ولاية العهد العباسي والحرب الأهلية عام 193 - 198 هجري

اقرأ في هذا المقال


ولاية العهد والحرب الأهلية (193 – 198 هجري):

سار العباسيون في نظام توليه العهد لأكثر من واحد، على غرار ما سار عليه الأمويون، ولعل من أهم أسباب الرئيسية الذي حدى بالعباسيين إلى عملية تبني هذا النظام هو إبقاء الخلافة في البيت العباسي، فقد عهد أبو العباس بالخلافة إلى أخيه أبو جعفر المنصور على أن يكون من بعده ابن أخيه عيسى بن موسى إلا أنَّ المنصور لم يلتزم بهذا العهد فقد أعد ابنه محمد المهدي ليكون خليفة بعده، لذلك مارس ضغوطاً عديدة على عيسى للتنازل عن ولاية العهد لصالح ابنه، ونجح بالتالي في ذلك، على أن يكون عيسى ولياً للعهد بعد المهدي.

إنَّ حب الوالد لأولاده والرغبة في إبقاء الخلافة في الأعقاب لم يكن مقتصراً على المنصور، بل وصل وتعدى إلى ابنه المهدي حيث قام بتعيين ولده موسى الهادي بعد أن أجبر (رغبة أو رهبة)، عيسى بن موسى على التنازل عن ولاية العهد عام (160 هجري)، وفي عام (166 هجري)،‏ عين ابنه هارون الرشيد لولاية العهد على أن يكون بعد أخيه موسى.

وقد عانى الرشيد من سوء تصرفات أخيه الهادي بسبب ولاية العهد، حيث لاقى الكثير من الإهانات، لذلك فإنَّ قرار الرشيد بتوليه العهد لأكثر من واحد، مهما كان التبرير، يُعد خطأ فادحاً، وكان عليه أن يستفيد من تجربته هو مع أخيه، فكيف به وقد قسم الدولة بين أولاده على ما يدير من أقاليم. ففي عام (173 هجري)، عين الرشيد ابنه محمداً ولياً للعهد وسماه (الأمين)، وكان صغير السن جداً، وفي رواية الطبري ما يشير إلى أنَّ الرشيد وقع تحت تأثير الفضل البرمكي في هذا التعيين، وفي عام (175 هجري)، جعل الأمين مسؤولاً عن أقليمي العراق والشام.

وعند زيارة الرشيد للرقة بعد انتهائه من مناسك الحج في أول عام (182 هجري)، أعلن تعيين ابنه الآخر عبد الله (المأمون)، ولياً للعهد، على أنّ يلي بعد أخيه، وقام بتعيين جعفر البرمكي مُشرفاً على شؤونه، والملاحظ على هذا التعيين أنه رافقه منحه مسؤولية إدارة أقاليم المشرق من همدان إلى آخر المشرق، على أنا يجب أن نشير إلى أن الرشيد (عند إعلانه تعيين عبد الله المأمون ولي للعهد)، لم يكن مُحاطأ بالبرامكة فحسب، وإنما بكتل أخرى كانت تناهض البرامكة كجعفر بن أبي جعفر المنصور وعبد الملك بن صالح العباسي والقائد علي بن عيسى بن ماهان الذين رافقوا الأمير المأمون إلى بغداد، وأعلنوا البيعة فيها.

الأحداث التي جرت بعد الحرب الأهلية:

في عام (186 هجري)،‏ أعلن الرشيد تعيين ابنه الثالث القاسم ولياً للعهد بعد أخيه المأمون وسماه (المؤتمن)، ومنحه مسؤولية الإشراف على إقليم الجزيرة والثغور والعواصم، ويفهم من الطبري، أن الرشيد كان تحت تأثير عبد الملك بن صالح العباسي في هذا التعيين هذا إذا لاحظنا أن عبد الملك العباسي نفسه كان من ضمن الكتلة التي أحاطت بالرشيد عند البيعة للمأمون.

