الملك الفرعوني أحمس الأول:
كان أحمس الأول من أعظم ملوك مصر، وكان بطلاً من أبطال استقلالها وفارسها في طرد الهكسوس، وهو بالرغم من أنه أخو الملك كامس وابن سقننرع فإن مانيتون وضعه كما سبق القول على رأس عائلة جديدة. ولو أمعنّا النظر قليلاً لوجدنا أنه لم تكن هناك مندوحة من ذلك، لأنه بالرغم من أنه لم يحدث تغيير في البيت المالك إلا أنَّ مصر بدأت عصراً جديداً وهو عصر جدير بأن يكون فاتحة لعهد جديد وهو الأسرة الثامنة عشرة.
ويتفق بعض المؤرخين المحدثين إلى اعتبار هذا الملك وابنه أمنحوتب الأول من ملوك الأسرة السابعة عشرة، ويبدأ الأسرة الثامنة عشرة بالملك تحوتمس الأول، ولكن هذا الرأي لا يجد من أكثر العلماء قبولاً، ولو قبلنا منطق الأستاذ شارف نفسه وهو أنَّ أحمس الأول ليس إلا أخاً لكامس وابناً لسقننرع ويجب أن يتبع الأسرة التي يتبعانها، فإنَّ تحوتمس الأول أيضاً من العائلة نفسها، ولهذا يجب أنّ يكون من الأسرة السابعة عشرة أيضاً، هو وأولاده وجميع من أعقبوه حتى انتقال الملك إلى بيت آخر.
ومهما يكن من أمر فإنَّ تقسيم مانيتون للأسرات المصرية واعتبار قدماء المصريين أنفسهم أنَّ أحمس قد بدأ عصراً جديداً في تاريخهم، وذلك التغيير الكبير في الحياة المصرية بعد أن طردت الهكسوس وطهرت أرضها من المستعمر وبدأت صفحة جديدة في تاريخها يجعل بدء الأسرة الثامنة عشرة يبطل الاستقلال أمراً أقرب إلى المنطق وإلى الحق.
وإذا شاهدنا تاريخ الملك أحمس لوجدنا أنه بعد أن تم طرد الهكسوس وهزيمتهم في فلسطين التفت نحو الجنوب فقام بحملة إلى تلك البلاد لإعادة الأمن إليها، ولكن أثناء تغيبه هناك أراد بعض المصريين (وربما كانوا من سلالة الهكسوس أي ممن كانوا موالين لهم)، القيام بثورة فعاد وقضى عليهم ولم نسمع بعد ذلك بأية محاولة أخرى. وامتد حكم هذا الملك إلى أربعة وعشرين عاماً قضاها في إصلاح البلاد وتوطيد النظام وتعمير المعابد وبخاصة في طيبة وأبيدوس.
وقبل أن نترك عصر هذا الملك يجب الإشارة إلى بضع نقاط تتصل به. فبالرغم من أنَّ هذه العائلة طيبية الأصل وأنَّ آمون هو الإله المحلي لطيبة فإنَّ (القمر)، كان يلعب دوراً كبيراً في حياة هذه العائلة، فإنَّ معنى كلمة أحمس هي (القمر (إعح) ولد)، وكذلك اسم أخيه كامس (كا)، وتكتب بشكل الثور كانت وثيقة الصلة بالقمر وعبادته، واسم أمه (إعح حوتب)، أي القمر مطمئن وتكتب بالأفرنجية في الغالب. كما أنَّ اسم تحوتمس نفسه يحتوي أيضاً على اسم الإله تحوت الذي لم يكن إلا إله القمر نفسه.
ومما يُلفت النظر في تاريخ هذه الحقبة من تاريخ مصر ذلك النفوذ الكبير الذي كان لسيدات هذه الأسرة، وهو نفوذ نحسه فيما كان لهن من نعوت وأوصاف وما كان يقوم به الملوك لتخليد ذكراهن. وأظهر نساء هذه الأسرة ثلاث لعبنَ دوراً كبيراً في حرب الاستقلال وبعث روح المقاومة في العائلة، أولاهن الملكة (تتي – شري)، جدة الملك أحمس التي ظل وفياً لذكراها إلى آخر سني حياته، وأقام لها في أبيدوس أثراً كبيراً ليكون مدفناً مؤقتاً لها، ووضع فيه لوحة أبقى عليها الزمن لتقص علينا قصة وفائه لذكراها. أما ثانية هذه السيدات فهي الملكة (إعح حوتب)، التي يظهر أنها لعبت دوراً رئيسياً في الحرب وكان لها أثناء حياة ابنها المقام الأول. فإنه كتب عنها في لوحة الكرنك:
(عظموا سيدة البلاد، وسيدة جزر البحر الأبيض، فاسمها محترم في جميع البلاد الأجنبية وهي التي تضع الخطط للناس. زوج الملك وأخت الملك عاشت (متمتعة)، بالحياة والسلامة والصحة. وهي أخت ملك وأم ملك، هي العظيمة القديرة التي تهتم وتطلع بشؤون مصر. وهي التي جمعت جيشها وحمت الناس، وأعادت الهاربين ولمت شتات المهاجرين وهدأت ما حل بالصعيد من خوف، وأخصعت من كان فيه عصاة الزوجة الملكية (إعح حوتب)، لها الحياة).
وقد أهتم بعض المؤرخين، وبخاصة المؤرخ الألماني الكبير إدوارد ماير، أن يرى في ألقاب هذه الملكة ما يسمح له بأن يقول إنها ربما كانت أصلاً من كريت وأنها تزوجت من ملكها، لأنَّ كريت كانت مركز حضارة جزر البحر الأبيض المتوسط. وأراد أن يرى في نقوش حليها التي عثر عليها في قبرها ما يؤيد كلامه إذ أنَّ بعض هذه الحلي، وعلى الأخص خنجرها، بالرغم من أنها مصرية الصناعة إلا أنَّ أثر الفن (الإيجي)، ظاهر في شكلها وزخارفها.
وليس من الممكن أن يكون شعب جزر البحر الأبيض المتوسط توطدوا مع بيت طيبة، وقدموا شيئاً من المعونة في حصار الهكسوس وأنَّ نتيجة هذا التحالف كانت زيادة التجارة بين أهل كريت وأهل مصر. وليس من المستبعد أيضاً أن تكون الملكة (إعح حوتب)، لعبت دوراً مباشراً وهاماً في هذا الأمر كما نستشفه من ألفاظ لوحة ابنها أحمس.
أما ثالثة السيدات العظيمات فهي (أحمس نفرتاري)، التي تزوجت من أخيها كامس ثم من أخيها أحمس وظل نفوذها كبيراً في أيام ابنها أمنحوتب الأول. وما زلنا نجهل حتى اليوم السبب الذي جعل المصريين منذ أواخر الأسرة (18)، وفي خلال الأسرات (19)، حتى الأسرة (21)، ينظرون إليها نظرة عبادة واحترام، وأقاموا لها معبداً في طيبة وجعلوا منها ومن ابنها أمنحوتب الأول إلهين حاميين للجبانة، وكانوا يرسمونها على جدران كثيرة من مقابرها. أما الملك أحمس الأول فقد ألههاً للمصريون أيضاً، ولكن كان لعبادته شأن في أبيدوس أكبر من شأنها في طيبة.
وأبقى الزمن على كثير من مومياوات ومقابر وآثار بعض موظفي هذا الملك ولهذا أصبح من الميسور لنا معرفة الكثير عن حالة البلاد الاجتماعية في أيامه أما مومياؤه هو فقد سلمت من العبث وهي الآن في المتحف المصري. وقد فحص إليوت سميث هذه المومياء، ونعرف من بحثه أنه قد قدر له عمر الأربعين عند موته أي أنه تولى الملك وهو في الثامنة عشرة، وكان طوله (163.5 سم)، وليس يُدهشنا أن يكون أحمس قد مات في عمر مبكر فإنَّ أمه عاشت عشرة سنوات بعد وفاته.
الملك الفرعوني أمنحوتب الأول (1526 – 1546 ق.م.):
مات أحمس الأول قرير العين وخلفه على العرش ابنه أمنحوتب الأول وكان يافعاً، فقامت أمه (أحمس نفرتاري)، بعبء كبير في معونته كما فعلت الملكة (إعح حوتب)، مع أبيه أحمس من قبل.
وورث هذا الملك الصغير صفات أبيه وجده، وما لبث أن خرج على رأس جيشه ليرى أطراف ملكه في شمالي السودان، وفي سورية وفي ليبيا، كما نعرف ذلك من تاريخ حياة القائدين (أحمس بن إبانا)، و (أحمس بن بننخبت). ولم يكن هناك ما يدعو لأن يستمر الملك الشاب في حروبه، فإنَّ مصر وما جاورها من البلاد ظلت هادئة، وظلَّ أمنحوتب في سياسته الإنشائية يعمر المعابد ويزيد في رخاء البلاد طيلة الأعوام الواحد والعشرين التي قضاها على العرش، وقد بقي من أيامه بعض آثاره في الكرنك، وبخاصة هيكل من المرمر أعيد تركيب أحجاره في السنوات الأخيرة.
أما قبر أمنحوتب فليس لدينا شك في أنه كان في دراع أبو النجا كما جاء في بردي أبيوت، وأنَّ عمقه كان أكثر من ستين متراً، وسواء أكان قبر الملك أمنحوتب الأول هو الذي كشفه كارنارفون في عام (1914)، أو لم يكن، فإنَّ هذا الملك كان أول الفراعنة الذين فصلوا بين قبرهم وبين المعبد الجنازي، لأنَّ جميع الملوك السابقين كانوا إما يدفنون داخل أهرامهم أو كانوا يدفنون في مقابر تعلوها أهرام مثل مقابر الطارف.
وكان أمنحوتب صاحباً برعيته طيلة السنوات الواحد والعشرين التي قضاها على العرش، ولأمر ما ظل عمال الجبانة في طيبة قروناً عدة بعد وفاته يعبدونه ويقدمون له القرابين، بل كان هناك تقليد خاص وهو أنَّ كهنة معبده في تلك الجبانة كانوا من العمال أنفسهم. ولم يكن هناك مركز واحد لعبادته بل عُبِدَ في أماكن متفرقة وفي أشكال عدة.
ومما هو مهم بالذكر عنه، له رابطة بعهد هذا الملك، أنه منقوش على وجه بردية إيبرس الطبية بيان بعدد من الأعياد مع تاريخ الاحتفال بها، ومن دراسة علماء الفلك لهذه البردية أمكن تحديد السنة التاسعة من حكمه بأنها وقعت في عام (1536) قبل الميلاد. ومات أمنحوتب الأول دون أن يترك ولداً ذكراً من بعده ليخلفه على العرش فسبّب ذلك شيئاً من الاضطراب في الوراثة، وانتهى الأمر بتولي الملك تحوتمس الأول عرش البلاد.
ولم يكن تحوتمس ابناً لأمنحوتب الأول ولكنه كان أميراً من أمراء البيت المالك وتزوج من الأميرة صاحبة الحق في الوراثة للملك وكانت تُسمى (أحمس)، وهي ابنة أمنحوتب فأصبح له الحق في ولاية العرش دون اعتراض. كان (تحوتمس)، أول فراعنة مصر المحاربين، وهو الذي خطى الخطوة الأولى في تشييد صرح الإمبراطورية المصرية. وقبل أن نتحدث عنه أو عن أعماله يحسن بنا أنّ نتحدث قليلاً لنلقي نظرة عابرة على بلاد الشرق الأدنى القديم لنعرف ما كانت عليه عندما تولى تحوتمس الأول عرش وادي النيل.