فترة حكم السلطان سليمان الأول

اقرأ في هذا المقال


الدولة العثمانيّة في عهد السلطان القانوني:


قضت السنوات الأخيرة للسلطان سليم الأول في اسطنبول في ترسيخ سيادة السلطنة، مُستغلاً هيبة وعوائد انتصاراته الشرقيّة لذلك، فقط خلال فترة الحكم الطويلة لابنه وخليفته سليمان الأول (حكم 1520-1566)، الملقب بـ “العظيم” في أوروبا و “المشرع” (قانون) بين العثمانيين، كانت الأُسس التي وضعها السلطان سليم تُستخدم لتأسيس الدولة العثمانيّة الكلاسيكيّة والمجتمع والقيام بفتوحات جديدة مُهمة في الشرق والغرب.


نتيجة لسياسات والده ونجاحاته، تولى السلطان سليمان القانوني العرش بمنصب لا يضاهيه أي سلطان قبله أو بعده، لقد تُرك بلا معارضة وبقوة كبيرة على الطبقة التنصيريّة، وكذلك على بقايا الأعيان الأتراك.


لقد ضاعف فتح العالم العربي عائدات الخزينة دون فرض التزامات ماليّة إضافيّة مُهمة، تاركًا للسلطان سليمان ثروة وسلطة لا مثيل لها في التاريخ العثماني، ،كان عهده يُمثل ذروة العظمة العثمانيّة وكان يُنظر إليه دائمًا على أنّه العصر الذهبي للتاريخ العثماني.


كانت ساحات القتال الرئيسيّة للتوسع العثماني في أوروبا تحت حكم السلطان سليمان القانوني هي المجر والبحر الأبيض المتوسط، تمّ استبدال الأعداء الضعفاء في جنوب شرق أوروبا من أسلاف السلطان سليمان بسلالة هابسبورغ القويّة، والتي عززتها نداءات البابا في جميع أنحاء أوروبا ضد تهديد الإسلام (للمسيحيين).


كان الحليف الأوروبي الرئيسي للسلطان سليمان هي فرنسا، التي سعت إلى استخدام الضغط العثماني في الجنوب لتخفيف ضغط آل هابسبورغ على حدودها الشرقيّة، تركزت الحرب البرية مع آل هابسبورغ في المجر وخيضت على ثلاث مراحل رئيسيّة.


من (1520) إلى (1526) تحملت المملكة المجريّة المُستقلة العبء الأكبر للهجوم العثماني وعملت كحاجز بين الإمبراطوريّتين العظيمتين، لكن الملك الضعيف لويس الثاني ملك المجر وبوهيميا والفوضى الإقطاعيّة وسوء الحكم جعل الدفاع الموحد مُستحيلاً.


أدى الانقسام بين النبلاء المجريّين حول مسألة قبول حكم هابسبورغ، إلى جانب الانقسامات الاجتماعيّة والوطنيّة التي حفزها الإصلاح، إلى إضعاف المُعارضة للهجوم العثماني، ونتيجة لذلك، تمكّن السلطان سليمان من الاستيلاء على بلغراد عام (1521)، وفتح الطريق أمام تقدم واسع النطاق شمال نهر الدانوب، تمّ هزيمة الجيش الحقيقي الوحيد الذي استطاع النبلاء المجريّون حشده عام (1526) في معركة موهاج، وأنهى موت لويس الثاني الأمل الأخير لوحدة المجر واستقلالها.


تميزت الفترة الثانية من العلاقات العثمانية – هابسبورغ (1526-1541) بالحكم الذاتي المجري تحت حكم الملك المجري المناهض لهابسبورغ جون (يانوس زابوليا)، الذي وافق على سيادة السلطان سليمان في مقابل الحق في مواصلة الإدارة المحليّة والدفاع العسكري.


احتل أمير هابسبورغ فرديناند (لاحقًا الإمبراطور الروماني المقدس فرديناند الأول)، شقيق الإمبراطور شارل الخامس، المناطق الشماليّة من المجر بدعم من النبلاء المجريّين الأثرياء الذين رغبوا في مُساعدة هابسبورغ ضد العثمانيين.


لجميع الأغراض العمليّة، ضمهم إلى النمسا قبل التعهد بفتح ما تبقى من المجر في (1527-1528)، ردًا على ذلك، عاد السلطان سليمان من الأناضول لطرد آل هابسبورغ من كل المجر وحاصر فيينا عام (1529)، وهو جهد فشل بسبب صعوبة إمداد قوة كبيرة حتى الآن من المراكز الرئيسيّة للسلطة العثمانيّة.


بحلول عام (1533)، تخلى فرديناند عن مطالباته بوسط المجر واعترف بحكم يوحنا هناك باعتباره تابعًا عثمانيًا، بينما وافق السلطان سليمان على قبول فرديناند كحاكم لشمال المجر مقابل دفع الجزيّة السنويّة.