وقد اختلف تقويم المجتمع حين ذاك، بقرارات الرشيد فقال البعض قد استبد أمر الملك، وقال بعضهم: بل رمى بأسهم بينهم، ونتيجة ما صنع في ذلك خوف على الناس، والتقويم الثاني، وكان صحيحاً إلى حد ما، ذلك أنَّ قرار الرشيد بتقسيم الدولة بين أبنائه، أدى إلى خلق مراكز قوى، أو كتل متعددة في البلاط، أحاطت بهذا الأمير أو ذاك، وكل كتلة كانت ترغب في الحفاظ على مصالحها من خلال ولي العهد، الذي تؤيده.

لكن البرامكة كانت من أبرز الكتل، بسبب إشراف الفضل على محمد (الأمين) من جهة، وإشراف أخيه جعفر على عبد الله (المأمون) من الجهة الأخرى، وربما كانت لديهم خطة مدبرة لزرع الشقاق بين الأخوين لأهداف بعيدة لها علاقة بتطلعاتهم الفارسية، إنَّ قول يحيى البرمكي عند سماعه بقتل ابنه جعفر على يد الرشيد (كذلك سيقتل ابنه)، قال: فقيل له: خربت ديارك، قال يحيى: كذلك ستخرب دورهم، ما يشير إلى أول مخططهم التآمري، باستغلال ثغرة ولاية العهد لأكثر من واحد.

ومهما يكن من أمر فإن الرشيد أدرك الخطأ الذي وقع فيها، فاتخذ عدة قرارات الغرض منها التخفيف من نتائجه، فبادر أولاً في حج عام (186 هجري)،‏ إلى كتابة عهد بين ولديه، احتاط فيه من أحدهما على الآخر، وركز على أخذ العهود والمواثيق على ولي العهد الأول محمد الأمين، وهي على العموم في صالح المأمون، وعلق العهود في الكعبة المشرفة، وقام ثانياً بعزل كل من له علاقة بقرارات ولاية العهد، فأول قرار أصدره كان تصفية البرامكة وذلك عام (187 هجري). ومصادرة أملاكهم، وبعده وضع عبد الملك ابن صالح العباسي في الإقامة الجبرية في داره وصادر أمواله وأملاكه وسلاحه، وأوعز إلى ابنه القاسم بمهاجمة الروم البيزنطيين، فوهبه لله وجعله قرباناً له ووسيلة، مما يشعرنا بأن الهدف كان بث الدعاية له ليكون محط أنظار الناس أسوة بأخويه.

لكن الغريب أن الرشيد في هذه الفترة بدأ يهتم بابنه المأمون أكثر من قبل، فأعطاه أمواله التي كانت برفقة الجيش والخزائن والسلاح وذلك عام (187 هجري)، وهي وسائل القوة في أية مواجهة محتملة مع أخيه في المستقبل، ولم يقف الرشيد عند ذلك بل أمره بمرافقته عند خروجه من العراق إلى الجبهة البيزنطية عام (190 هجري)، وأنابه عنه في حكم الرقة وفوض إليه الأمور، وكتب إلى الآفاق بالسمع له والطاعة، ودفع إليه خاتم المنصور.

في حين أن منطقة الجزيرة كانت تحت إشراف الأمين وليس المأمون، لذلك فإن في رواية المسعودي يفهم منها أنَّ الرشيد أراد أن يجعل المأمون ولي عهد أول بدلاً من الأمين، لكن كتلة بني هاشم كانت تميل إلى الأمين، ولهذا صرف النظر عن فكرته في وقتها، لكن الفكرة تجددت لديه والرشيد في خراسان عندما استدعى الحسين بن مصعب (والد طاهر)، وطلب منه مبايعة المأمون، ولهذا عزل والي خراسان علي بن عيسى بن ماهان.

وعند مسير الرشيد إلى منطقة خراسان عام (192 هجري)، ألح عليه المأمون أنّ يأخذه معه، وذلك بإشارة من الفضل بن سهل الفارسي (وكان أسلم حديثاً)، وفعلاً أخذه معه وأناب عنه في الرقة ابنه القاسم، أما في بغداد فأناب عنه ابنه محمد الأمين، إنَّ خطة الفضل بن سهل تعتمد بالدرجة الأولى على ضرورة ابتعاد المأمون عن بغداد حتى يمارس سلطته في خراسان، ومعه الأموال والسلاح والقادة والجيش، وليكون مهيئاً للااستقلال، خصوصاً أنَّ الوضع الصحي للرشيد كان في تدهور.

وربما كانت فكرة الرشيد أيضاً تستند إلى جعل إقليم خراسان إقليماً شبه مستقل ليكون سداً بوجه الإقاليم المضطربة فيما وراء النهر، وأكمل المأمون فيما بعد هذه الخطة، سواء في بقائه في مرو عاصمة إقليم خراسان طيلة مدة صراعه مع أخيه أو في تعيين طاهر بن الحسين والياً على خراسان، والسماح في تأسيس إمارة وراثية.

لقد تعددت تفسيرات المؤرخين المحدثين للحرب الأهلية بين الأمين والمأمون: التي دامت أكثر من خمس سنوات سالت فيها دماء كثيرة، وخربت بغداد العاصمة، وأكثر هذه التفسيرات تميل إلى اعتبار انتصار المأمون، ما هو إلا انتصار الفرس على العرب، باعتبار أن أنصار المأمون هم الفرس لكون أمه فارسية وأنصار الأمين هم العرب لكون أمه عربية.

لقد لاحظنا كيف التف حول الأميرين، الأمين والمأمون، الكتل والجماعات وكل كتله فيها عرب وغير عرب، فهناك روايات عديدة تشير إلى أنَّ الأمين حاول كسب الجند الخراساني إلى جانبه، وهي نفس خطة المأمون، وقد نجح في كسب خمسة آلاف مقاتل منهم، ونرى قائد جيش الأمين يُخاطب جيشه بـ (يا أهل خراسان) فضلاً عن أن الأمين يطلب من قائده أن يُعامل أهل خراسان خيراً، وأنَّ يعفيهم من ربع الخراج، وفي رواية تاريخية تظهر وزير الأمين الفضل بن الربيع وكأنه يتودد إلى أهل خراسان، وخاطب الجيش بـ (يا أهل خراسان)، فالجيش الخراساني نفسه إذن كان مقسم الولاء بين الأمين والمأمون.

لقد مرت الأقاليم العربية الإسلامية بظروف صعبة للغاية أثناء وبعد الحرب الأهلية حيث انتشرت وتوسعت الفوضى، وعدم الاستقرار السياسي، وانعدمت السلطة، وانتهزت العناصر المعارضة للحكم العباسي الفرصة للقيام بحركاتها ضد الحكم وتحت شعارات متعددة، وانتهز بعض بعض القواد العسكريين ورؤساء القبائل العربية الفرصة أيضاً لإحكام سيطرتهم على الأقاليم، يقول اليعقوبي: (وتغلب كل رئيس قوم عليهم، فم يبق بلد إلا وفيه قوم يتحاربون لا سلطان يمنعهم ولا يدفعهم). وقد أورد اليعقوبي قائمة طويلة بأسماء من تغلب على الأقاليم، فضلاً عن انشغال الخليفتين المأمون والمعتصم بالقضاء على الحركات السياسية طوال فترة حكمهما.

المصدر: ❞ كتاب موسوعة التاريخ الإسلامي العصر العباسي ت: خالد عزام ❝ د. خالد عزام صفحة (122 – 128).❞ كتاب أطلس تاريخ الدولة العباسية ملون ❝ مؤلفه سامي بن عبد الله بن أحمد المغلوث. ❞ كتاب تاريخ الدولة العباسية 132-656هـ ❝ مؤلفه د.محمد سهيل طقوش. ❞كتاب محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية الدولة العباسية ❝ مؤلفه محمد الخضري بك.


شارك المقالة: