فترة حكم بايزيد الثاني

اقرأ في هذا المقال


ذروة القوة العثمانية(1481-1566):

حققت الإمبراطورية العثمانيّة ذروة قوتها وثروتها، وسيطرت على جنوب شرق أوروبا والشرق الأوسط خلال القرن الذي أعقب حكم السلطان محمد الثاني، ووسعت الفتوحات الجديدة نطاقها إلى وسط أوروبا وفي جميع أنحاء الجزء العربي من الخلافة الإسلاميّة القديمة، وتمّ إضفاء الطابع المؤسسي على مزيج جديد من المنظمات والتقاليد السياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وتطويرها إلى كيان حي.


كان عهد الخليفة المُباشر لمحمد الثاني، ابنه بايزيد الثاني (1481-1512)، فترة راحة إلى حد كبير، تمّ توحيد الفتوحات السابقة، وتمّ حل العديد من المشكلات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة الناجمة عن سياسات السلطان محمد الداخلية، تاركًا أساسًا قويًا لفتوحات سلاطين القرن السادس عشر.


أدت القيود الاقتصاديّة المفروضة على تمويل حملات السلطان محمد الفاتح خلال العام الأخير من حكمه إلى حرب أهليّة افتراضيّة بين الفصائل الرئيسيّة في اسطنبول، والحزب الديموغرافي والأرستقراطيّة التركيّة.


نصّب الإنكشاريّون بايزيد الثاني على العرش، بسبب هيمنتهم العسكريّة على العاصمة، بينما هرب شقيقه الأكثر تشددًا جيم إلى الأناضول، حيث قاد ثورة دعمها في البداية الوجهاء الأتراك، ومع ذلك، تمكن السلطان بايزيد من الإتفاق مع الوجهاء الأتراك، من خلال الكشف عن خططه الهادئة في الأساس، والتي أدت إلى خفض مستوى الدوشيرمة، وترك جيم دون دعم كبير.


هرب جيم إلى المنفى في سوريا المملوكيّة في صيف عام (1481)، وعاد في العام التالي بمساعدة المماليك وآخر حكام تركمان كرمان، لكن جهوده لتأمين دعم التركمان الرحل باءت بالفشل بسبب انجذابهم له، بسبب سياسات بايزيد الدينيّة.


بقي جيم في المنفى، أولاً في بلاط فرسان رودس الصليبيّين ثم مع البابا في روما، حتى وفاته عام (1495)، باءت الجهود الأوروبيّة لاستخدامه كرئيس حربة لحملة صليبيّة جديدة لاستعادة اسطنبول بالفشل.ومع ذلك، فإنّ التهديد بأن جيم قد يقود هجومًا خارجيًّا أجبر بايزيد على التركيز على تهدئة الأوضاع في الداخل، تمت إعادة معظم الممتلكات التي صادرها والده بسبب الحملات العسكريّة إلى أصحابها الأصليين.


تمّ إنشاء نظام ضرائب متساوية داخل الإمبراطوريّة، حتى يتمكن جميع الأشخاص من الوفاء بالتزاماتهم تجاه الحكومة على خلاف الاضطراب وعدم الرضا الذي كان يميز النظام السابق، كان من المهم بشكل خاص إنشاء ضريبة avâriz-ı divaniye (“صندوق الحرب”)، والتي كانت تنص على النفقات غير العادية للحرب دون مصادرة خاصة أو جبايات باهظة.


تمت استعادة قيمة العملة المعدنيّة، وأخيراً تمّ تنفيذ خطط السلطان محمد الثاني للتوسع الاقتصادي، ولهذه الغاية، تمّ تشجيع آلاف اليهود الذين طردتهم محاكم التفتيش من إسبانيا خلال صيف عام (1492) على الهجرة إلى الإمبراطوريّة العثمانيّة، استقروا بشكل خاص في إسطنبول، وسالونيك (سالونيك حاليًا، اليونان)، وأديرنة، حيث انضموا إلى إخوانهم في الديانة في العصر الذهبي لليهود العثمانيين الذي استمر حتى القرن السابع عشر، عندما تدهورت الإمبراطوريّة العثمانيّة وازدادت قوة الدبلوماسيين الأوروبيين.