استمر هذا الترتيب حتى عام (1540)، عندما توفي جون وترك سيادته لفرديناند في تحد لاتفاقه مع السلطان سليمان، عندما حاول فرديناند أنّ يفترض إرثه بالقوة، احتل السلطان سليمان المجر وضمها عام (1541) من أجل الدفاع عن قضية ابن جون الرضيع، جون سيغيسموند زابوليا – ووضعها تحت الإدارة والحكم العثمانيين المباشرين لأول مرة، وهكذا بدأت الفترة الثالثة والأخيرة للعلاقات العثمانيّة – الهابسبورغيّة، التي اتسمت بالصراع الحدودي المُستمر، ومع ذلك، منعت عمليات التحويل على كلا الجانبين فترات طويلة من الحرب المفتوحة.


اتهم المؤرخون المسيحيّون فرانسيس الأول ملك فرنسا بتشجيع التوسع العثماني في أوروبا الوسطى لتخفيف ضغط هابسبورغ عليه، لكن لا ينبغي أنّ تُنسب التطورات العثمانيّة إلى المبادرات الفرنسيّة بقدر ما تُعزى إلى طموحات السلطان سليمان الخاصة، جنبًا إلى جنب مع مخاوفه من حكم هابسبورغ في المجر والتحالف المحتمل بين آل هابسبورغ والهنغاريّين والصفويّين.


اعتبر السلطان سليمان الملك الفرنسي إلى حد كبير طالبًا بمزايا تجاريّة، والتي تمّ منحها في مُعاهدة الامتيازات لعام (1536)، وهي اتفاقيّة تمّ بموجبها منح الرعايا الفرنسيين حرية السفر والتجارة في أراضي السلطان ورعايا الدول الأخرى الراغبة في القيام بذلك.


بالإضافة لتأمين الحماية الفرنسيّة، سُمح للتجار والمسافرين الفرنسيين وغيرهم في الإمبراطوريّة العثمانيّة بالبقاء تحت القوانين والمحاكم الفرنسيّة في القضايا المتعلقة بهم ومنحوا امتيازات خاصة في القضايا المُتعلقة بالرعايا العثمانيين.


وهكذا ترسخ أساس الهيمنة الفرنسيّة في بلاد الشام (المنطقة الواقعة على طول شرق البحر الأبيض المتوسط)، والتي بقيت حتى العصر الحديث، كانت الامتيازات بمثابة نموذج للاتفاقيّات اللاحقة بين العثمانيّين والقوى الأوروبية الأخرى، التي استخدمتها لاحقًا خلال قرون من الضعف العثماني كوسيلة للسيطرة على التجارة داخل السيادة العثمانيّة ولإخراج المسلمين واليهود الأصليين من السوق في لصالح من أتباعهم من أتباع الديانة اليونانيّة والأرمنيّة.


اتسمت حالة الجمود بين العثمانيين وهابسبورغ في شمال المجر بالصراعات التي استمرت لقرون على طول الحدود البريّة، أدت الغارات العثمانيّة الدوريّة على وسط أوروبا وما نتج عنها من دعاية أوروبيّة معاديّة للمسلمين إلى تحيز مسيحي ضد المسلمين بشكل عام والأتراك بشكل خاص؛ تعاطف العديد من الأوروبيّين مع رعايا الأقلية المسيحيّة من الأتراك، وهو شعور استمر حتى العصر الحديث.


تحول الصراع العسكري المنظم إلى البحر، حيث ظهر العثمانيّون لأول مرة كقوة بحريّة كبرى، أدى تراجع البحريّة الفينيسيّة إلى قيام تشارلز الخامس بالسعي للسيطرة الكاملة على البحر الأبيض المتوسط​، حيث جند كقائد بحري للبحار الجنوزي العظيم أندريا دوريا وبالتالي حصل على دعم أسطول جنوى القوي.


رد السلطان سليمان في عام (1522) بطرد فرسان رودس، وهو نظام ديني وعسكري مسيحي، من رودس، ولكن في عام (1530) أقامهم تشارلز في مالطا، حيث نظموا غارات قرصنة ضد السفن والشواطئ العثمانيّة وفي عام (1535) استولى على تونس.


أثناء توسع السلطان سليمان في الأناضول، استولت درية على عدد من الموانئ في نهر موريا وبدأت في الإغارة على السواحل العثمانيّة، وقطع معظم خطوط الاتصال البحريّة بين إسطنبول والإسكندريّة ومنع آلاف الحجاج المسلمين من الوصول إلى مكة والمدينة.


رداً على ذلك، التحق السلطان سليمان في (1533) بخدمته بصفته الأدميرال الكبير خير الدين (المعروف لدى الأوروبيين باسم بربروسا)، وهو قبطان تركي بنى أسطولًا كبيرًا للقراصنة في غرب البحر الأبيض المتوسط ​​واستخدمه للاستيلاء على الجزائر في (1529) وموانئ شمال إفريقيا الأخرى كجزء من الترتيب مع بربروسا، ضم العثمانيّون الجزائر العاصمة إلى الإمبراطوريّة العثمانيّة كمقاطعة تيمار خاصة مُخصصة بشكل دائم للأدميرال الكبير لدعم الأسطول.


تمّ إرسال القوات البريّة العثمانية للدفاع عن الجزائر العاصمة ضد هجمات هابسبورغ، والتي ربما كانت السبب الرئيسي لموافقة بربروسا على الانضمام إلى السلطان سليمان، بنى بربروسا أسطولًا عثمانيًا قويًا قادرًا على مواجهة آل هابسبورغ على قدم المساواة.


في عام (1537) شن هجومًا كبيرًا على جنوب إيطاليا، متوقعًا هجومًا فرنسيًا موعودًا في الشمال، بهدف غزو إيطاليا المشترك، لكن فرنسا، خوفًا من رد فعل أوروبي عدائي لتحالفها معهم، امتنعت عن التحويل.


ثم نظمت دوريًّا وقادت قوة بحريّة أوروبيّة متحالفة ضد العثمانيّين، لكنّها تعرضت للهزيمة في (1538) في معركة بريفيزا قبالة الساحل الألباني، ثم استسلمت البندقية موريا ودالماتيا، آخر ممتلكاتها في بحر إيجه، وبالتالي ضمنت التفوق البحري العثماني في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​الذي ظل دون انقطاع لمدة ثلاثة عقود.


فشل السلطان سليمان في متابعة طموحاته في أوروبا بعد عام (1541)، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى انشغاله المتزايد بالمشاكل في الشرق، قمع بلا رحمة دعاة وأنصار الصفويّين في شرق الأناضول وحفز الإمبراطوريّة الأوزبكيّة في ترانسكسانيا لمهاجمة إيران.


سقطت إيران في حالة من الفوضى بعد وفاة إسماعيل وانضمام ابنه الرضيع أحمد الأول، لكن السلطان سليمان لم يستغل هذا الوضع إلا خلال فترات السلام في أوروبا، قاد شخصياً ثلاث حملات في شمال غرب إيران، في الأعوام (1534-1535)، و(1548-1550)، و (1554)، وعلى الرغم من أنّه استولى على أراضي الصفويّة في منطقة جنوب القوقاز وفي العراق، إلا أنه لم يكن قادرًا على إلحاق الهزيمة بالجيش الإيراني.


خلال أشهر الشتاء كان السلطان يتوجه للأناضول، بسبب نقص الإمدادات، ممّا سمح للفرس باستعادة أذربيجان دون صعوبة تُذكر، أخيرًا يئس السلطان سليمان من هزيمة أعدائه المراوغين ووافق في عام (1555) على سلام أماسيا ، الذي احتفظ بموجبه بالعراق وشرق الأناضول لكنه تخلى عن المطالبات العثمانيّة بأذربيجان والقوقاز ووافق على السماح للحجاج الفرس الشيعة بزيارة مكة والمدينة وكذلك أماكنهم المقدسة في العراق.


وهكذا، فإنّ نفس المشاكل الجغرافية التي حدت من الفتوحات العثمانيّة في وسط أوروبا جعلت من أذربيجان الغربية الحد العملي للتوسع العثماني في الشرق، مما منع القضاء النهائي على الخطر الصفوي.


كان السلطان سليمان أكثر نجاحًا إلى حد ما في استعادة طرق التجارة الدوليّة القديمة من خلال ممتلكاته في الشرق الأوسط، لمواجهة الأسطول البرتغالي، الذي قدمه الصفويّون من موانئ الخليج العربي، بنى قواعد بحريّة رئيسية في السويس (1517)، وبمجرد أنّ استولى على العراق، في البصرة (1538)، أنشأ حاميات وأساطيل لم تقاوم فقط هجمات بحرية برتغالية لكنها هاجمتهم أيضًا في البحار الشرقيّة.


نتيجة لذلك، استعاد الطريق التجاري القديم بعض حجمه السابق في القرن السادس عشر، لم يكن العثمانيّون قادرين على استعادتها بالكامل، على أية حال، لأنّ البرتغال، باستخدام طريق بحري، كانت لا تزال قادرة على دفع أسعار أعلى في الشرق والبيع بأسعار أقل في أوروبا، وتجنب الرسوم الجمركيّة والرسوم المحليّة المفروضة على البضائع المرسلة برًا، عبر الأراضي العثمانيّة.


وتجدر الإشارة إلى أنّه على عكس الأساطير التي رددها العديد من المؤرخين الأوروبيّين، كان العثمانيّون هم من حاربوا للحفاظ على طريق التجارة القديم في الشرق الأوسط مفتوحًا؛ تمّ إغلاق الطريق فقط عندما تمّ الاستيلاء على طريق كيب من البرتغاليّين من قبل أساطيل أقوى بكثير من الإنجليزيّة والهولنديّة.


شارك المقالة: