمي يواصل الشمال العالمي استخراج الثروة من جنوب العالم، والأمر الأكثر دلالة هو اتساع فجوة الثروة في البلدان الفقيرة، بدون كافي الحماية الاجتماعية، حيث أدى إلى وضع يتحكم فيه الآن أغنى ثمانية رجال في العالم بسكان العالم بأسره، بعبارة أخرى في حين أن العولمة قد سهلت مزايا للبعض، أيضاً عملت على تخلف المزيد والمزيد من الناس عن الرَكب.
وغالبًا ما يستخدم علماء الأنثروبولوجيا مصطلح إعادة التوطيد لوصف الجهود التي يبذلها الأشخاص لإعادة تأكيدهم على القيم التقليدية وأساليب الحياة، وفي حين أن هذا الدافع مفهوم إلا أن العديد من هؤلاء الأشخاص معرضون لخطاب إلقاء القبض على كبش الفداء، حيث يتم إخبار مجموعة أخرى بأنها مخطئة في المشكلات التي يواجهونها، وهذا هو سيف العولمة ذو الحدين، بالإضافة إلى ذلك في بعض حالات العولمة يتم فرض قيود على السكان المهمشين بالفعل في الدول المحيطية من خلال مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنوك العالمية.
وفي هذه الحالات تسهل العولمة وتضخم وصول وتأثير الليبرالية الجديدة، وهي فلسفة سياسية واقتصادية متعددة الأوجه تؤكد على الخصخصة والأسواق غير المنظمة.