قام التجار بالترويج لمصالح رعايا السلطان المسيحيين على حساب المسلمين واليهود على حد سواء، أكمل بايزيد الثاني الجهد الذي بدأه محمد الثاني لاستبدال التابعين بالإدارة العثمانيّة المُباشرة في جميع أنحاء الإمبراطوريّة، لأول مرة عملت الحكومة المركزيّة بانتظام في ظل ميزانية متوازنة ثقافيًا، أثار بايزيد رد فعل قويًا ضد اتجاهات التنصير في نصف القرن الماضي، تمّ التأكيد على اللغة التركيّة والتقاليد الإسلاميّة.


نظرًا لأنّ بايزيد نفسه كان صوفيًا، فقد جلب الطقوس والتعاليم الصوفيّة إلى مؤسسات وممارسات الإسلام السنة من أجل مواجهة الخطر المتزايد للشيعة غير التقليديّة بين قبائل شرق الأناضول، على الرغم من أنّ السلطان بايزيد فضل الحفاظ على السلام – من أجل الحصول على الوقت والموارد للتركيز على التنمية الداخلية – فقد أجبر على المُشاركة في عدد من الحملات بسبب مقتضيات الفترة ومطالب أتباعه الأكثر تشددًا.


في أوروبا قام بتطويق الإمبراطوريّة الواقعة جنوب نهري الدانوب والسافا بالاستيلاء على الهرسك (1483)، تاركًا بلغراد فقط خارج السيطرة العثمانيّة، كان الملك المجري ماتياس كورفينوس (1458-90) مُهتمًا بشكل أساسي بتأسيس حكمه على بوهيميا ووافق على السلام مع العثمانيين (1484)، وبعد وفاته، ترك الصراع على الخلافة تلك الجبهة هادئة نسبيًا لما تبقى من فترة حكم السلطان بايزيد.


في الشمال الشرقي، دفع السلطان الأراضي العثمانية شمال نهر الدانوب، على طول شواطئ البحر الأسود، واستولى في عام (1484) على موانئ كيليا (كيليا الحالية) وأكرمان (بيلهورود دنيستروفسكي) – وكلاهما في ما يعرف الآن بأوكرانيا – سيطرت على أفواه نهر الدانوب ودنيستر.


وهكذا سيطر العثمانيّون على المحلات التجاريّة الرئيسية للتجارة في شمال أوروبا مع البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، ولأنّ هذه التطورات تعارضت مع طموحات بولندا، فقد نشبت الحرب في (1483-1484) حتى تحولت بولندا بسبب تهديد موسكوفي تحت حكم إيفان الثالث العظيم، ممّا أدى إلى هدوء تلك الجبهة أيضًا بعد (1484).


اتجه السلطان بايزيد بعد ذلك إلى الشرق، حيث أدت الفتوحات السابقة حتى نهر الفرات إلى وصول العثمانيّين إلى إمبراطوريّة المماليك، كان هناك صراع من أجل السيطرة على الإمارة التركمانية الصغيرة (ذو القدر)، وكذلك سيطر العثمانيون على جزء كبير من قيليقيا في جنوب الأناضول والجبال جنوب بحيرة فان، كان هناك رغبة عثمانيّة في السيطرة على المدن الإسلاميّة المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة.


وقعت حرب متقطعة (1485-1491)، لم تكن تلك الحرب حاسمة، ومع ذلك، أدى عدم رغبة بايزيد في إلزام قوى رئيسيّة بالمساعي إلى الخلاف والانتقاد من جانب أتباعه الأكثر تشددًا، لمواجهة ذلك، حاول بايزيد استخدام الخلاف الداخلي المجري للاستيلاء على بلغراد، ولكن دون جدوى، تمّ إرجاع القوات المهاجمة المرسلة إلى ترانسيلفانيا وكرواتيا وكارينثيا (ولاية كارنتين الحاليّة، النمسا) إلى الوراء.


في عام (1495) توفي جيم وترك سلام جديد مع المجر أهداف بايزيد غير محققة، لذلك اتجه نحو البندقية، عدوه الأوروبي الرئيسي الآخر، كانت البندقيّة تشجع الثورات ضد السلطان في موريا (بيلوبونيز) ودالماتيا وألبانيا، التي تنازلت عنها للعثمانيّين عام (1479).


كما سيطرت على قبرص (1489) وبنت هناك قاعدة بحريّة رئيسيّة، وهو ما تمّ رفضه، وهذا كان يساعد السلطان بايزيد بحربه ضد المماليك، وبدلاً من ذلك، استخدم البنادقة قبرص كقاعدة لهجوم القراصنة ضد السفن والشواطئ العثمانيّة، مما يشير إلى الأهميّة الاستراتيجيّة للجزيرة بالنسبة للسلطان.


كان بايزيد يأمل أيضًا في احتلال آخر موانئ البندقيّة في موريا لإنشاء قواعد للسيطرة البحريّة العثمانيّة الكاملة على شرق البحر الأبيض المتوسط، تم تحقيق كل هذه الأهداف، باستثناء السيطرة على قبرص، في الحرب مع البندقيّة التي تلت ذلك في (1499-1503).


ظهر الأسطول العثماني لأول مرة كقوة بحريّة رئيسية في البحر الأبيض المتوسط ​، وأصبح العثمانيّون جزءًا لا يتجزأ من العلاقات الدبلوماسيّة الأوروبية، لم يكن بايزيد قادرًا على استخدام هذا الوضع للقيام بغزوات جديدة في أوروبا، لأنّ صعود الثورات في شرق الأناضول استحوذ على الكثير من اهتمامه خلال السنوات الأخيرة من حكمه.


هناك استؤنف الصراع القديم بين الرحل غير المتحضرين المستقلين والحضارة العثمانيّة في الشرق الأوسط المستقرة، قاوم التركمان الرحل جهود العثمانيين لتوسيع سيطرتهم الإدارية على جميع أنحاء الإمبراطورية.


كرد فعل على المؤسسة الإسلاميّة، طور البدو ارتباطًا متعصبًا بقادة الطرق الصوفيّة والشيعيّة وكان أنجح هؤلاء هم الصفويّين في أردابيل، وهي جماعة صوفيّة تركيّة هاجرت إلى هناك من شرق الأناضول مع سبع قبائل تركمانية (تسمى كيزلباش [“حمر الرؤوس”] بسبب استخدامهم لغطاء رأس أحمر يرمز إلى ولائهم) ؛ استخدم الصفويّون نداءً دينيًّا وعسكريًّا مشتركًا لغزو معظم إيران.


في ظل حكم الشاه إسماعيل الأول (1501–24)، أرسل الصفويّون مبشرين في جميع أنحاء الأناضول، ونشروا رسالة دينيّة وثورة سياسيّة ليس فقط بين الشعوب القبليّة ولكن أيضًا للمزارعين وبعض العناصر الحضريّة، الذين بدأوا يرون في تلك الحركة الإجابات على مشاكلهم الخاصة.


نتج عن ذلك سلسلة من الثورات لم يكن بايزيد قادرًا أو غير راغب في قمعها، بسبب انخراطه في أوروبا ولأنّ تفضيلاته الصوفيّة دفعته إلى التعاطف مع الرسالة الدينيّة للمتمردين، أخيرًا، في بداية القرن السادس عشر، دفعت انتفاضة الأناضول العامة بايزيد إلى رحلة استكشافيّة كبرى (1502-1503) دفعت الصفويّين والعديد من أتباعهم التركمان إلى إيران.


هناك تحول الصفويون من الصوفية إلى الشيعة غير التقليدية كوسيلة لكسب ولاء الفرس لسلالة تركيّة واصل إسماعيل، مع ذلك، نشر رسالته كزعيم صوفي في الأناضول، ممّا أدى إلى ثورة كبرى ثانية لأتباعه ضد العثمانيين (1511).


اندمجت جميع المظالم في ذلك الوقت في ما كان في الأساس انتفاضة دينيّة ضد الحكومة المركزيّة، ولم يكن بوسع سوى حملة كبيرة بقيادة الوزير الأكبر علي باشا قمعها، لكن الظروف التي تسببت في الانتفاضة ظلت مشكلة رئيسيّة لخليفة بايزيد، في النهاية، دفعت طبيعة بايزيد الصوفيّة والهادئة بشكل متزايد الإنكشاريّة إلى الإطاحة به لصالح ابنه المتشدد والنشط سليم الأول.


شارك المقالة: